مسار التنوع الصوتي للقاف في اللهجات العربية القديمة والحديثة .
الباحثة :هديل عبد الأمير حسوني حبيب
طالبة دكتوراه / قسم اللغة العربـــــية / لغة
القاف من الأصوات التي عانت كثير من التغيرات الصوتية في اللهجات العربية القديمة والحديثة وسنحاول في هذا المبحث الوقوف على هذا التنوع قديمًا ثم نذكر هذا التنوع في اللهجات الحديثة معللين ذلك صوتيًا وكالآتي:
أ ـ القاف التي كالهمزة :[?]
تطور القاف همزة كان معروفًا لدى العرب قديمًا، بل لقد شقَ هذا التطور طريقه إلى الفصحى ويتمثل ذلك بالألفاظ التي عدها اللغويون مما أُبدلت فيها القاف همزة مثل :القشب والأشب( ) وقولهم الأفز في القفز()،ولقد عقد أبو الطيب اللغوي باباً في كتابه الإبدال للألفاظ التي أبدلت فيها القاف همزة من ذلك قوله :” القوم زهاق مائة ،وزهاء مائة “بمعنى “قريب من ذلك”()،كما قد أوردت المعاجم العربية مجموعة من الألفاظ التي رُويت مرة بالقاف وأخرى بالهمزة مع حمل الدلالة ذاتها من ذلك قولهم :
ـ ويُقالُ :” زنق على عياله ، وزنأ عليهم ،إذا ضيق عليهم فقرا أو بخلاً”().
ويُقالُ :أبِضَ نَساهُ وأَبَضَ و تَأَبَّضَ تقَبَّضَ، بمعنى شد رِجْليْه().
نلحظ مما تقدم من هذه الأمثلة ونحوها ما يشير إلى أن نطق القاف همزة كان واقعًا في القديم إما بوصفه لهجة أو بكونه مجرد أبدال بين الأصوات فالقاف والهمزة هنا (ألوفونان ) في الكلمتين ومن ثم فإن دلالتهما واحدة وهذا ما يفسر لنا الإبدال بين الحرفين(الصوتين ) قديمًا.
وهناك تفسير آخر ذكره الدكتور كمال بشر له قبول من الناحية الفسيولوجية يقول فيه :”إن القاف كانت تنطق أحيانا مهمَّزة أي ، مشوبة بهمز وبمرور الزمن تلاشى الصوت الأصلي(القاف) وصار التهميز همزا خالصا وأمتد أثره حتى الآن ،كما نلحظ في نطق أهل المدن في مصر وغيرها من البلاد العربية “().
كما تعرضت القاف إلى تغيرات وتنوعات كثيرة في اللهجات الدارجة في مختلف إنحاء الوطن العربي فنظرا ليبسه وصلابته مال أهل الحواضر العربية في مصر وبلاد الشام عامة إلى نطقه همزة فمثلاً يقولون : قال ،آل وقلتُ،أَلْتُ فنطق القاف همزة قانون عام في لهجاتهم() ويبدو أن هذا النوع من التطور قديم في اللغات السامية فقد نقل البعض من المستشرقين أن القاف تحولت في أعلام الفينيقية في بعض الأحيان إلى همزة ،ثم سقطت كما الهمزات الأصلية( ) وهذا ما سيأتي ذكره في المبحث المخصص لتطور القاف في اللغات السامية والتفسير الصوتي لهذا التنوع أو التطور في النطق هو تأخر مخرج القاف إلى الخلف باحثًا عن أقرب الأصوات شبهًا له من الناحية الصوتية ،ولا يوجد ضمن أصوات الحلق ما يشبههُ إلا الهمزة ،وذلك لوجود صفة الانفجار في كل منهما ( )،وقد علل الدكتور إبراهيم أنيس ذلك قائلًا :” ومن الصعب تفسير الظاهرة الأولى أي قلب “القاف”همزة ،ويظهر أن هذا التطور كان نتيجة انتقال القاف من مخرجها وتعمقها بين أصوات الحلق ،،فاستبدل بها الهمزة التي هي أقرب أصوات الحلق شبهًا بالقاف من حيث الشدة ،لأن جميع أصوات الحلق ماعدا الهمزة أصوات رخوة “( ).
ب ـ القاف التي كالغين [Υ]
وهنا تطور أخر حصل لصوت القاف وهو نطقها غيناً وذلك في السودان وجنوب العراق فكلمة (الاستقلال) على سبيل المثال ينطقها هؤلاء (الاستغلال )() وقد ذكر الدكتور رمضان عبد التواب أن هذا النطق قد شق طريقه إلى اللهجة المصرية الدارجة من خلال بعض المفردات مثل كلمة “يقدر “فإنها تنطق “يغدر”وكلمة “زغزغ”وهذه الكلمة يشيع استعمالها في اللهجات الفلسطينية والأردنية إلى جانب المصرية الدارجة فمن الممكن إرجاعها إلى “الزقزقة ” المروية لنا عن العرب بمعنى ترقيص الطفل() لعل القاف تطورت إلى غين في هذه الكلمة أيضًا
وتطور القاف إلى غين له جذور متوغلة في القدم ،فقد قالت العرب قديماً :غلامٌ أَغْلفُ وأَقْلفُ:إذ لم يُختنْ ،واسم الذي يقطعه منه الغلفة والقلفة كما يقال :عامٌ أغلف ُ وأقلفُ:إذا كان كثير النبات، ومن ذلك قولهم أيضاً :الغَمَزُ من الناس و القَمَزُ: الرُّذال ،ومن لا خير فيه ( )نلاحظ مما سبق ذكره من الألفاظ هنا وجود التبادل أو ألإبدال العكسي بين صوتين الغين والقاف مع الحفاظ على الدلالة نفسها .
وقد أشار الدكتور غانم قدوري الحمد إلى ملاحظة نقلها الأندرابي (ت في حدود500هـ) عن أبي الفضل الرازي (ت 454هـ) حول نطق القاف ، يمكنها أن تفسر لنا شكل من أشكال نطق القاف في اللهجات العربية الدارجة اليوم ، وهي قوله :”ينبغي لقارىء القرآن …أن يحترز من أخراج الحرف بلفظ مقاربه مما جاء في بعض اللغات المتعسفة :كالجيم التي كالشين ،وبالعكس…والقاف كالغين ،وبالعكس “().وقول الرازي هنا القاف كالغين يشير إلى أن من العرب من ينطق القاف غيناً في زمانه ، ومنهم من ينطق الغين قافاً ، وهو عين ما يجري على ألسنة بعض الناطقين بالعربية اليوم ..وللدكتور كمال بشر رأي أخر حول هذا النطق فقد جعله مقصورًا على تلك الكلمات الفصيحة والتي دخلت عاميات تلك البلاد من نحو: الاستقلال ـ الاستغلال ،ويقدر ـ يغدر فهو يرى أن القاف هنا ما هي إلا صوت (الجاف) القصية المجهورة يقول :”وفي رأينا أن القاف في هذه الأمثلة ونحوها ليست القاف اللهوية المهموسة (الفصيحة)،وإنما هي “الجاف” القصية المجهورة ،وربما يسوغ هذا التفسير ،صدور الجاف والغين من حيز واحد ،هو أقصى الحنك
و لافرق بينهما إلا أن الأولى (الجاف) وقفة انفجارية والغين احتكاكية “()
جـ ـ القاف التي كالكاف [َG]:وهذا التطور والتنوع لنطق القاف قد تضمن محاور عدة منها :
* تطور القاف إلى كاف خالصة .
*تطور القاف إلى كاف طبقية مجهورة أي (كَئـ) ،(جيم قاهرية ).
* تطور القاف إلى جيم فصيحة تنطق صوتاً مزدوجاً(dz).
* تطور القاف إلى كاف خالصة .
أشار اللغويون بعد سيبويه إلى نطق لهجي للقاف ، قال ابن دريد :”فأما بنو تميم فأنهم يُلحقون القاف بالكاف ، فتغلظ جداً فيقولون :الكَوم يريدون القوم، فتكون القاف بين الكاف والقاف ،وهذه لغة معروفة في بني تميم، قال الشاعر:
ولا أكَول لكَدر الكَوم كَد نضجت ولا أكَول لبابِ الدار مكَفولُ”( )
وقال السيرافي:”ورأينا من يتكلم بالقاف بين القاف والكاف فيأتي بمثل لفظ الكاف التي بين الجيم والكاف والجيم التي كالكاف”().
ويتبن لنا من هذه النصوص أن العلماء قد ميزوا و منذ وقت مبكر بين القاف الفصيحة والقاف العامية التي هي (الكاف المجهورة) ،فقد ذكر أبن الحاجب ذلك قائلاً:”وبقي حرف لم يتعرض له وإن كان ظاهر الأمر أن العرب تتكلم به وهي القاف التي كالكاف كما يتكلم بها أكثر العرب اليوم حتى توهم أنهم كذلك يقرؤون بها والظاهر أنها في كلامهم وأن القاف الخالصة أيضاً في كلامهم وأن القرآن لم يُقرأ إلا بالقاف الخالصة على ما نقله الإثبات متواترًا ، ولو كانت تلك قُرئ بها لنُقلت كما نُقِل غيرها ولمَّا لم تُنقل دلَّ على أنها لم يُقرأ بها أو قُرئ من لم يعتد بنقلٍ عنه”().وقد جرى أبو حيان على تسمية القاف الفصيحة بالقاف الخالصة وسمى القاف التي كالكاف بـ(القاف المعقودة) فقد ذكر ذلك قائلًا:”وأما القاف المعقودة ،فقال السيرافي :رأينا من يتكلم بالقاف بينها وبين الكاف انتهى وهي الآن غالبة في لسان من يوجد في البوادي ،حتى لايكاد عربي ينطق إلا بالقاف المعقودة لا بالقاف الخالصة الموصوفة في كتب النحويين والمنقولة عن وصفها الخالص على ألسنة أهل الأداء من أهل القرآن”() وقد أشار ابن خلدون إلى ذلك النطق بقوله:”ومما وقع في لغة هذا الجيل العربي لهذا العهد حيث كانوا من الأقطار شأنهم في النطق بالقاف فأنهم لا ينطقون بها من مخرج القاف عند أهل الأمصار كما هو مذكورٌ في كتب العربية أنَّهُ من أقصى اللسان وما فوقه من الحنك الأعلى وما ينطقون بها أيضاً من مخرج الكاف وإنْ كان أسفل من موضع القاف وما يليه من الحنك الأعلى كما هي بل يجيئون بها متوسطة بين الكاف والقاف وهو موجود للجيل أجمع “() ، يتضح لنا من هذه النصوص أن للقاف نطقين :أحدهما الفصيح وهو ما أطُلق عليه بالقاف الخالصة وهي القاف التي وصفها سيبويه والمسموعة من قراء القرآن ومثقفي العصر ،أما النطق الثاني :فهو نطق لهجي يتمثل بنطق القاف كافاً مجهورة وهو ما أطلق عليه بالقاف المعقودة فهو يتطابق مع صوت الكاف الذي بين الجيم والكاف ،وصوت الجيم التي كالكاف الذي سيمرَّ ذكره فيما بعد والذي يطلق عليه بالجيم القاهرية() ولعله هو الذي عناه الجزري بالكاف الصماء ،وذلك حين قال :”والكاف فليُعلنَ بما فيها من الشدة والهمس لئلا يذهب بها إلى الكاف الصماء الثابتة في بعض لغات العجم فإن تلك الكاف غير جائزة في لغة العرب وليحذر من إجراء الصوت معها كما يفعله بعض النبط و الأعاجم ،ولاسيما إذا تكررت أو شددت أو جاورها حرف مهموس نحو (بِشِرْكِكُمْ) وَ (يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ) ، وَ (نَكْتَلْ) ، وَ (كُشِطَتْ)“()هذا فيما يخص التنوع الفونيمي لنطق القاف وتطورها في القدم على المستويين الفصيح واللهجي ،أما التنوع في اللهجات المعاصرة فقد نال الحظ الأوفر فقد تطورت القاف إلى كاف خالصة في الكثير من اللهجات الريفية والعاميات الدارجة في القرى الفلسطينية وغيرها يقال :كلت و كلنا ،وكمت وكمنا ،وكام وكعد بدلًا من قلت وقلنا،وقمت وقمنا ،وقام وقعد( ) ،وهذا التنوع النطقي لم يأتِ من فراغ وإنما هو تطور موصول الأسباب بلهجات عربية قديمة ،فقد نُسبت هذه الظاهرة إلى بني تميم ـ كما سبق وأشرت إلى ذلك في بداية الموضوع ـ فعلى لهجتهم قول الشاعر :
ولا أكَول لكَدر الكَوم كَد نضجت ولا أكَول لبابِ الدار مكَفولُ.
ولقد قرأ بعضهم بهذه اللهجة في القرآن الكريم، فقد روت الرواة أن بعض الأعراب قرأ : “فأما اليتيم فلا تكهر”وقد ذكر الفرّاء أن هذه الكلمة مكتوبة في مصحف عبد الله بن مسعود “فلا تكهر” قال وسمعتها من أعرابي من بني أسد قرأها علي”() وسوف نوضح ذلك في المبحث المخصص بالقراءات القرآنية وتطور القاف إلى كاف قد شق طريقه إلى الفصحى ويتضح لنا ذلك من خلال الألفاظ التي عدها اللغويون مما أُبدلت فيها القاف كافاً فقد قالت العرب قديماً دقمه يدقُمُه ،ودكمه يدكمُهُ دكماً، إذا دفَعَ في صدرِه، ويقال أيضاً : ظلَّ مُقَرْدِحًا ومُكَرْدِحًا:أَيْ دائِبًا في عملهِ ()، ويُقال :إِمْتَقَّ الفصيلُ ما في ضَرْعِ أُمِّهِ يمتقُّهُ امْتِقاقًا وامْتَكَّهُ يمتكُّهُ امْتِكاكًا إذا شَرِبَهُ أَجْمَعَ(). وقد رجح ابن جني الإبدال في (امتك الفصيل مافي ضرع أمه)( ) ولكنه جعل صوت الكاف هو الأصل معتمداً كثرة التصرف قائلاً:”فالأظهر فيه أن تكون القاف بدلاً من الكاف ،لِماَ ذهب إليه أبو علي ،لأنه قال: من هذا أخذ اسم مكَّة،لأنها كالمجرى للماء فهو ينجذب إليها.قال فأما موضع الطواف ،فهو بكة ،بالباء لأنه من الازدحام … ،فقول الجميع مكة ولم يقولوا مقة يقوِّي أن الكاف هي الأصل “() ولم يسلم الدكتور عبد الغفار حامد هلال لقول ابن جني في نصه السابق ـ بأن الكاف هي الأصل ـ وذلك لنواحٍ عدة ذكرها في كتابه اللهجات العربية جاعلًا من القاف الأصل في ذلك الإبدال فهو يقول:”على أننا لو قدرنا القاف هي الأصل لكان أقرب إلى تسهيل النطق إذ من العادة أن الإبدال يكون للتخفيف والسهولة والكاف أسهل نطقاً من القاف بل إن القاف عندما تنحدر إلى مقدم الفم في مخرجها تنقلب كافا وأيا كان الأمر فإن التبادل بينهما ظاهرة لهجية “()
فتطور القاف إلى كاف ظاهرة صوتية قديمة تضرب جذورها إلى أعماق بعيدة في التاريخ اللغوي (). وهذا التطور في النطق مازال معروفاً إلى يومنا هذا في اليمن ومناطق كثيرة من البلاد العربية كما ذكر كانتينو ()، وهو كثير في اللهجة البغدادية اليوم سواء أكان في أول الكلمة أم في وسطها وأخرها كقولهم في قال وقشط وقريب (كال وكشط وكريب ) ،وفي رقي ورقاق ورقبة، (ركي وركاك وركبة) ،وفي دق وصفق وشق (دك وصفك وشك)() و برتكال في برتقال( )،وغير ذلك . والتعليل الصوتي لمثل هذا التطور في النطق كما ذكر المحدثون ناشئاً عن تقدم مخرج القاف إلى الأمام قليلاً مع ترقيقها ،واحتفاظها بصفة الشدة في نطقها ،فاختارت الكاف لأن كليهما صوت شديد مهموس ، فقد ذكر الدكتور رمضان عبد التواب ذلك التعليل عند حديثه عن قانون الأصوات الحنكية قائلاً:”انقلابها كافا في نطق الفلسطينيين ،ليس إلا تزحزحاً في مخرجها قليلًا إلى الأمام ،مع ترقيقها ،واحتفاظها بصفة الشدة في نطقها “() وقد عدّه الدكتور عبد الغفار حامد هلال نطق القاف كافاً جزء من التحولات الصوتية ومن المحدثين من يعزو هذا التنوع وغيره إلى ظاهرتي الإبدال والمماثلة بين الصوامت المنتمية إلى منطقة واحدة فقد علل الدكتور عبد الصبور شاهين ذلك عند حديثه عن الصوامت المنسوبة إلى منطقة ما بعد الوسط وهي:”و، ك، ق، غ، خ”() فقد توفرت في أصوات هذه المجموعة أساسين لحلول ظاهرتي الإبدال والمماثلة الصوتية وهما:القرابة الصوتية بين الصوامت أولاً ؛ فالصوامت ذات طبيعة مشتركة فيما بينها، أما الأساس الثاني للقرابة الصوتية فهو الاتحاد والتقارب المخرجي بين هذه الأصوات () .
*تطور القاف إلى كاف طبقية مجهورة أي (ﮔئـ) أي إلى الجيم القاهرية :
تطور صوت القاف إلى كاف طبقية مجهورة أي الجيم القاهرية وذلك عند البدو في فلسطين بمنطقة بئر السبع ،ولدى سكان القرى القريبة من هذه المنطقة والمحيطة بمدينة الخليل مثل قرى الدوايمة ،وبيت جبرين ودورا وغيرها من القرى فالقاف عند هؤلاء تنطق كالجيم القاهرية تماماً كما أن هذا النطق للقاف هو الشائع في اللهجة الأردنية الدارجة وفي اللهجة الليبية الدارجة أيضاً ( ) وقد علل الدكتورإبراهيم أنيس هذا التنوع الصوتي للقاف قائلًا:”أما في الانتقال بمخرج القاف إلى الأمام فنجد أن أقرب المخارج لها هو مخرج الجيم القاهرية والكاف ، فلا غرابة أن تتطور القاف إلى أحدهما “( ) ،وكما قد رجح تطور القاف إلى الجيم القاهرية في لغة البدو وأهالي الصعيد المصري إلى اشتراك كلا الصوتين في صفة الجهر ، وذلك عند قوله :” أما قلب القاف “جيما” كالجيم القاهرية فهو مجرد انتقال في مخرجها قليلًا إلى الأمام ،ولأن القاف في الأصل صوت مجهور أستبدل بها الجيم التي هي صوت مجهور أيضاً”( ) وقد صرح الدكتور إبراهيم أنيس بذلك في موضع ثان ٍ من كتابه قائلاً:”أن القاف في الأصل صوت مجهور ،فحين تتطور تنتقل إلى صوت مجهور أيضاً يشبهها صفة لهذا اختارت القاف في تطورها الأمامي الجيم دون الكاف،لأن كلا من القاف الأصلية والجيم القاهرية صوت شديد مجهور “( ) ولكنه أردف قوله هذا إلى احتمال تطور القاف إلى كاف في المستقبل لأشتراكهما بصفة الهمس في النطق المعاصر إذا يقول :”أنه إذا تم تطور أمامي آخر في المستقبل للقاف كما ننطق بها الآن في قراءتنا فيكون حتما بان تقلب كافاً،لأن كليهما صوت شديد مهموس”()
وتعد هذه الصورة النطقية للقاف ـ تطورها إلى جيم ـ من الأدلة على أن القاف كانت في الأصل القديم مجهورة كما سبقت الإشارة إلى هذا .
*تطور القاف إلى صوت مزدوج [g]جيم فصيحة ، [dz] دز:
هناك تغيرات أخرى كثيرة طرأت على هذا الصوت في البلاد العربية إذ إنّه ينطق صوتًا مزجيًاaffricate) )كالجيم الفصيحة ، في بعض بلدان الخليج العربي كالبحرين،فقد سُمِع بعض أهاليها يقولون: “الجِبْلَة ” بدلاً من “القِبلة” وينتشر هذا التنوع في النطق أيضاً بين البدو في جنوب الأردن ،فالمسموع عنهم أنهم يقولون : اجعد بدلاً من اقعد، ويوم الجيامة بدل القيامة ،وخير دليل على ذلك ما جاء في أهازيجهم الشعبية مثل قولهم : وَلَكَ يا غراب حيَّد عن طريجي
وأريد أشرب ميّــــه بالبريجـــي
أي “طريقي ،وبالإبريق”() .
وقد ذكر الدكتور رمضان عبد التواب أيضاً أن القاف تنطق صوتًا مزدوجًا من دال وزاي “” dz،”دز”في منطقة الرياض في السعودية فهو يقول :”كما ينطق في مدينة “الرياض”و ضواحيها ،في الجزيرة العربية ،صوتاً مزجيًّا كذلك ،غير أنه مكوّن من الدال والزاى في مثل قولهم :”دْزِبْلَة”في :”قبلة” ،و”دْزِليب”في:”قليب”،وغير ذلك مما سمعته بنفسي هناك”() ويرى الدكتور فوزي الشايب أن الصوت المنقلب إلى الجيم هو صوت “الكاف= g” وليس صوت القاف ،ويوضح ذلك قائلًا:”والصحيح عندنا أن الصوت المنقلب إلى الجيم ليس القاف حقيقة ،وإنما هو صوت آخر هو صوت “الكاف= g” النظير المجهور للكاف العربية ،ذلك أن هؤلاء هم من البدو الذين لا يوجد لديهم صوت القاف”() والتعليل الصوتي لمثل هذا التطور والتنوع الحاصل في النطق مرتبط بقانون الأصوات الحنكية وهو قانون صوتي عام يقول بأن الأصوات الطبقية تترع إلى تقدم مخارجها إلى الأمام قليلًا تحت تأثير الكسرة التالية لها،وتقدم مخرجها إلى الأمام يصيرها صوتاً مزدوجاً بنفس الطريقة التي يتم بها تحول “الكاف”،”g” السامية إلى صوت مزدوج في العربية هو صوت الجيم “dz”والدليل على ذلك أن القاف لا تعاني من هذا القلب إلا إذا وليتها كسرة () . مما تقدم يتبّين لنا بكل وضوح أن القاف ،قد لحق بها من التطورات والتغيرات ما لم يلحق بأي صامت آخر في العربية ،فقد تطورت وتنوعت في اللهجات العربية قديماً وحديثاً إلى مجموعة من الأصوات ـ كما سبقنا في التوضيح ـ وهناك أصوات أخرى قد تنوعت وتطورت بدورها فُنطقِت قافًا وقد يكون هذا التنوع من قبيل اللهجات أو إبدال لهجي بين الأصوات أو قد يرجع إلى قانون من قوانين التطور الصوتي بين الأصوات التي سبق وأشرنا إليها من خلال البحث أو قد يكون الأمر راجعًا إلى التصحيف والتحريف ومن تلك الأصوات :
أ ـ الجيم والقاف والكاف :ومن ذلك القريث لغة في الجريث وهو نوع من السمك().
ويرى بعض اللغويين في تفسير ذلك الإبدال أن هذه الجيم التي جاءت مكان القاف أو الكاف هي جيم عربية خالصة وأن إبدالها من الصوتين السابقين جائز لوقوعه في بعض كلمات العربية ولتجاور مخرج الجيم ومخرج القاف والكاف() .
ب ـ الخاء والقاف :ورد التبادل بين الخاء والقاف في قولهم:المِخصل :القطّاع وغيرها لغة في المِقصل ولعل بين الصوتين تجاوراً في المخارج ،فالخاء من أدنى حروف الحلق إلى الفم ، والقاف من أقصى اللسان( ) ،وهما وإن اختلفا في الجهر والهمس والشدة والرخاوة فإن بينهما تشابها في بعض الصفات كالاستعلاء() مما يسوغ التبادل بينهما .
جـ ـ العين والقاف: قال الخليل :البالوقه والبالوعه ،طوقت له نفسه:لغة في طوعت بمعنى رخصت وسهلت ،وليس بين الصوتين أي تقارب في الصفات أو المخرج ،فمخرج العين من وسط الحلق فهي حلقية ،أما القاف من أقصى اللسان،والعين متوسطة على حين أن القاف شديدة وهذا من قبيل اللهجات().
د ـ الغين والقاف :عسّ الليل وغسّ :أظلم ويقال قسّ أيضًا وهذه الألفاظ من باب التصحيف والتحريف.
ذ ـ الفاء والقاف :الزحلوفة آثار تزلج الصبيان من فوق إلى أسفل وهي لغة أهل العالية وتميم تقوله بالقاف( ) ونسب ابن السكيت القاف إلى هوازان أيضًا ،أما ابن دريد عكس ذلك إذ نسب القاف إلى الحجاز والفاء إلى تميم().ويرى الدكتور عبد الغفار هلال أنها من قبيل اللهجات قائلًا:”أنها لهجات دون معرفة أصلها التطوري أو أن ذلك نشأ بطريق التصحيف “وقد وضع السيوطي الزحلوفة والزحلوقة في باب (معرفة ما ورد بوجهين بحيث يؤمن فيه التصحيف)