مبدأ التـأدب
   من أهم المبادئ التي أعقبت مبدأ التعاون الحواري هو مبدأ التأدب, وهومن أهم مباحث اللسانيات التداولية ومع أنَّ جرايس صاحب المبدأ المذكور لم يتطرق بالتفصيل للقواعد التي تبلور التعامل بين طرفي الحوار؛ وذلك لأن اهتمامه كان بالأساس منصبًا على صياغة لتفسير وتبرير عدم المطابقة لمعنى المرسل لدلالة الخطاب المنطقية والحرفية، فيما عرف بالاستلزام  الحواري، وإن كان قد ألمح اليها بقوله ( إنّ هناك بالطبع أنواع لكافة القواعد الأخرى , جمالية، أخلاقية، واجتماعية، مثل لتكن مؤدبًا، التي يراعيها المشتركون عادة في تبادلاتهم الخطابية والتي تولّد معاني مستلزمة غير عرفية , وهذا ما حدا ببعض الباحثين إلى صياغة المبادئ التي تكفل ذلك مع الالتفات لمبدأ التعاون واعتباره، نقطة، التأسيس، والأنطلاق ) .
    
 قواعد مبدأ التأدب: 
      ألمح جرايس بعد عرضه لمبدأ التعاون إلى وجود مبادئ أُخرى  مثل مبدأ التأدب التي تتم مراعاتها من طرف المتكملين ولكن هذا المبدأ لا يرتقي عنده لمستوى تلك القواعد الأربعة ، مع كون مبدأ التأدب يعد من أهم مباحث اللسانيات التداولية باعتباره مجموعة من الاستخدامات اللغوية المتعارف عليها كصيغ الشكر، وصيغ الاعتذار، وصيغ النقد الملطف، وصيغ الطلب والمخاطبة داخل جماعة لغوية ، يتمثل دورها في الحفاظ على قدر من الأنسجام خلال التفاعل بين المتكلمين ، وتجنبا ما يمكن ان يترتب على كل لقاء وإحتكاك من اخطار ممكنة , جراء عدد من الأعمال اللغوية التي لا مناص للمتكلمين من اتيانها ، والتي تهدد ماء وجه المتكلم أو المخاطب او كليهما، من نحو الأمر، والسؤال ، والاعتذار.
  وعلى إثر ما ألمح إليه جرايس ، اقترحت روبين لايكوف مبدأ التأدب ، الذي يحتوي على قاعدتين تندرجان تحته وهما: كن واضحًا ، كن متأدبًا ، كما ويقوم هذا المبدأ عندها على قواعد ثلاث، وهي
  • قاعدة التعفف: ومقتضاها لا تفرض نفسك على المخاطب وتحرز عن عبارات الطلب المباشرة، إذ عليك أن تحافظ على المسافة بينك وبين المخاطب ، ولا تقحم نفسك عنوة 
  • قاعدة التشكيك: ومقتضاها لتجعل المخاطب يختار بنفسه، ودع خياراته مفتوحة ، وتجنب أساليب الاستفهام في التخاطب.
  • قاعدة التودد: ومقتضاها إظهار الود للمخاطب، ويكون ذلك عبر استعمال صيغ (التصغير، والكنية واللقب)، فهي تؤنس المخاطب وتطمئنه, وقد ادعت لايكوف أنَّ قواعد التأدب كلية تأخذ بها جميع الجماعات البشرية، ويتضح مما سبق أنَّ “مبدأ التأدب يجمع بين الجانبين التبليغي والتهذيبي من الخطاب ويتفرع إلى قواعد تنظم هذا الجانب الذي أهمله جرايس في مبدأ التعاون”. 
مصاديق تطبيقية لمبدأ التأدب 
     يمكن تطبيق نصوص من الوصية المباركة التي أوصى بها نبينا الأكرم محمد “صَلَّىٰ ٱللَّٰهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ” لأبي ذر الغفاري (رضوان الله عليه) على وفق قواعد مبدأ التأدب الثلاث (قاعدة التعفف ، وقاعدة التشكيك وقاعدة التودد) التي جاءت بها روبين لايكوف.
  1. قاعدة التعفف: توضح القاعدة, كما ذكرنا سلفًا مراعاة عدم فرض أي شيء على المخاطب بأسلوب الاستعلاء من دون فرض نفسك على الآخرين والتعدي على حقوقهم ورغباتهم، وهذا ما نجده في غالب الوصية والسمة البارزة لها مثل قوله: ( يَا َأبَاذَرٍّ ألآ أخبرك بأهل الجنة؟ قلت: بلى يا رسول الله …). 
  نجد أنَّ المتكلم هنا يتقيد بقاعدة التعفف ولا يفرض نفسه وكلماته إِلاّ برغبة وموافقة من المستمع، وهو المبدأ العام وتحصيل الحاصل والمتناسب مع غرض الوصية من أولها؛( لتعكس قاعدة التعفف خصيصة الاتفاق وذلك عن طريق إنتاج الخطاب بصورة رسمية وواضحة). 
  1. قاعدة التشكيك أو التخيير: وتقتضي بـ(أن يتجنب المتكلم أساليب التقرير ويأخذ بأساليب الاستفهام كما لو كان مشككًا في مقاصده ، بحيث يترك للمخاطب مبادرة اتخاذ القرارات). ومما يتضح لنا من أمثلة تضمنتها الوصية المباركة قول النبي الأكرم “صَلَّىٰ ٱللَّٰهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ”:(يَا أَبَاذَرٍّ هل ينظر أحدكم إِلاّ غنى مطغيًا ، أو فقرًا منسيًا ، أو مرضًا مفسدًا ، أو هرمًا مفندا ، أو موتًا مجهزًا ، أو الدجال فإنَّه شرّ غائب ينتظر، أو الساعة وهي أدهى وأمر) ، وقوله: (يَا أَبَاذَرٍّ : أتحب أن تدخل الجنة؟. قلت: نعم فداك أبي وأمي، قال: فأقصر الأمل…)
وهكذا قوله “صَلَّىٰ ٱللَّٰهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ”: أتعلم في أي شيء أنزلت :﴿ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ    
        في النصوص التي سقناها من الوصية المباركة نجد أنَّ المتكلم –النبي الأكرم “صَلَّىٰ ٱللَّٰهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ” قد فسح مجال المخاطبة ؛ بالاستفهام على وفق طريقة التخيير؛ ليحصل على التبادل الكلامي الموجز بالكلم والغني بالمعنى “حتى يشعر هذا المستمع بأنَّه أمام جملة من الإمكانات الخطابية لا أمام إمكان واحد لا مفرَّ له منه، ففي هذه الحكمة دعوة إلى المتكلم ليظهر احترامه للسامع ومراعاته إياه ونزوله عند إرادته ورغبته”. وهو من جملة أساليب التأدب في الوصية المباركة       
  1. قاعدة التودد:
      ومفهوم هذه القاعدة انها (توجب على المتكلم أن يظهر الودّ للمخاطب ، مستعملًا الأساليب والصيغ التي تقوّي علاقات التضامن والصداقة بينهما نحو ضمير المخاطب، والاسم، والكنية ، واللقب، ومقتضاها أن يكون المتكلم أعلى رتبة من المستمع أو في رتبة مساوية لمرتبته) وهذا ما نجده منطبقًا على الوصية المباركة التي هي ملفوظة من متكلم يحمل مقام النبوة المباركة ، ومع ذلك نجده يراعي –بشكل ملحوظ-  قاعدة التودد ، ويظهر الاهتمام والعناية والأنس عبر استعمال أسلوب النداء المتكرر للمستمع ، الذي يركّز على استعمال الكنية لا بالاسم من باب التحبب والتلذذ ، والقيمة والمكانة الكبيرة للمتلقي تارة، وشدّ الانتباه والتركيز على أهمية الكلام تارة أخرى، فيقول (عليه الصلاة والسلام): ( يَا َأبَا ذَرٍّ ) مئة وستون مرة، وحسبه بذلك شرفًا إنما هو كاشف عن حجم الود الذي يختزنه المتكلم للمستمع ، وقد عبّر عنه في معرض سؤال المستمع وطلبه حين قال له: ( يا رسول الله أوصني… فقال له: نعم وأكرم بك يَا َأبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ منا أهل البيت وإنّي موصيك...) فالمتكلم أظهر مكانته من دون السؤال عنها إظهارًا للود واهتماما بالمخاطب الذي استعمل له (كاف الخطاب) أكرم بك , موصيك , احفظ ما أوصيك , إياك , شبابك , صحتك , حياتك , موتك … وغير ذلك ألفاظ كثيرة جدًا، فهذه الطريقة في الاستعمال التخاطبي ” تقوي التضامن والصداقة والأنس والاطمئنان إلى ما يبديه المتكلم من ثقة وعناية، فما بالك لو أنها صدرت من سيد القول والبلاغة؟!.
        

شارك هذا الموضوع: