ما امتازت به النجف

أ.د.عدي حاتم المفرجي
جامعة كربلاء –كلية التربية للعلوم الانسانية –قسم التاريخ
اختلف المعيار الاجتماعي في مدينة النجف عن بقية المدن العراقية الاخرى، فسكان تلك المدن يعتمدون المعيار الاقتصادي او الاجتماعي ، بينما النجفيون اعتمدو على المعيار الثقافي والفكري ،فحتى أولادهم سموا بأسماء الكتب العلمية والمعروفة فنجد اسم (كافي) اشارة لكتاب (الكافي) و(كفاية) اشارة لكتاب (كفاية الأصول) و(نهاية) اشارة لكتاب (النهاية) وهذا الامر يرجع الى الأساسين اللذين ضربا المجتمع واحدثا تغير ايجابياً ملموساً وهما (الدين والادب) الذين التقيا في مجرى واحد وهو التطور الاجتماعي، فأخذ النجفيون يطالعون الصحف والمجلات العراقية والعربية والاجنبية كصحيفة (الزهور) ومجلة (لغة العرب) البغداديتين ومجلة (جبل عامل) و(العرفان) اللبنانيتين ومجلة (حبل المتين) الهندية، ووصل تأثير الصحافة على المجتمع الى حد بعيد وأصبحت (غذاء النجف العلمي الحديث) .
وامتاز المجتمع النجفي بخاصية قل وجودها في المدن العراقية، فبسبب تنوع التركيبة السكانية من قوميات عديدة (العربية والفارسية والتركية والهندية) وحبهم للعلم، ظهر ادب هذه المدينة ممتزجاً بعصارة ادب تلك القوميات، بل ظهرت خاصية اخرى وهو معرفتهم اكثر من لغة، فنجد النجفي يعرف التحدث ببعض اللغات (العربية والفارسية والهندية والانجليزية والتركية)وهذا الامر له دور واضح في ادراكه لبعض المذاهب والعلوم والثقافات المختلفة.  ومن المظاهر الاجتماعية التي اختصت بها مدينة النجف هي (المجالس) التي كان لها أثر فكري سياسي في الشخصية ، لما يدور في تلك المجالس من معالجات ومطارحات تشارك فيها معظم فئات المجتمع ، وتقسم المجالس الى (مجالس الافتاء) ويقصد بها المجالس التي يقصدها علماء الدين والتي تجاب من خلالها على الأسئلة الدينية الواردة اليهم من العراق وخارجه حتى سميت (مجالس الفقهاء) ،و(المجالس الأدبية) وهي المجالس التي تناقش صنوف الادب وفنونه، وتتسم بالكثرة اذ لا تخلو أسرة علمية من هذا المجلس، ولهذا النوع من المجالس دور في بلورة الوعي الفكري اذ تطرح فيها الأفكار المتنوعة بما فيها الاراء السياسية وسميت ايضا (الدواوين) والنوع الاخر من المجالس هي (مجالس الوعظ والعزاء الحسيني) وهي  المجالس التي تعقد لأجل وعظ الناس وارشادهم الى الشريعة الاسلامية فضلاً عن مجالس العزاء للأمام( الحسين بن علي بن أبي طالب) (عليهما السلام).وأشهر الأسر العلمية التي اقترنت أسمها بتلك المجالس هي (ال بحر العلوم وال البراقي وال الحسني البغدادي وال الحكيم وال الحلو وال الحمامي وال الخرسان وال الرفيعي وال الطالقاني وال العاملي وال كاشف الغطاء وال محبوبة وال الطريحي وال الشرقي وال سميسم وال الخليلي وال الجواهري وال حرز الدين وال الجزائري وال الأعسم وأصبحت مجالس هذه الأسر بمثابة أندية اجتماعية أدبية. وكان (للصحن الحيدري الشريف) أثر اجتماعي ساعد على بلورة وعي ثقافي سياسي لدى أبناء المجتمع ، ففي هذا المكان كان الاهالي على اختلاف مشاربهم الفكرية يتحلقون للنهل من معينه، فهنا وهناك تقف حلقة التجار والنجارين والحدادين والحيكة والنقاشين الى طلبة العلوم ثم الأدباء، ولا يختص هذا الأمر عل الرجال فحسب، فللنساء مكان يجتمعن فيه للمناقشة، وهذا المزيج له دور في تنمية الفكر عند الفرد النجفي بسبب الحوار والنقاش الدائر التي تصب على القضايا الاجتماعية والاقتصادية، وبخاصة بعد سماعهم اخبار معظم المدن العراقية عن طريق الجنائز القادمة لمدينة النجف والتي تزور الامام قبل ان تدفن، وهؤلاء الجنازون ينقلون اخبار مدنهم ولا يقتصر الأمر عليهم فحسب بل الزوار القادمين لزيارة قبر الامام وبخاصة اذا كانوا من الأجانب، فهؤلاء الزائرون ينقلون الأخبار والحوادث، ولهذا المكان المبارك أثراً في تنوير العقول بسبب تجمع السياسيين على اختلاف اتجاهاتهم ،بل ويزاولوا نشاطهم من تخطيط لعقد حزب أو تظاهرة أو اتخاذ قرار أو الخطب السياسية، فأصبح المكان بمثابة منتدى ثقافي يعليه روح التفاهم والوئام.
وكان لرجال الدين دور في الوعي الفكري والسياسي في هذه المدينة إذ كان لهم السبق في اعتناق وبلورة القيم السياسية بالبحث والتمحيص واخراجها بثوب الاجتهاد الذي لا يصطدم بالدين، فضلاً عن ريادتهم لبعض ظواهر التجديد الأدبية التي أصبحت خاصية امتازت بها مدينتهم ودفع هذا الأمر الى ظهور الجمعيات  ساعد على بلورة وعي سياسي فيما بعد، وهذه الجمعيات والنوادي السياسية والأدبية والاجتماعية وان اختلفت في المسالك وتباينت في المناهج والاتجاهات، فان لها غرضا واحداً يتمثل في خدمة الناس وبناء كيان الأمة ورفع شان البلد والنهوض به الى المستوى الذي يجعل من أبنائه ادوات للاصلاح نافعة لمجتمعهم، كل في مجال عمله ،ليتسنى للأمة ان تحصل على ما ترومه من تقدم ومنزلة سامية تتوخى الوصول اليها، والمدة ما بين 1905 وحتى الحرب العالمية الأولى ظهرت (نقابة الاصلاح العلمي) عام 1905 وغرضها اصلاح مسائل الدراسة وتقويم الجامعة الدينية واصلاحها و(جمعية الاتحاد والترقي) التي أسست عام 1908 وهدفها الاصلاح والتجدد في العلوم المختلفة و(جمعية اخوان الصفا) عام 1908 وهدفها الاصلاح ونشر الثقافة بين المجتمع و(جمعية العلم) أسست عام 1908 وهدفها نشر العلوم والمعارف و(الهيأة العلمية) عام 1908 وهي تدعم الأفكار الدستورية وتنشيط العلوم،وفي ثنايا الحرب العالمية الاولى ظهرت (جمعية النهضة الاسلامية) أسست أواخر 1917 واعمالها ضد الاحتلال البريطاني. وهناك عشرات المظاهر التي امتازت به عاصمة التشيع الاولى .
 

شارك هذا الموضوع: