مفهوم الإقناع
بقلم ضياء ريحان السعيدي
يسعى الشعراء إلى ترك أثرٍ إقناعيٍّ فاعلٍ في ذوات المخاطبين في خطابهم الشعري، وقد تتجلّى أنساق بنى الإقناع في أغلب نصوص الشعر العربي التي تعمد إلى جذب المخاطب واستمالته، إذ يحاول الشعراء إلى إحداث تغيير قبولي في قناعات المخاطبين ورؤاهم الفكريّة والشعورية؛ فالإقناع آلية لها أثر فاعل في تدشين هيمنة نفوذ الخطاب السلطوي.
وتعود نشأة مفهوم الإقناع إلى البيئة اليونانية الفكرية، إذ لم يفصل اليونانيون الإقناع عن حقولهم السياسيّة والتعليميّة، فقد كانت ممارسة العمليّة الإقناعية لدى السوفسطائيين تقوم على وشائج وطيدة، منها حريّة الفكر والرؤى المغايرة لهُ في التفكير والسلوك الوجودي، وأوّل مَنْ تحدّث عن مبادئ هذا المفهوم عندهم هو أرسطو (384-324هـ) قبل الميلاد، فقد ذكر في كتابه فن الخطابة أهم الآليات التي تساعد على تحقيق غاية الإقناع عند المخاطبين.
وقد تمرُّ مراحل عملية الخطاب الإقناعي عند أرسطو بثلاث مراحل تتابعيّة، هي: تقديم الأدلّة المقنعة للمخاطبين، والنمط الأسلوبيّ الذي يتّخذه المتكلّم في عملية إيصال خطابه، والطريقة التراتبيّة لمكونات القول وحيثياته، ومن ثمَّ أضفى أرسطو لهذه المبادئ الثلاثة: الإلقاء بوصفهِ المؤثر الرئيس الذي يعمد فيه المتكلم إلى التأثير في المخاطبين.
أشار بعض النقّاد العرب إلى مفهوم الإقناع بإشارات ضمنيّة في بطون كتبهم عندما عرفوا المعنى ولكن من دون تحديد تسمية هذا المصطلح، إذ يقول الجاحظ في هذا الصدد: “إذا كان المعنى شريفاً واللفظ بليغاً، وكان صحيح الطبع بعيداً عن الاستكراه، وكان منزّهاً عن الاختلال، مصوناً عن التكلَّف، صنع في القلوب صنيع الغيث في التربة الكريمة”، فعبارة صنع في القلوب صنيع الغيث في التربة الكريمة تدلُّ على الأثر الإقناعيّ الذي يتركه المتكلّمُ في عقل السامع ونفسه، وقد عُرف الإقناع بأنه “الجواب الذي يوجب على السائل القبول، فإن لم يقبل، ولم يرد فقد انقطع”، وقد عرّفه حازم القرطاجني بأنّه “حمل النفوس على فعل شيء، أو اعتقاده، أو التخلّي عن فعله واعتقاده”.
وينبغي أن يكون الإقناع ذا وقع تأثيري سليم، ويؤثر في قناعات المخاطبين، ويحدث في عقولهم تغيّرات كليّة أو جزئية بوساطة تقديم الحقائق ذات الحجج المنطقيّة المقبولة، والأدلة الناصعة، من دون سلطة عليهم، وتكون هذه البراهين قابلة للتغيير والتعديل بحسب المستجدات الزمنيّة والمكانيّة، وبحسب طبيعة المضامين، والأحداث، والأفكار المبتكرة، ومن ثمَّ فهو”عملية إيصال الأفكار، والاتجاهات، والقيم، والمعلومات، أمّا إيحاء أو تصريحا، عِبْرَ مراحل معينة، في ظلِّ حضور شروط موضوعيّة وذاتيّة مساعدة، وعن طريق عملية الاتصال”.
فعمليّة الإقناع التي يعمد المتكلّم إلى توظيفها في مخاطباته تّعدُّ محاولة منطلقة من وعيه المدرك، ويسعى فيها إلى ترك تأثيرات قصديّة في رؤى وسلوكيات الآخرين بوساطة توظيف جملة من الاستمالات الشعوريّة، والفكرية التي تنماز بالآليات المنطقية، وعند توظيف آلية الإقناع في الخطاب الشعريّ يتحتمُّ على الشاعر الدراية، والمعرفة بالظروف الشعوريّة للمخاطبين المتمثلة بالخوف، والشجاعة، والهدوء، والغضب، والقسوة، والرحمة وما يرافقها من غرائز، وملذّات، والألم بحسب الطبقات الاجتماعيّة والأعمار البشريّة المتفاوتة لكي يحقق من ذلك الوصول إلى قناعتهم النفسيّة.
فضلاً عن ذلك فإنَّ “الإقناع يحدث عن الكلام نفسه إذا أثبتنا حقيقية أو شبه حقيقة بواسطة حُجج مقنعة مناسبة للحالة المطلوبة”، ومن الممكن أن يكون كُلُّ خطابٍ حجاجيٍّ خطاباً إقناعيّاً، ولكن من غير الممكن أن يكون كل خطاب إقناعي خطاباً حجاجياً، فكان محتوى كلِّ نصِّ موجهّ من أهم العناصر في عمليّة الخطاب الإقناعيّ؛ لأنّ محتوى النصِّ يتمُّ بواسطته نقل قصدية المتكلّم إلى المخاطب، ولكي يكون لهذا المحتوى وقع تأثيري مقنعٌ يجب أن يكون منطقيّاً مقنعاً وإلّا فقد خاصيّتهُ التأثيريّة.
ويشترط في الخطاب الإقناعيّ أن يكون خطاباً متواشجاً مع المستوى الثقافي للمخاطب؛ ودونهُ لن يستطيع الخطاب الإقناعي تأدية قصديته الإقناعيّة الموجّهة، وقد يقوم مفهوم الإقناع على جملة من الاستمالات في أثناء مخاطبة المستمعين، منها:
– الاستمالة العاطفيّة: التي تستهدف التأثير في شعور المخاطب، وتحريك انفعالاته النفسيّة، وإثارة حاجاته الاجتماعيّة، ومخاطبة حواسه بما يحقّق قصديّة الهدف التواصليّ.
– الاستمالة العقلية: التي تعمد إلى الإقناع في مخاطبة عقول المخاطبين وتقدم لهم الحجج والبراهين المنطقيّة، وتفنّد آراء الآخر المغاير لها في الفكر والسلوك الشائع بعد مناقشتها وتجلّي حيثيّاتها المتباينة.
– استمالة التخويف: التي تعمد إلى إذكاء وتنشيط الإثارة العاطفيّة عند المخاطبين، كإثارة تخويف الناس من الحروب وعواقبها الشريرة، وتنبيه النّاس من الأمراض الخطيرة.
وتقوم البنى الاقناعيّة في سياق المدونّات الخطابيّة على نمط الاتّباع الافهاميّ التدريجي، إذ يُعدُّ التدرّج أحد أبرز المرتكزات الذي يقوم عليه الخطاب الإقناعيّ، ويتصدرُّ حيثيات وأنماط الإقناع النافذة لجذب وإقناع المخاطبين؛ لأنّ هذا النمط يتواشج مع القدرات الإفهاميّة والمدركة لعقل الإنسان.
وينبغي أن يمرَّ الخطاب الإقناعيّ بمراتب تدريجيّة لتحقيق الغاية الإفهاميّة فـ”ينبغي للعاقل أن يكون بصيراً بترتيب قوله، عالماً بمراتب المستمعين له في قبوله، فلا يأتيهم منه بما ينافر طبائعهم، ويكون سبباً إلى إعراضهم، ثمَّ لا يزال يلطف لهم في ذلك، ويوفيّهم من حال إلى حال فيه حتى يبلغ بهم قصده، فإنّ ذلك أصوب في الرأي، وأولى بالقبول”.