مفاهيم في الفكر الاقتصادي الاسلامي .
       تسليماً بمنهجية البحث الموضوعي فإن أولى خطوات معرفة الفكر الاقتصادي الاسلامي من جهة العموم هو معرفة مفهومه ، فالفكر الاقتصادي انما يهتم بتحديد القوانين والصلة ، او العلاقة التي تحيط بالظواهر الاقتصادية واتباع سياسة معينة – ضمن الايديولوجية القرآنية للاقتصاد – للوصول الى الهدف الاقتصادي في ضوء فلسفة تمثل اصل الفكر الاسلامي .
       ويعتمد هذا بطبيعة الحال – اي الفكر الاقتصادي – على نواحٍ يجب التمييز بينها بوضوح ، هي :
1ـ الناحية الاولى : التحليل الاقتصادي ، ويراد به الكشف عن القوانين التي تحكم العلاقات الاقتصادية ، وكذا تحديد تأثير كل عامل من هذه العوامل المشكلة للقوانين على العلاقة أو الظواهر تلك ” اي الحركة الاقتصادية ” .
2ـ الناحية الثانية : هي السياسة الاقتصادية التي تدرس السبل والوسائل لتطبيق تلك القواعد الاقتصادية ، التي اسميناها في الفقرة الاولى القوانين الحاكمة .
3ـ الناحية الثالثة : وهي الاخيرة ، من متطلبات الفكر الاقتصادي هي الفكر ذاته  ” الايديولوجية ” وفي الاقتصاد الاسلامي مادته الفكر الاسلامي .
       وبذا فإننا نحتج كي نفهم الحركة التاريخية للاقتصاد الاسلامي ، وسوسيولوجية الاقتصاد – حتى في اقتصاد المذاهب وليس الاصل فحسب – الى فهم نظرية الاقتصاد بوحي القرآن الكريم وتحليل تطبيقاتها ، اي عصر النبوة ، ومن ثم مقارنتها مع لاحق الاحداث الاقتصادية وحركته بعد عام 11هـ ، للفصل بين مشروعية مطابقة حركته مع الايديولوجية أو مفارقته لها ، وهذا ما نسميه بالخروج عن نص النظرية ، وهو ما يدرج تحت لفظ حرمة الحركة لفسادها المقرون بالضرر الواقع في الامة – وبعبارة اخرى اننا نحتاج لدراسة الفكر الاقتصادي الاسلامي الى التحليل الاقتصادي لهذا الفكر وهو جانب النظرية ، ثم السياسة الاقتصادية القابلة للتطبيق ، ومن هذا نعرف صحة او انعدام صحة هذه النظرية .
       وفي موضوعنا هذا نحن نميل الى بيان فهم النظرية وصحتها ، والتمييز بين النظرية والتطبيق ، والتطبيق متعلق بدراسة سوسيولوجية الاقتصاد من نص الكتب الاقتصادية الاسلامية – سواء كتب احكام او شريعة – و التاريخية التي يفهم منها طبيعة حركة المجتمع في الاقتصاد ، المطبق لتنظير كتب الاحكام والشريعة ، وهو المختبر الحقيق لفهم سوسيولوجية الاقتصاد آنذاك ، وما ترتب عليه من ديمومة مجرى التطبيق حتى يومنا هذا ، لان فهم التطبيق لا يتم بمعزل عن التاريخ وبيئة المجتمع التي تمخض منها ذلك التطبيق – المادية التاريخية – ثم مقارنته بالأصل .
       أما البعد الثالث من الحاجة هو فهم الفكر المحرك أو الايديولوجية التي تتحرك في ظله السياسة الاقتصادية بعد تحليلها ، وبهذا يمكن ان نميز العوامل الى:
1ـ النظرية : التي تمثل مجموعة القوانين العلمية القادرة على تفسير ظواهر الفكر الاقتصادي الاسلامي .
2ـ السياسة : وهي مجموعة الاجراءات الخاصة المستندة على ادوات ووسائل تسمح بتحقيق أهداف النظرية الاقتصادية .
3ـ الفكر ” الايديولوجية ” : وتمثل القواعد الاساسية الحاكمة للفعل الاقتصادي      – حركته – بجميع مظاهره ، الممثلة في جوهرها المفاهيم الاسلامية ، وهذا ما يخص الاقتصاد الاسلامي .
       خلاصة القول : فان النظرية الاقتصادية الاسلامية المحكومة بقواعد الاسلام،  لا يمكن لها ان تخضع لاحتمالات الصحة أو الخطأ ، أو ان تخضع للمفهوم الوضعي ، لأنها عند إذ تكون خاضعة لاختلافات الزمان والمكان وللرغبة والاهواء الشخصية والصح والخطأ واثر التطبيق ، اذ من الممكن ان لا يخضع الاقتصاد لحركة السوق ، وان تبنى العلاقات الانتاجية على اساس رغبة المتحكم ، لان نمطية الاقتصاد – اقطاعية أو غيرها – هي التي تفرض طبيعة العلاقة الانتاجية وسياسة السوق  ، وبهذا تبعد عن صفتها الالهية – اي مصدريتها – أو الدين ، والسبب عائد الى ان هذا الفكر منبثق من إرادة كلية منزهة عن الخطأ أو القصور ، اي انها تمثل العقل المطلق ، والكمال المطلق ، والارادة المطلقة ” الله عز وجل ” وكذلك ايضاً ان هذه النظرية ، أو الفكر المحرك لها ناتج عن العقل الخالق .
       وأخيرا فان المجتمع أفراداً أو جماعات فاعلة في المنظومة الاقتصادية يمثل العقل المخلوق ، فيقع عليه من جراء هذا تطبيق تلك القواعد عن طريق هذه النظرية – بوصفها قاعدة حاكمة في الاقتصاد – التي نحن بصدد تحليل مفاهيمها ودراستها ، وفهم سياستها ومذهبها الاقتصادي ، للوصول الى الهدف الذي وضعت من اجله ، وهو استمرار النوع البشري وسعادته ورقيه في دار الدنيا ، فمن غير طلب المعاش تنعدم الحياة ، لذا على وفق هذا المفهوم لا يمكن ان تُوصف بالخطأ ، لان ترك الامر للعقل البشري مع العلم باتصافه بالخطأ والنقص عن الكلية ، او حتى فهم الجزئية يولد الخطأ في فهم بعض مظاهر العمليات الاقتصادية .
       ولو نظرنا في النظريات الوضعية لوجدنا انها تحرك الذات البشرية فتثيرها فتتحرك بحسب ايديولوجيتها ، سواء أكانت شيوعية ام رأسمالية ، فالأنانية الفردية في الرأسمالية مثلا تؤكد على الفرد المالك فتتيح له كل الوسائل من اجل زيادة راس ماله كي يشبع حاجاته ومتطلباته في امتلاك وسائل الانتاج ، اما الماركسية والشيوعية فتجعل من الفرد الكادح محور الحركة ، إذ تحرك فيه المحرومية فتحول منها دافع وقوة مغيرة لواقع المجتمع وطبيعة الاقتصاد معاً ، اي ان مذاهب الاقتصاد[1] في الوضعية تنطلق من الفردية ثم الجماعية ، علما اننا لا نريد القول بتشابه الاثر بالنسبة للنظريتين وتطابق الفكرين ، كما ان الماركسية كانت اقرب بكثير من واقعية الحركة الاقتصادية البشرية وهي اكثر مناسبة لهم ، اذ يمكن ان نقول : هو قمة ما حققه الابداع الانساني في المنظور الاقتصادي لأنه من بنات افكاره ” العقل الناقص ” ، في حين ان المذهب الاقتصادي الاسلامي سار على عنوان الحركة الجماعية ، اي تحريك دوافع غير دوافع الانانية الفردية والذات ، فهو يعتمد اثارة الدوافع الجماعية لا الفردية – مع اعترافها بحاجات الفرد ونزعته الذاتية – اي على اساس اثارة الشعور بالمسؤولية لدى الفرد اتجاه المجتمع ، وكذا المجتمع اتجاه الفرد على اساس قيم يؤمن بها – القانون وحكمه بالثواب والعقاب – الذي أوجده الاسلام ” العقل المطلق ” ، وحركة الفرد في تحقيق الذات والنزوع الى الانانية تحكمه القوانين التي تدفع به نحو الاداء الجماعي ، فهو يحقق رغبته ضمن المصلحة العامة لا خراجها ، كما يضمن المجتمع له حق الحركة والملكية ، وايديولوجية المذهب الاقتصادي الاسلامي تضمن عدالة التوزيع .
       وبهذا ننتهي قائلين : الى وجوب انعدام تحكم المذهبية الفكرية الاسلامية في النظرية الاقتصادية ، لان البناء الاقتصادي فيه سيؤدي الى ان يخضع الى منظور الطبقية ، والفردية ، والانانية الذاتية ، لان المذهبية وليدة العقل البشري – مع ان التطبيق في حقيقته قد سار عليها – ومن الثابت ان النقص مرجعه لطبيعة العقل الانساني – وهذا ما اسلفناه تواً ، فكيف بحسب هذه المعطيات ان تكون للمذهبية اثر في وضع أو شرح النظرية المحركة للاقتصاد والتحكم فيها بواقع الرأي والاعتماد على الاجتهاد غير المقيد ، لان التقييد الذي سارت عليه كانت من لدن المشرع الاول ورأيه ” التفسير بقاعدة العقل الناقص ” في عصر الصحابة ، ولم يكن التقييد على قاعدة الايديولوجية الاصل ، لان الرأي لم يكن من واقع النص بل الاجتهاد مقابل النص فعطله وخرج عنه في حالات كثيرة ، لذلك كان الخروج عنه في العصر الراشدي سببا بظهور طبقة اقتصادية لم يكن لها وجود سابقاً ، الطبقة الثيوقراطية الاقطاعية ، غير ان النبي صلى الله عليه واله غادرهم وهو شارح لهم كل مفاصل قانون اقتصاد الاسلام ، ولم يغادره في تطبيقه قيد انملة ، فكيف ان يعقل يتركهم من غير تفسير أو ان يشرح لهم تمام القواعد الحاكمة ، وهو يعلم ان الاقتصاد محل معاشهم واستمرار نوعهم ورقي انفسهم ودينهم ، وانها ايضا من متممات الدين ، فأكثر الحلال والحرام قائمة فيه ، فلا يمكن ان يتركها ناقصة ، وإنما ترك لهم وضع سياسات التطبيق باختيار انسب الوسائل للزمان والمكان المعني الذي هم فيه ، ليحاكوا طبيعة العصر وانماط الحياة فيه ، أما نمط الاقتصاد الاساس ومذهبيته فثابتة . 
 
[1] ـ نحن فرقنا بين المذاهب الاقتصادية التي هي : الطريقة التي يسير عليها الاقتصاد او الوسائل التي يعتمد عليها في المجال الاقتصادي من جهة ، واقتصاد المذاهب وتعني المذاهب الاسلامية التي كان لكل منها راي في مسألة معينة من وسائل الاقتصاد تنتهجها على وفق اعتقادها ومنهجها الاصولي وطرق استنباط الاحكام .

شارك هذا الموضوع: