ما بعد كورونا: رؤية جغرافية
م.د فرقان النصراوي/ قسم الجغرافية التطبيقية/ جامعة كربلاء
تتعاضد الدراسات الجغرافية المختلفة على دعم المخططين بالخبرة والمعرفة اللازمة, آخذة بمجامع العوامل الطبيعية والبشرية والتفاعل فيما بينها في رسم صورة للمكان هي الاقرب للواقع, وحينما يكون التخطيط لأجل التنمية فهي الأدق في اعتبار البعد البيئي وإدخاله كعنصر رئيس في التخطيط المستقبلي للمدن, مؤكدة على لزوم الأخذ بمبدأ الاستدامة في التنمية الحضرية للمستقبل نظرا لارتباط معظم الآثار والتأثيرات البيئية بالمدن أكثر من الارياف, ومنها فايروس كورونا الذي تركز في المدن التي تعتبر المراكز الصناعية والاقتصادية الاولى في العالم خلافا للأرياف التي تكاد تخلوا منه, وبسبب تكرار حدوث الازمات الصحية المتلاحقة في الآونة الاخيرة, وجب الاخذ بأسلوب التنمية الحضرية المستدامة التي لا يصار اليها إلا بعد الاحاطة بالمتغيرات البيئية المتسارعة التي يواجهها عالمنا المعاصر والمستقبلي, أن الجائحة العالمية كوفيد 19 التي يواجهها العالم اليوم جعلت المخططين أمام تحد حقيقي وألزمتهم أن يعيدوا النظر بمدن اليوم سواء في مواجهة الأوبئة ومقاومتها أو في آلية تفاديها والحد منها.
وفي معرض ذلك تجدر الاشارة إلى أن فيروس كورونا كتحد عالمي مثل اختبار ليس لأنظمة وآليات تخطيط الرعاية الصحية التي تمتلكها الدول النامية بل والمتقدمة وسرعة استجابتها لمواجهة الامراض المعدية والأوبئة العالمية, بل أيضاً لقدرات الشعوب والمجتمعات المحلية والعالمية على العمل سويا كمجتمع واحد في مواجهة تحد مشترك, وبالتالي فهو اختبار لمدى بلوغ منافع عقود من التطور الاجتماعي والاقتصادي إلى أولئك الذين يعيشون على هوامش مجتمعاتنا، وربما ستكون الأشهر القادمة بمثابة تحدي للتخطيط الوطني للأزمات وأنظمة الحماية المدنية وستبين قطعا عن أوجه العجز المبطنة في المرافق الصحية وعناصر أخرى تبين الآثار المترتبة على عمل الوحدات ضمن القطاع الصحي في كيفية استجابتها لمواجهة هذا الوباء، آخذين بنظر الاعتبار قدرة هذا الفيروس على تدمير النظام الصحي من خلال غمره بأعداد كبيرة من المرضى في آن واحد، بما يمنع المستشفيات او يحد من قدرتها على الاستجابة، وعالميا يتم قياس قدرة النظام الصحي بعدد الأسرة في المستشفيات لكل ألف شخص من السكان، فمثلا في ألمانيا -وفقا لمعطيات التخطيط الصحي لديها هي ثمانية أسرة لكل ألف شخص، بينما في دول أخرى قد تكون النسبة أقل، فمثلا في تشيلي سريران تقريبا لكل ألف شخص، ومن الصريح أن الدول التي لديها أنظمة صحية أضعف يكون فيها هذا الرقم أقل، أيضا هناك معيار آخر، وهو عدد أسرة العناية الحثيثة لكل مئة ألف من السكان، وهي الأسرة المجهزة بأدوات خاصة للحالات الحرجة مثل أجهزة التنفس الاصطناعي، والتي تلعب دورا أساسيا في التعامل مع مرضى كورونا كوفيد-19.
فتخطيط الخدمات ليس موضوعا مستقلا بل تشترك فيه مجموعة من التخصصات أهمها الجغرافية والاجتماع الحضري وغيرها، حيث ان الخدمات وجدت لصالح السكان من خلال تطور أنشطة الخدمات وعلاقتها بخريطة نمو السكان والعمران والموقع الجغرافي للخدمة وعلاقته بتوزيع السكان وانماط الخدمات في البيئات الحضرية حيث تعتبر هذه العناصر, اهم ما يهدف اليه التخطيط بشكل عام في أي دولة، من هنا كان تخطيط الخدمات ظاهرة ديناميكية لا تعرف الثبات بسبب تغير أقاليم المدينة باعتبارها أقاليم خدمية ووظيفية, ولذلك بات من الضروري دراسة هذه الأقاليم على فترات زمنية متتالية للتعرف على أوجه التغير التي تحدث فيها بين فترة وأخرى.
فلو افترضنا جدلا أن نقطن مدينة عدد سكانها ألف شخص، فهذا يعني أن المستشفى في مدينتك به ثمانية أسرة، منها خمسة أَسرة يشغلها مرضى السرطان والحوادث، وما تبقى هو ثلاثة أَسرة.
والحال هذه لو اصيبت هذه المدينة بفيروس كورونا أو مساوية في الخطورة وسرعة الانتشار، وكان قـد سجل اصابة في اليوم الأول فخلال عشرين يوما ووفق فترة التوليد للفيروس سيتخطى العدد مئة، بطبيعة الحال بملاحظة المعطيات التي تشير إلى أن كل شخص يسبب العدوى لثلاثة تقريبا، وأنه لا يوجد حجر صحي في المدينة.
من ثَمَ فهؤلاء المئة لن تظهر على ثمانين منهم أعراض أو ستكون أعراضهم خفيفة ولن يحتاجوا دخول المستشفى. ما تبقى عشرون مصابا يحتاجون لمستشفى ليس فيها إلا ثلاثة أسرة فقط.
النتيجة هنا أن 17 لن يدخلوا المستشفى ولن يتلقوا الرعاية الصحية، وبالتالي فإن النسبة الأكبر منهم ستكون في مواجهة الموت مقارنة بمن حظوا بفرصة دخول المستشفى. أيضا مع تطور الوباء سوف لن يعود هناك مكان لمرضى السرطان والحوادث، وبالتالي ايضا سيحرمون فرصة دخول المشفى والحصول على الرعاية الصحية، ومعنى هذا أنهم سيكونون أكثر عرضة للمضاعفات والموت.
من ناحية أخرى، سيكون الضغط أكبر على الأطباء، بمعنى أن أطباء الأورام والسكري سيصبحون مشغولين أيضا بمرضى كورونا، وسوف ينهكون، كما أن نسبة منهم ستصاب بكورونا، مما يقود إلى تراجع عددهم، وازدياد الأمر سوءا.
من هنا نجد أن دائرة وفيات كورونا في الحقيقة لا تقتصر فقط على من اصيب بالعدوى بل تتسع لتشمل أيضا وفيات المرضى بمشاكل وأمراض أخرى أو حوادث لم يستطيعوا دخول المستشفى لأنه لا أَسرة، أو ليس لديهم فرصة للحصول على الرعاية الصحية الملائمة، بسبب النقص الحاصل في الكوادر والخدمات.
وهذه الحالة توجب أن يعتمد التخطيط الصحي على اهم ركائزه وهو المسح السكاني الصحي من اجل توطين ومواصلة أهداف التنمية المستدامة، ويتعدى الامر الى الوزارات وأجهزة الدولة المختلفة للأخذ ببيانات المسح السكاني الصحي في التخطيط والمتابعة، من قبيل تحديد التحديات ووضع مؤشرات تخطيها خصوصا في ظل إجراءات مواجهة كوفيد-19 والتي تتطلب تركيز الرعاية الشخصية، ايضا في رصد أنماط انتشار فيروس كورونا، ان بيانات تخطيط المسح السكاني الصحي تمكننا من تتبع تصاعد أو انخفاض توجهات مجتمعية بعينها تجاه الأمراض الانتقالية بين السكان.
ويفسر جميع ما تقدم تحذيرات منظمة الصحة العالمية، من أنه “لا يوجد أي نظام صحي في العالم قادر على مواجهة تداعيات كورونا”. فأكثر ما يخشاه علماء الأوبئة هو أن يصبح نظام الرعاية الصحية غارقا في انفجار مفاجئ للمرض بما يتطلب دخول عدد أكبر من الأشخاص إلى المستشفى أكثر مما تستطيع التعامل معه، وفي هذا السيناريو سيموت مزيد من الناس لأنه لن يكون هناك ما يكفي من أسرة المستشفيات أو أجهزة التنفس الاصطناعي لإبقائهم على قيد الحياة.
ختاما أن فيروس كورونا وضعنا امام حقيقة هي حتمية العمل من أجل تخطيط وبناء أنظمة رعاية صحية متكاملة وذا مرونة في مواجهة الطوارئ والازمات وذا قدرة في استيعاب اعدادا كبيرة من السكان حين الازمات، ومما لا ريب فيه بأن أسلوب تلبيتنا لهذه الشدة الآن سوف تمكن تلك المجهودات لسنين مقبلة من التخطيط المستمر، حينما تكون تلبيتنا لفيروس كورونا مستندة على أساسات الثقة العامة والوضوح سوف نستخدم الأدوات الأكثر فعالية ونبنيها لضمان قدرتنا على الخروج من هذه الأزمة وتعلم الدروس للمستقبل.
www.furkan1987@gmail.com