جامعة كربلاء /كلية التربية للعلوم الإنسانية / قسم اللغة العربية
الهوية Identity تمثل السمات التي تميز الفرد عن غيره ” من جهة ما هوَ هوَ ، أو من جهة ما هو ذاته برغم التغير أو من جهة ما يتفرد به في الوجود فيتميز من غيره ” ([1]) ، سامحة للفرد بالتعريف عن نفسه من خلالها ([2]) ، و ” يمكن أن يكون لشيء هوية أو يقال عنه كذلك فقط إذا بقي كما هو من خلال الزمن أو كرر ومن اجل أن يكون شيء ما قادرا على التكرار إذن يجب أن يميز مسبقا من خلال نفسه على أنه قد يتكرر انه علامة ” ([3]) ، وقد حدد (بول ريكور) وجود الهوية الموضوعي ” إذا هي تحددت اجتماعيا وقانونيا ” ([4]) ، وبذلك فإن هوية الفرد تتأثر ببيئته المجتمعية في مراحل حياته كلها وهذه الصورة التي يبنيها عن نفسه ومحيطه تؤسس لأفعاله وعلاقاته مع هذا المحيط ([5]) ، ومن ثم يعيد تشكيل الهوية باستمرار لأن هذه الأفعال والعلاقات تولد مفاهيما وصورا جديدة له عن ذاته وبيئته .
وعلى الرغم من وجود رأي يقرر أنه لا يمكن حد الهوية بتعريف مقنن لأنها في حالة تكوّن لا تنتهي ([6]) ، إلا أنه اتفق على أنها مفهوم يرتبط بأبعاد عاطفية ونفسية وآليات تنشئ الإنسان وعالمه ضمن مجتمعه فضلا عن كونه نابعا من داخل الفرد عاكسا معطيات خارجية ([7]) ، وبتعبير آخر فالهوية ” تشير إلى توحد الذات مع وضع اجتماعي معين أو مع تراث ثقافي معين ” ([8]) ، فضلا عن أن الهوية في إحدى وظائفها تعبر عن الوضع والدور الاجتماعي ([9]) ، حتى صارت قضية محورية في الدراسات الثقافية القائمة على دراسة السياقات التي يقوم الأفراد عن طريقها بفهم ذواتهم وتحديدها والتعبير عنها لتؤكد هذه الدراسات ” إن الهوية عبارة عن رد فعل لشيء خارجي ومختلف عنها (أي الآخر) ” ([10]) ، ورد الفعل هذا يمثل علاقة تبادلية قد تكون تماهيا مع الآخر أو تخالفا معه ([11]) ، مما يجعل الهويات تتسم بعدم النقاء نتيجة هذا التبادل المستمر بين الذات والآخر([12]).
وحين تكون الهوية الذاتية كذلك – أي رد فعل – فان صاحبها يسهم في تشكلها ، لكنها قد تكون معتمدة كليا على الصور التي يصنعها هذا الآخر لها ([13]) ، وقد نبه عالم الاجتماع الفرنسي (بورديو) إلى العلاقة بين الهوية والسلطة إذ انتهى إلى إن الذي يملك السلطة المتصفة بالقوة هو الذي يعرّف نفسه ويعرّف غيره ([14]) ، أي يمنحه الهوية التي يعترف بها الآخرون ، وهذا يتعارض مع منظور آخر للهوية على أنها “تشييد ذاتي ” ([15]) ، ومن شروط تحققها أن تكون تملك الإمكانات التي تجعلها قادرة على الاستمرار في كونها ذاتها لا شيئا آخرا ([16]). .
وهذا التعارض لفت انتباه الجماعات المهمشة والمقهورة فاسحة المجال الفكري لها ” لتعترض على الهويات التي فرضت عليهم من قبل الجماعة المسيطرة ، ولتعيد تشكيل الهويات من جديد ” ([17]) ، فالذي يريد أن يفهم هوية المرأة لابد له من فهم أهم التعبيرات التي تطلق على وجودها ؛ فهو وجود (انثوي) مرة للدلالة على الحالة البيولوجية ، ومرة هو وجود (مؤنث) للدلالة على مفاهيم ثقافية رافقت تميزها في مجتمع يكونه نوعان ، وأخرى هو وجود (نسوي) بحسب المفاهيم السياسية التي تتناول هذا الوجود بعدّه أحد الأنظمة المحركة للعالم ([18]) ، وهنا تبرز أهمية الهوية بالنسبة للحركة النسوية حين يتم الاعتراف بأنها كي تكون هوية قائمة بذاتها لابد لها من آخر ، لاسيما مع تصاعد المطالبة بضرورة إعادة تعريف هوية المرأة بعد أن استقرت ردود الأفعال على شعارات المساواة بين الجنسين واختفاء عدد من مظاهر الاختلاف التي سادت فترة تشكل الهويات الأولى ([19]) ، فضلا عن الصعوبة في تحديد معالم هوية المرأة تكمن في إن المدون في الثقافة الإنسانية كان الرجل و “الواقع يكشف عن إن الرجل لم يحسن قراءة المرأة ليس لأنه لا يريد ذلك ، وإنما لأنه لا يستطيع ولا يسمح له رصيده الثقافي الذكوري بأن يفهم المرأة ، وكثيرا ما عبر الرجل … عن إنها لغز عجيب ” ([20]) .
فكانت النتيجة إن الواقع المهيمن ذا الصبغة الذكورية خص الرجل بكل ما هو ايجابي فيما حصر المرأة في كل موضوع سلبي ، فلما أرادت المرأة الانسجام مع الحراك الحديث بما أتاحه لها التطور الحضاري وُسمت بـ(الاسترجال) واتهمت بأنها تبتعد عن أنوثتها التي يجب أن تتصف بحسب القيم السائدة بالخضوع والاستسلام ([21]) ، وهذه الهيمنة الذكورية التي حولت النساء إلى رموز جعلت منهن كائنات موجودة بواسطة ومن اجل آخرين ، يتسمن بصفات ثابتة على مستوى من الجاذبية ، فارتبطت الأنوثة وفقا لهذه المعايير باللطف والمجاملة والخضوع والاحتشام والانزواء والتحفظ في مقابل ذكورة تسعى إلى التفوق والبروز ([22]) ، وكان نتيجة ذلك استمرار الواقع الاجتماعي في تأكيد التمثيلات التي تنتجها الهيمنة الذكورية التي تشرعنها ممارسات النساء أنفسهن ، ” بما إن استعدادات النساء هي نتاج اندماج الحكم المسبق السلبي ضد المؤنث المؤسس في نظام الأشياء فان النساء لا يستطعن سوى تأكيد هذا الحكم المسبق باستمرار ” ([23]) .
فضلا عن اختلاف الحركة النسوية نفسها في تحديد معالم الهوية النسوية ، فمنهن من رأى إن النوع البايولوجي يضع معايير ثابتة لقدرات الإنسان ، ومنهن من أحال كل الإمكانات البشرية للبيئة الاجتماعية رافضة أي تأثير للنوع البايولوجي ([24]) ، ومن ثم لا غرابة في أن تعيش المرأة هوية قلقة ، غير واضحة ، ففضلا عن كونها لم تختر أي منزلة وضعت فيها ، سواء أكانت آلهة أو سلعة ، فالرجل جسّدها قيمة دائما ما بين أن تكون معبودة ، ملغزة ، غرائبية ، وأن تكون مجرد موضوع لتجارب مخبرية خاضعة للتحليل ، وبين أن تكون أمّا مقدسة وأن تكون مغوية ([25]) ، فضلا عن ما يعده (عبد الله ابراهيم) ظاهرة بارزة في بواكير الفكر النسوي ذلك ” الوهم القائل بالتماثل أي أن تصبح الأنثى حرة بمقدار محاكاتها للذكر وهي فكرة سرعان ما واجهت نقدا في الأدبيات النسوية حينما تبين إن الهدف لا صلة له بالتماثل إنما بالاختلاف المانح لهوية الأنثى”([26]) .
ولفهم الصورة المشكلة عن المرأة العربية في النصوص الأدبية ، فمن الضروري الاطلاع على هويتها ، وأول ملاحظة يمكن تسجيلها هو ما تتسم به هوية المرأة العربية بعدم الاستقرار على شكل نهائي ، وقد أرجع الباحثون ذلك إلى أسباب :
يرى (عبد الله إبراهيم) إن للتجربة الاستعمارية دورا كبيرا في تفريق مفهوم الهوية المتماسكة ، إذ إن الخطاب الاستعماري حاول خلق هوية جديدة لها بعنوان التحرر من الهيمنة التي وصفتها بالانقياد والطاعة من قبل ، ولما لم يمكن للمرأة من الانفلات من احد هذين المستويين إلى الآخر بشكل كلي ، لذا فإنها حملت هوية تتسم بالازدواجية العقلية ([27]) ، لأن من شّكل صورة المرأة الحديثة ومعاييرها في النتاج الثقافي سواء المفروضة من الرجل أو المقترحة من المرأة الرافضة للصور السلبية والمركزة على واقع القمع الذي تعيشه النسوة ، وضعت من قبل رجال ونساء بيض ينتمون للطبقة الوسطى في المجتمعات الغربية ([28]) .
ترى (فاطمة المرنيسي) أن المرأة العربية الحديثة وقعت في حيرة بين أن تمارس ذكاءها بخلسة تبعا لما ورثته من الجدات او تلغيه وتحجب عقلها وتتشكل أنثى معدة لإرضاء الرجل بحسب ما أراد خطاب السوق الغربي المصدر للبيئة العربية([29]) .
ولما اهتم العقل العربي بالنص وعاد إليه في تشكيل رؤيته الماهوية للكون فإنه في قضية المرأة أيضا كون صورته الذهنية عن المرأة عن طريق النص وشكل هويتها بحسب ما جاء في نصوص الموروث دون تفكيك ومن دون الرجوع إلى الوجود الواقعي تاريخيا واجتماعيا وإنسانيا ([30]) ، فلما ظهرت أصوات إصلاحية عربية طرحت مفاهيم تساويها بالرجل في حقها بامتلاك الهوية القومية والوطنية ([31]) ، نشأ عندها أفق جديد في تكوين ذاتها بعد أن اقتصر ولحقب طوال على أن يكون مداره حدود الحريم .
هيمنة فكرة مفادها ؛ إن الثقافة المشكلة للسلوك والتفكير ومن ثم الهوية مسيطرة بشكل لا يمكن الفكاك منه ([32]) ، ولما قيدت المرأة بميراث عصور من القهر والتهميش فقد فقدت روح التحدي ([33]) ، وهذا الأخير هو اللازم لتغيير النظرة إلى الثقافة الغالبة وتكوين هوية مستقلة ، خاصة مع الصعوبة التي تنبهت لها الحركة النسوية العربية بعد ملاحظة الاهتمام الثقافي والسياسي بقضية الهوية ، وسجلت مشاهداتها بان المرأة العربية ، طرف منسي ، وآخر مختلف يراد إقصاؤه ، ولتقرر إحدى الناقدات النسويات إن المرأة تمثل حالة الموت بمعنييه الحرفي والمجازي ([34]).
واجهت المرأة العربية في مسيرتها لتكوين هوية واضحة ، ما اتصف به الرجل العربي من (غيرة) شديدة – بالخصوص في المناطق الريفية والمحافظة – إلى درجة أن أصبح اسمها من المحظورات التي تمس كرامة الرجل الذي تنتسب إليه إذ ذكر في مكان عام أو أمام الرجال ([35]) ، ولأن الخطاب الأبوي يرتكز على منظومة التضاد الثنائي فلا تفهم كلمة رجل إلا بذكر كلمة امرأة ([36]) ، فالمرأة العربية – التي مورس عليها هذا الخطاب بأكثر حالاته نموذجية – تعرّف بنسبة وجودها إلى رجل ما ، فهي أمه أو أخته أو زوجته أو ابنته ، فهي كائنة بغيرها لا بذاتها ، مما أدى إلى أن يطغى بعد من شخصيتها على باقي وجودها فأوصلها ذلك أن تكون نموذجا للاغتراب([37]) . فإذا كان اسمها وهو المَعلَـم الأول للهوية يجب السكوت عنه وعدم التلفظ به فكيف يمكن لها أن تستقل بهوية ؟! .
بعد أن صار الرجل هو المعيار الذي يحكم على المرأة تبعا لابتعادها أو قربها منه حتى أصبح يوجد من الآراء من يقرر بأن ” الأنثى ليست سوى انحراف عن الذكر”([38]) .
المرأة الشرقية تنشا وهي تلقن بأنها مراقبة من جميع من حولها وعليها ان تراعي معاييرهم الثقافية ([39]) ، فضلا عما كشفته عدد من البحوث عن كون المرأة العربية ما زالت تعاني من ضعف في ثقتها بذاتها ([40]) ، فتكون هويتها المنعكسة للآخرين غير حقيقية لأنها لا تعبر عما في داخلها بشكل شفاف ، وتقبلت النساء هذه الهوية التي تعتمد بشكل رئيس على مراقبة الآخرين والتي وسمتهن بالجواهر المكنونة ورسخت فيهن سمات الضعف والنقص ([41]) ، ما جعلها تعاني من تعدد الصور المتناقضة التي تريد كل منها الهيمنة على الباقيات لتنفرد بتشكيل الهوية الابرز ، ولان هذه الصور لا يمكن ان تتعايش فيما بينها ([42]) ، لا يمكن تحديد هوية واضحة لها .
وقد تعلق تشكيل الهوية وعلاقتها مع الذات والآخر باللغة التي تصاغ من خلالها والتي تتحكم بنوع الخطاب الذي يمارس دورا رئيسا في التعبير عن هذه الهوية فامكن فهم كيف مورس الارهاب الثقافي المنظم من قبل هذه اللغة وهذا الخطاب في خلق هوية المرأة العربية ([43]) ، لأن اللغة العربية تعد ” من اغنى اللغات ثراء بمفردات الذكورة … ابتداء من الفعل مرأ الذي اشتق منه لفظا : امرؤ وامرأة وفيه دلالة جنسية في مرأ الرجل الطعام طاب له والمرأة من مرئ الطعام وهي اشهى من أي طعام ” ([44]) ، فيما يشير احد الباحثين إلى إن هذا اللفظ له اصوله في اللغة السامية القديمة والآرامية ، فـ (مرأ ) بمعنى السيد المولى ومؤنثها امرأة ، وفي السريانية فلفظ (مار) لقب لشيوخ الدين وتطور في العبرية ليكون (مرء ومرأة ) بمعنى الرجل وأنثاه ([45]) ، ولا تبعد هذه الجذور التي لها اشتراكاتها العميقة في إثبات النتيجة من إن اللغات الشرقية مارست دورا في توكيد دونية المرأة او على الاقل عدم استقلالها كيانا له هويته المنبثقة من ذاته فقد كانت مسمياتها دوما اشتقاقا من لفظة ذكورية .
فيمكن للبحث من استنتاج إن الهوية النسوية ليست مفهوما مستقرا ساكنا وإنما هي تنمو وتتطور ، وهذا يجعل الامل متاحا في تغيير النظرة الجامدة التي لا ترى في المرأة سوى المظهر الشكلي ، وهو لا يجزي في توضيح الهوية التي تحتاج إلى فهم الجوانب الحياتية المتعددة من ثقافية واجتماعية وروحية وفلسفية ، وما يعني البحث هو حين تغدو الهوية موقعا يفسح المجال للحوار بين الاصوات المهيمنة وتلك التي تم اقصاؤها بسبب الاختلاف ، وعبر الحوار حول الهوية يتم اشراك جميع الاصوات في الفاعلية الاجتماعية .
([1]) مرايا الهوية : 434
([2])ينظر : معجم العلوم الانسانية : 1109
([3]) النقد الانثوي وما بعد البنيوية (مقال) : 37
([4]) بول ريكور – الهوية والسرد : 2 : 18
([5])ينظر : الهوية والهويات – الفرد ، الزمرة ، المجتمع : 6
([6])ينظر : الادب والنسوية : 35
([7])ينظر : معجم الاثنولوجيا والانثربولوجيا : 990
([8]) موسوعة علم الانسان : 553
([9])ينظر : معجم العلوم الانسانية : 1108
([10]) موسوعة النظرية الثقافية : 701
([11])ينظر : معجم العلوم الانسانية : 1110
([12])ينظر : تمثيلات الآخر في ادب ما قبل الاسلام : 31