التواجه مبدأ تداوليمتمم لمبدأ التعاون الحواري بين طرفي الخطاب وبالعمل بمقتضاه يؤسَس الحوار الناجح؛ ولازمه ان المتكلم يلتزم بصيانة وجه غيره, وهو علامة على الاحترام المتبادل أو التعاون بينهما ورد عند كل من بروان، وليفنسن في عملهما المشترك الكليات في الاستعمال اللغوي: ظاهرة التأدب، ويصاغ على النحو الآتي: لتصن وجه غيرك ، يقوم على مفهومين اثنين: مفهوم الوجه الذي هو ذات الشخص التي تحدد بها قيمته الاجتماعية، وهو على نوعين، وجه سلبي ووجه إيجابي؛ أمَّا السلبي فيتحدد في دفع الاعتراض، والإيجابي لجلب الاعتراف ويكون الحوار هو المجال الحواري لحفظ وجه المتكلم بحفظ وجه المخاطب.
ومفهوم التهديد وهي الأفعال التي لا يحترم المرسل فيها حرية المرسل إليه ، ويحاول أن يعترضها، وإنه من البديهي أنَّ بعض الأفعال اللغوية تهدد الوجه حقيقته خصوصًا الأفعال التي تتعارض طبيعتها مع إرادات طرفي الخطاب بوجهيه، السلبي والإيجابي ومما يهدد وجه المرسل إليه:
أفعال الأوامر والنصائح والاقتراحات والتذكير والتهديد والتحذير لأنها تمارس بعض الضغوط عليه بالإقدام أو الإحجام.
أفعال تتطلب منه ردّة فعل إيجابية في المستقبل كالعرض ، أو الوعد حيث تسبب له حرجًا بالقبول ، أو الرفض.
الأفعال التي تعبّر عن أطماع المرسل فيه ، أو في بعض ممتلكاته، بما يدعوه إلى الاعتقاد، وأما بوجوب حمايتها أو منحها إياه ومنها: المدح , تعبيرات الحسد والإعجاب، تعبيرات العواطف السالبة الدالة على البعض كالغضب والشيق، وأما الأفعال التي تهدد وجه الجالب ، وهي تلك الأفعال التي تدل على عدم اكتراث المرسل بمشاعره ورغباته ومنها:
التقييمات السلبية لبعض أفعاله: كالاستهجان، النقد، المعارضة، السخرية، إذ يعبر فيها المرسل عن عدم حبه واحترامه لبعض رغبات المرسل إليه أو أفعاله أو خصاله الشخصية أو قيمة، ومنها تعبيرات الاعتراض، أو عدم الموافقة أو التحدي إذ يشير المرسل بها إلى ضلاله أو خطئه.
كذلك من أساليب تهديد الوجه من طرف المرسل إليه الأفعال التي تعبر عن عدم الاكتراث للمرسل بوجه المرسل إليه الجالب كإخافته ، أو عدم توقيره ، والتلفظ بما هو مستهجن أمامه، أو إخباره بأخبار غير سارة، وأمّا الأفعال التي تهدد وجه المرسل الجالب مباشرة فهي، الاعتذارات قبول المدح، الندم، الإقرار بالذنب
وأمَّا بخصوص المفهوم الثاني وهو التهديد فيرى الباحثان (بروان) و(ليفينسن)، فهي الأقوال التي تعيق بصيغتها إرادات المتكلم أو المستمع في دفع الاعتراض وجلب الاعتراف، ويذكر (الباحثان) بعض الخطط الحوارية لتخفيف آثار التهديد، يستعمل منها المتكلم ما يراه ملائمًا لقوله ذي الصيغة التهديدية ومن هذا الخطط:
أن يمتنع عن أداء القول المهدد.
أن يصرح من غير تعديل يخفف التهديد.
أن يصرح بالتهديد مع تعديل يدفع عن المستمع الأضرار بوجه إيجابي.
أن يصرح بالقول المهدد مع تعديل يدفع عن المستمع الأضرار بوجه سلبي.
أن يؤدي القول بطريق التعريض، تاركًا للمستمع أن يختار أحد معانيه المحتملة.
وإذا كان عنوان هذا المبدأ (لتصن وجه غيرك)، فإنَّ عدم الصيانة لهذا الوجه بأي أسلوب أو استراتيجية ذكرت فأنه يستلزم معاني مرادة ومقصودة من خرق هذا المبدأ، وهو الصيانة، سواء بأسلوب التهديد أم الوعيد أم الأمر أم النهي أم غير ذلك، فمن الأساليب التي تعدّ خرقًا لمبدأ صيانة الوجه والبعد عن التهديد وهذا هو الأساس في المبدأ.
ومن مصاديق هذا المبدأ والاستلزامات المترتبة عليه في خرق (مبدأ صيانة الوجه) ما يمكن تطبيقه على نصوص من الوصية المباركة للنبي الاكرم صلى الله عليه واله وسلم لأبي ذر الغفاري رضوان الله عليه.
مصاديق صيانة وجه المرسل إليه:
طبقًا لمبدأ التعاون ومقتضى إرساء أسس الحوار الناجح، فإنَّه (على المتكلم أن يصون وجه غيره وهو علامة على الاحترام المتبادل أو التعاون بينهما) ، ولهذا نجد المتكلم لا يعتمد أحيانًا الأسلوب الصريح والمباشر الذي يهدد الوجه للمستمع، بل يعمد إلى حفظ ماء وجهه ورعايته عبر استعمال أسلوب غير الأمر والنهي والطلب المباشر، أي بأسلوب ( يهدد وجه الدافع وتمارس عليه ضغوطات بالإقدام أو الإحجام) ؛ ولذا نجد المتكلم يعمد إلى الأسلوب الآخر وهو الإخبار الذي يبتعد فيه عن الأمر والنهي المباشر وإن كان ذلك قد تحقق ضمنًا، طبقًا لمبدأ النصح والوعظ والإرشاد الذي جاء به النبي الأكرم “صَلَّىٰ ٱللَّٰهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ” في متن الوصية المباركة قائلًا: ” يَا َأبَا ذَرٍّ إنّ شرَّ الناس منزلة عند الله يوم القيامة عالم لا يُنتفع بعلمه، ومن طلب علمًا ليصرف به وجوه الناس إليه. يَا َأبَا ذَرٍّ يطلع قوم من أهل الجنة على قوم من أهل النار فيقولون: ما أدخلكم النار وقد دخلنا الجنة بفضل تأديبكم وتعليمكم؟ فيقولون: إنَّا كُنَّا نأمر بالخير ولا نفعله”.
وهنا نجد أنَّ النبي الأكرم “صَلَّىٰ ٱللَّٰهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ” لا يستعمل الاستراتيجية التصريحية المباشرة بل وظَّف الألفاظ إلى ما “يخفف من آثار التهديد وامتنع عن أداء القول المهدد”بشكل مباشر، بل عمد إلى صيغة الإخبار بدلًا عن الأمر والنهي الصريح، فلم يقل للمستمع أو المتلقي: كن عالمًا ينتفع الناس بعلمك وإلّا كنت شرَّ الناس يوم القيامة. أو: إذا كنت من تأمر بالخير ولا تفعله، فأنت من أهل النار، بل حقق مبدأ – صن وجه غيرك … بأبهى حلته، ومثله قول النبي الأكرم “صَلَّىٰ ٱللَّٰهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ”, (“يَاأَبَاذَرٍّ كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما يسمع. يَا َأبَا ذَرٍّ ما من شيء أحقّ بطول السجن من اللسان ).
وقوله (صَلَّىٰ ٱللَّٰهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) : (يَاأَبَاذَرٍّ يقول الله عزَّ وجلّ: وعزّتي وجلالي لا يؤثر عبدي هواي على هواه إِلاّ جعلت عناه في نفسه , وهمومه في آخرته وضمنت السموآت والأرض رزقه , وكففت عليه ضيعته، وكنت له من وراء تجارة كل تاجر، يَا أَبَاذَرٍّ: من ملك ما بين فخذيه وبين لحييه دخل الجنة ).
وهكذا جملة من الأمثلة وهي كثيرة، وهي الأصل في المقام، إذ إن المتكلم هو خاتم النبيين “صَلَّىٰ ٱللَّٰهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ”، وما دام كذلك فيكون مقتضى همه النصح والإرشاد وصيانة وجه المستمع أو المتلقي من عذاب الله أولًا ومن الإهانة في الدنيا والخزي في الآخرة.
لذا حينما نقف على قوله (عليه أفضل الصلاة والسلام): إحفظ فرجك وما بين لحييك لتدخل الجنة، ولا نراه يقول: ليكن هواك مطابقًا لهوى الله تعالى لتضمن السماء رزقك، للمقام العالي الذي يحل به المستمع .
بما يستدعي في صيانة وجهه من قبل المتكلم مستخدما استراتيجية التأدب الإيجابي ” لبعض الألفاظ التي تلطّف من حدّة التهديد، ويُدفع بها الإضرار بوجهه، إلى أقصى حدّ يستطيعه مدلّلا على مراعاته لما يوجبه وجهه الإيجابي”؛ليترك للمستمع تحقيق ذاته وفسح المجال أمام خياراته في سلك طريق يقرره هو بذاته. وهذا هو مبدأ القرآن الكريم ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾،وهو تحقيق مبدأ صيانة وجه المستمع والمخاطب في الحوار وصولًا إلى أهداف ومقاصد يبتغيها المتكلم من وراء ألفاظه.