جامعة كربلاء/ كلية التربية للعلوم الإنسانية                                                   ي                 2022/ 2023      
قسم الجغرافية التطبيقية
الدراسات العليا/ الدكتوراه
___________________________________________
 
مقال بعنوان
ماذا تعني لك الجغرافيــــــــــــــــــــة
لكل علم من العلوم مادة وصورة؛ فالمادة هي الموضوع الذي يتناوله العلم بالبحث؛ والصورة هي مجموع العمليات الفكرية التي يطبقها العقل في دراسة تلك المادة، ونقصد بهذا ان لكل علم موضوعا يبحث فيه ولكي نصل الى معرفة حقيقة هذا الموضوع لا بد من طائفة من العمليات العقلية التي يقوم بها العقل ولا تختلف العلوم بعضها عن البعض الاخر في هذا الشأن الا في نسبة كل من هذين الجانبين الى الاخر فبعضها أكثر صورية وبعضها أكثر مادية. ومن هذا المنطلق لا بد لنا ان نعرف موقعنا ونوضح ميدان اختصاصنا بشيء من التحديد؛ فالجغرافية تضع قدما في العلوم الطبيعية وأخرى في العلوم الإنسانية؛ انها في موقع بيني (بين فروع العلم المختلفة)، تمثل صلة الوصل بين الظواهر الطبيعية والظواهر البشرية وتدرس العلاقات القائمة بينهما ومن ثم فأن نتاج التفاعل والتكامل والترابط بين هذه الظاهرات المختلفة داخل إطار المكان هو موضوع الجغرافية. (1) فالجغرافي لا يدرس العنصر الطبيعي او الحيوي او البشري كلا على حدة بل يدرس هذه العناصر كلها مجتمعة ويربط بينها لان مثل هذا الربط هو المسؤول عن وجود المظهر العام (اللاندسكيب) الذي يتسم به المكان. وبهذا تصبح للجغرافية منهجيتها وشخصيتها المتميزة التي تنفرد بها عما سواها ذلك على اعتبار انها تتجه الى ترتيب الظاهرات في المكان، مختلفة بذلك عن العلوم الطبيعية التي توجه اهتمامها الى دراسة العلاقة بين الأشياء المتشابهة.
فالجغرافية علم في غاية التعقيد لاعتماده على العلوم الأخرى وعملية البحث في الجغرافية تحتاج الى جهود كبيرة للإلمام بكثير من فروع المعرفة هذا فضلا عن الصعوبة التي تتمثل في كيفية صهر هذه المعارف المتنوعة ونسج خيوطها بدقة ومهارة بحيث لا تجعل القارئ يشعر بوجود نوع من التركيبة المفتعلة. فهي تحقق ذاتها وتمارس من خلال القدرة على التحليل والتركيب، الامر الذي يسفر عن نتيجة او نتائج مفيدة تنتفع بها مصالح الحياة في الأرض وفي هذا المثل نتبين كيف تبدأ اهتمامات الاجتهاد الجغرافي عندما تنتهي مهمة أي علم متخصص ويعطي خلاصة النتيجة التي توصل اليها الأداء الوظيفي المتخصص في هذا العلم وكيف يطوع الجغرافي ويطوره ويضيف الى هذه النتيجة فتكون نتيجة جديدة. ومن هذا المنطق الموضوعي ينبغي ان ندرك كيف أصبحت النظرة المنبثقة من الاجتهاد الجغرافي في استخدام القدرات التحليلية والتركيبية في دراسة ظاهرة معينة نظرة موضوعية وعلمية من حيث الجوهر، ومطلقة بغير حدود من حيث الهدف. (2) وان الظاهرة سواء أكانت طبيعية ام انسانية (بشرية) لابد من ان تكون محسوسة لها صفة التوزيع المساحي الافقي وحتى العمودي وهي ظاهرة جغرافية، موزعة والجغرافي يتابع توزعها ويقصر وصفه عليها بنمط توزعها ووصف مستويات تباين التوزيع المكاني تأتي هنا ملاحظة مهمة ان الوصف لا يكون إلا لحالة التوزيع وتبايناته، ودون ذلك هو ما يوصف بترف استطلاعي وليس جغرافي. إذا مهما يكون نوع الظاهرة المدروسة، فحتى تصبح دراستها جغرافية لابد من تحديد المكان والزمان لها (أي دراستها في المكان والزمان)، ولا يصح البحث الجغرافي مطلقا الا بتحديد هذين البعدين او الاتجاهين، وقد جرى التركيز في الدراسات الجغرافية الحديثة على هذين الاتجاهين المترابطين (زماني- مكاني) (زمكاني)، ويعني ذلك فحص الظاهرة خلال الزمن أي فحص تغيرها لكل سنة وفق تفاعلها المكاني أي فحص التغير بين ماضي الظاهرة وحاضرها.
الجغرافية هي ميدان معرفي يحتوي المكان بفلسفته العلمية الشمولية ويحلله ويصفه ويعبر عنه بدراسة نظمه المختلفة ويقود الى مخرجات علمية عبر استخدام أحدث التقنيات والأدوات البحثية، فالجغرافية تمثل ميدان الدراسة والبحث في كل من التوزيعات المكانية لمختلف الظواهر الطبيعية والبشرية والعلاقات المكانية المتبادلة بين تلك الظواهر والبحث في مدى وجود الظاهرة وانتشارها وتباينها المكاني وكثافتها وتعاقبها والتنبؤ باتجاهاتها فهي علم تحليلي تركيبي ومعرفة متطورة ذات طبيعة شمولية متباينة زمانيا ومكانيا. (3) فقد استغرق الجغرافيون كل تفكيرهم في عمليات التنظير العلمي حتى أدى بهم الى استيراد أنظمة التحليل المناظرة في العلوم الطبيعية البحتة لقياس الظاهرات الجغرافية المناظرة للظاهرات الموجودة في العلوم البحتة حتى السلوكيات البشرية مما أدى الى تبني منهجيات جديدة تصحح مثالب منهجيات الحركة الوضعية (المنهج الاستقرائي، والاستنتاجي، والتناظر الجزئي) مثل المنهج السلوكي والبنيوي والتي تهتم بصناعة القرارات الفردية والجماعية وبيئة صناعة القرار وشمولية التفكير العلمي.(4) ومن هنا تتحدد فلسفة الجغرافية في انها تهدف الى شرح الانماط المكانية وتستكشف العلاقات فيما بينها واوجه التباين والتشابه بين الأقاليم المختلفة في البيئات بعناصرها الطبيعية والبشرية داخل البيئة وهي بذلك تؤكد مبدأ الارتباط الذي يثمر في فهم العلاقات التأثيرية والتأثرية بين الانسان وبيئته، والجغرافي بعد ان يوضح النمط التوزيعي لأي ظاهرة يحاول ان يجد الإجابة الدقيقة والمنطقية والشاملة لعدة أسئلة ابرزها (اين؟ ولماذا هناك؟) يعني اظهار علة توزيع الظاهرة بأنماط مكانية مختلفة، لماذا هذا الاختلاف؟ ولماذا هذه الصورة المكانية؟ ماهي علاقتها وهي تتغير، وللإجابة على هذا التساؤل نستطيع ان نقول ان الجغرافية علم يتطلب البحث المتأني وليس التعميم المتعجل وهي لا تسعى الى سن قوانين تحكم علاقة البشر ببيئتهم بل تعيد تجميع الحقائق وترتبها تمهيدا لمقارنتها في أقاليم الأرض المختلفة ثم تصل في النهاية الى تحليل جزئي وحذر للحقائق الجغرافية دون ان تضع فروضا تحدد شكل النتائج، هذا الامر يفسر الحالة الانتشارية للظاهرة ومستويات الانتشار بأنماط مكانية وان كل نمط مرتبط بظروفه المكانية هنا يتطلب من الجغرافي ضبط العوامل الموجهة لصورة الانتشار بأنماط مكانية للظاهرة.(5)  وبعد وضوح توزع الظاهرة بأنماط مكانية متباينة ثم تعليل او تفسير ظهورها مكانيا بصورتها الجغرافية ، يأتي دور الربط المكاني للظاهرة المعنية بالظواهر الاخرى وكشف مستوى العلاقات بين الظواهر لمعرفة نظامها المكاني العلائقي وبهذا الاسلوب المنهجي تتحقق الفرضيات وتتكشف نظريات وتعد قوانين تتحكم بالمكان الجغرافي (6) حيث إن الجغرافي يتخصص في عدم التخصص، وقد وصف كذلك لأنه هو المتخصص الذي يضرب بجرية في العلوم كلها، يربط الأرض بالناس، والحاضر بالماضي، والمادي باللامادي، والعضوي بغير العضوي، ويكاد يتعامل مع كل ما تحت الشمس وفوق الأرض، من خلال وجهة نظر موحدة وأصيلة، هي الإقليم والفكرة الإقليمية .
فالجغرافية تعني الوظيفية والتفسير الوظيفي؛ حيث تعمل الوظيفية على فكرة ان التحليل والفهم يجب ان يحللا ويفسرا الظواهر المنفردة تأسيسا على علاقتها بأغراضها المفترضة حيث يرتبط التفسير بالغرض من الظاهرة في حين يرتبط التفسير الوظيفي بوظيفتها، حيث توجد سلسلة من الظواهر التي يستحسن وصفها وتحليلها بإسنادها الى نسق او وحدة وذلك لان الظواهر المنفردة يتوجب فهمها من منطلق الارتباطات الوظيفية وسلاسل العلل، وذلك لان جوهر الوظيفة يتمثل في نشاط المحافظة على النسق حيث يسمح المنهج الوظيفي في الجغرافية بتحليل مجتمعات تختلف فيما بينها اشد الاختلاف، كونه يؤكد خصائصا الوظيفية الأساسية التي يفترض انها تظهر بدورها في خصائص بنيوية متجذرة وثابته نسبيا، وتأسيسا على ما تم ذكره يمكن استخدام كل اشكال التحليل والتفسير فجوانب العلة والمعلول والتفسيرات الزمنية والوظيفية تبصر جميعها بالحقيقة، وهذا الاستنتاج يكافئ الانفصال عن حقائق فلسفة العلم وربما يقودنا أيضا الى اعتبار تبدل المثل عند كون مرحلة انحسار في التفكير العلمي انطلاقا من وصفنا السابق للاختيار من بين المثل على انه تقبل لعقيدة، تلك العقيدة تمثل اختيارا لفلسفة واتخاذ موقف حيال البحث نرى بان على الفرع العلمي الذي ننتمي اليه ان يهتدي بهما على وجه العموم.(7) فالجغرافية تتميز بانها ذات نظرة شمولية، ينفرد بها الجغرافي في رؤية الحقائق والعلاقات، مجتمعة في إطار المكان ولكن الشمولية لا تعني تجميعاً لعناصر متفرقة، إنما هي خلية تنبض بقوانينها الخاصة، التي تشكل طبيعتها وطبيعة مكوناتها الأساسية، حسب تعريف (بياجيه). فالجغرافية تكاد تنفرد بين العلوم الأخرى، من حيث دراستها لخليط من الظواهر المتنافرة، التي تقوم بتصنيفها. والتوليف بينها، لتستطيع أن تقدم لنا صورة واضحة متكاملة عنها. فالجغرافية ذات فلسفة متميزة، تقف على النقيض من العلوم المتخصصة، بطريقة النظر إلى الأشياء مجتمعة، وتعد بمثابة حركة تصحيحية للعلوم المتخصصة، وتلتقي على صعيد واحد مع الفلسفة الداعية إلى إذابة الحواجز الظاهرية، وإزالتها قدر المستطاع، بين العلوم المختلفة، بحيث تحل العلوم المتداخلة، المندمجة والمتكاملة محل العلوم المتعددة والمنفصلة. كما انها نظرة تكاملية، تنظر إلى العلاقة بين الإنسان والبيئة نظرة تكاملية، كاللحمة والسداة، وبتعبير آخر، ترى أن المكونات الحية وغير الحية تعمل مجتمعة كوحدة متكاملة، وفقاً لقوانين طبيعية وأحيائية. على اعتبار أن الاثنين طرفان في ذلك الكل المثال، الذي يؤلف وحدة تخفي تحتها كثيراً من العناصر المتباينة المتشابكة. وهذا يعني أن الجغرافية تلجاً إلى تطبيق (المنظار المزدوج) على صورتنا الفكرية الشاملة المتكاملة، علماً بأن ما ينبغي أن نربطه هو جوانب عديدة لا جانبان فقط.(8) كما ان النظرة البيئية التكاملية في الجغرافية، تتميز مما سواها في العلوم الأخرى، إذ إنها تشكل جزءاً هاماً من منهجها، كما أنها تحفظ للجغرافية وحدتها؛ ذلك أن إغفال دراسة العلاقة بين عناصر الجغرافية المختلفة إنما يؤدي إلى أن تصبح الجغرافية أشتاتاً غير مرابطة من العلوم الطبيعية والبشرية، كما تعرض الجغرافي إلى التعدي على هذه العلوم الأصولية، فالرابط الوظيفي والتفاعل البيئي بين الظاهرات المتنافرة يضمن وحدة العلم الداخلية. فالجغرافية تعتمد على منهج علمي مكون من مجموعة من التقنيات التي تستخدم في التحقيق عن الظواهر وذلك من خلال استغلال ما هو جديد في المعرفة العلمية فضلا عن تصحيح وتكامل المعرفة السابقة بناءا على تجارب جديرة بالملاحظة وأدلة ملموسة وتخضع لقوانين فكرية، فتنوع التخصصات جعلها تختلف عن بعضها في التحقيق وذلك لوجود سمات محددة تميزها عن بعضها في التحقيق العلمي وذلك لتطور أساليب المعرفة، وذلك بالاعتماد على نظريات تشمل كل مجالات التحقيق وتفيد في جعل المشكلة اكثر تحديدا، وتكون الفرضيات مترابطة ومنطقية وهذا بدوره يساعد على تشكيل فرضيات جديدة، ووضع مجموعة من الافتراضات المحددة في إطار أوسع لفهم مظاهر أخري تتقاسمها مختلف مجالات التحقيق، بحيث تكون النتائج منسجمة مع الهدف الذي تطمح أليه الدراسة بدون تحيز أو تغيير في النتائج ،ويتحقق ذلك من خلال الاستفادة الكاملة من توثيق البيانات والمنهجيات المتاحة من قبل علماء وباحثين آخرين، مما أتاح الفرصة في التحقق من النتائج من خلال وضع مقاييس إحصائية عالية الثقة.(9)


  1. صفوح خير، الجغرافية (موضوعها ومناهجها وأهدافها)، ط1، دار الفكر المعاصر، بيروت، 2000.   – صلاح الدين الشامي، الفكر الجغرافي (سيرة ومسيرة) ، ط1، المعارف للنشر والتوزيع، الإسكندرية، 1999.
  2. مجيد ملوك السامرائي، الجغرافية وافاقها العلمية، ط1، مطبعة ماجد للنشر والتوزيع، بغداد، 2011.
  3. فتحي محمد مصيلحي، الجغرافية البشرية بين نظرية المعرفة وعلم المنهج الجغرافي، ط2، مطبعة جامعة المنوفية، مصر، 1994
  4. فتحي محمد أبو عيانة وفتحي عبد العزيز أبو راضي، أسس علم الجغرافيا الطبيعية والبشرية، ط1، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 
  5. محسن عبد الصاحب المظفر، فلسفة علم المكان، ط1، دار صفاء للنشر والتوزيع، عمان، 2005.
  6. اريلد هولت ينسن: ترجمة: عوض يوسف الحداد، الجغرافية؛ تاريخها ومفاهيمها، منشورات جامعة قازيونسن، بنغازي، 1979.
  7. صلاح الدين الشامي، الفكر الجغرافي (سيرة ومسيرة)، ط1، المعارف للنشر والتوزيع، الإسكندرية، 1999.
  8. عوض يوسف الحداد، دليل للبحث الجغرافي العلمي، ط1، منشورات جامعة قازيونس، بنغازي، 2003.
  9. خلف حسين علي الدليمي، الاتجاهات الحديثة في البحث العلمي الجغرافي، ط1، دار صفاء للنشر والتوزيع، عمان، 2006.

شارك هذا الموضوع: