مفهوم الاخر عند الشاعر أديب كمالدين
تعددت صور الآخر عند الشاعر أديب كمال الدين اذ تنوعت بين الصور الايجابية والسلبية ،فبعضها كانت انعكاسا للظروف القاسية التي عاشها الشاعر في بلده فعبرت عن ذاته المقهورة والمظلومة وذاته المتألمة وقد حققت في إثارتها الشعرية وفاعليتها المشهدية دلالات كثيرة مما يعكس بوضوح الفضاء الدلالي والواقع المعيش لتلك الذات .
وأما صور الآخر عند الشاعرفكانت متنوعة بين الاخر المثال الذي اتخذ منه قدوة للآخرين في رسم منهاج حياته واضفاء هالة من القدسية والتكثيف الدلالي داخل رموز القصيدة محملة بالابعاد الروحانية الصادقة والعميقة التي تصل حد الإدهاش . والذي يلعب دورا بارزا في تعميق التجربة الذاتية .
اما صور الاخر المدنس فتمثل بصور متعددة من قهر السلطة ودكتاتوريتها ومن الصديق الخائن وصور المنافق فجاءت صور فنية مثيرة حافلة بالمشاهد التصويرية المؤلمة التي تختزن من الذاكرة دلالات عميقة تشف عن وجع واذى عاشه الشاعر في حياته .
اولا : الأنا الضائعة والمتألمة
ومن أمثلة ذلك كثرا ماورد في قصائده للإشارات على روحه الضائعة ، ومنها قصيدته
التّعساء
في ذلك العام الذي لا عام بعده،
خرجتُ إلى الشّارع
في دورِ المُشرّدِ الحقيقيّ
والهاربِ الضّائع.
فَتَحتّمَ عليَّ
أنا الصّبيّ الباحث عن رغيفِ الخبز
أن أطرقَ البابَ الأربعين
بل أن أكسرَ البابَ الأربعين
لأُفَاجَأ بأنكيدو يصارعني،
وكلكامش يقرأ عليَّ سرَّ أفعاه،
والحلّاج يشير إلى صليبه،
والتّوحيديّ يعرض عليَّ بعينين دامعتين
رمادَ كتبه،
وهاملت يهذي عن حبيبته،
والسيّاب يرثي ارتباكه العظيم.
يا لها مِن مفاجأة!
لم أكنْ سوى هاربٍ ضائع،
سوى صبيّ يبحثُ عن رغيفِ خبز
فلماذا تَحتّمَ عليَّ
أن ألتقي بكلِّ هؤلاء التّعساء
وأرث كلَّ خيباتهم الكبرى؟
نجد في المقطوعة الشعرية اعلاه الاحتدام الدرامي بين الشاعر ونفسه وما يعانيه من ظروف صعبة تجعله يشعر بالمتاهة والضياع صراع بين نفسه وأمور كثيرة ، وما تبع هذا الصراع من ضعف وجوع وقهر وغربة فهو يرى نفسه ذلك الصبي الصغير الضائع الذي يبحث عن رغيف ليعيش به ، وهي انطلاقة توترية عند الشاعر انه من طفولته لم يجد الراحة في بلده ، وقد احتدم الصراع عندما كبر ووجد كل العظماء يشكون همومهم من هذه الحياة وكل يبث شكواه بطريقته الخاصة فيستشهد بالشاعر العراقي بدر شاكر السياب الذي يمثل ايقونة الشعر العراقي المغترب ،وكذلك التوحيدي المولف الكبير والحلاج المتصوف البارع الذي عد رمزا للتصوف .فهو يستخفي وراء هؤلاء بكل آهاته وهمومه واحزانه .
ومن امثلة ذلك ايضا مانجد الأنا المتألمة المتشائمة الضائعة ماورد عنده في قصيدته (القهقهة)
القَهْقَهة
ما بينَ البكاء الأوّل والبكاء الأخير؛
قَهْقَهةٌ ساخرة.
*
أحياناً أشكُّ في ما قلتُه
فأقفُ أمامَ المرآة
وأكتبُ عليها بحروفٍ من ضَحِك:
قاه قاه قاه!
وأضحكُ ممّا أفعل حدّ البكاء!
*
أعترفُ بأنّني قد وصلتُ
بعدَ سبعين عاماً
من ماراثونِ المنافي
والوطنِ المُهشّمِ والوطنِ الذّبيح.
وصلتُ فاغرورقتْ عيناي بالدمع.
ولكنْ وصلتُ إلى ماذا؟
أإلى نقطةِ الباء
أم إلى نقطةِ الفاء
أم إلى نقطةِ الماء
أم إلى نقطةِ المستحيل؟
*
كلّما حاصرني الليلُ بأنيابه،
أضطررتُ أن أكتبَ قصيدتي
دونَ شين الغواية
أو راء الاعتراف
أو سين السّرير.
*
بابُ الاضطرارِ واسع.
نعم،
لكنَّ الدّخول إليه
– وا أسفاه –
لا يتمُّ إلّا من ثقبِ المفتاح!
*
ما أكثر ما حاصرني الليل
حتّى أنّني نسيتُ أو تناسيتُ
عنوانَ البيت
ورائحةَ النّهر
وبهجةَ القُبْلَة
ومطلعَ الأغنية
ورقصةَ الموت.
*
بابُ النّسيانِ واسع.
نعم،
لكنْ لا يتمّ الدّخول إليه ،
لاشك ان محفزات هذه القصيدة هي محاورة الشاعر مع نفسه فكأنها محاججة في حراكها الجمالي ،محققة أعلى درجة من الإثارة في جذب انتباه المتلقي بما كان يعانيه الشاعر من الالم والغربة والضياع بأسلوب ساخر من نفسه فهو يعرض مشاهد بصرية على شكل لقطات مثل (وأضحكُ ممّا أفعل حدّ البكاء! ، أعترفُ بأنّني قد وصلتُ
بعدَ سبعين عاماً
من ماراثونِ المنافي