مفهوم الاستلزام الحواري في الدرس اللساني
د. علي عباس فاضل
وضع هذا المبدأ بول غرايس الذي رأى  (( أنّ الاستلزامَ نوعان: استلزام عرفي واستلزام حواري؛ أمّا الاستلزامُ العرفيُّ – ليس  له علاقة بالدراسة- فقائمٌ على ما تعارفَ عليه أصحابُ اللغة من استلزامِ بعضِ الألفاظ دلالاتٍ بعينها لا تنفك عنها مهما اختلفت بها السياقات وتغيرت التراكيب، فقولك (لكن) مثلا تستلزم دائما أن يكون مـا بعدها مخالفا لما يتوقعه السامع، وأما الاسـتلزام الحـواري – وهو موضوع الدراسة-، فهـو متـغيرٌ دائـما بتـغير السيـاقات التي يرد فيها ))(1).
 وقد تعددتْ تسمياتُ هذا المصطلح (الاستلزام الحواري) بين اللسانيين فمنهم من يسميه بالاستلزام الحواري أو التخاطبي وبعض يطلق عليه الاقتضاء التداولي، ومنهم من يسميه بمبدأ التعاون معتمدًا على ما أشار إليه غرايس، فقد نشأت هذه النظرية في مهاد نظرية الأفعال الكلامية، وما يرتبط بالتلفظ من أفعالٍ؛ التي أرسى أُسسها العالم (أوستين)، ومنها انبثقت أهم دراسات (غرايس) في (الاستلزام الحواري)؛ إذ رفضَ  (أوستن) وفلاسفةُ (مدرسة أكسفورد) ما يسمى بـ(الوضعية المنطقية) التي حددتْ وظيفةَ اللغة بكونها أداةً رمزيةً للوقائع الموجودة في العالم الخارجي, وقد افترضت معيار(الصدق والكذب) للحكم على الجمل, وهو ما أدى إلى اهتمام هذه الفلسفة بالجمل الخبرية(2).
 وكان اهتمام (الوضعية المنطقية)؛ مقتصرًا على كلِّ ما هو موضوع في العالم الخارجي، ووصفها كان يعتمدُ الأساس المنطقي؛ إذ كان  أصحابُها يكتفونَ بتحليل لغة العبارة ذاتها تحليلًا منطقيًّا، ثم يقبلونها بعد ذلك أو يرفضونها على هذا الأساس وحده(3)، (( لقد أنكر أوستين أن تقتصر وظيفة اللغة على وصف وقائع العالم وصفا يكون إما صادقًا وإما كاذبًا وأطلق عليه المغالطة الوصفية، ورأى أن هناك نوعًا آخر من العبارات يشبه العبارات الوظيفية في تركيبها, لكنّه لا يصفُ وقائعَ العالم ولا يوصفُ بصدقٍ ولا كذبٍ))(4).
وقد انقسمتْ الفلسفةُ التحليليةُ على ثلاثة فروع هي: الوضعانية المنطقية بزعامة رودولف كارناب، والظاهراتية اللغوية بزعامة إدموند هوسرل، وفلسفة اللغة العادية بزعامة فيتغنشتاين، ومن فلسفة اللغة العادية نشأت الأفعال الكلامية(1).حاول اوستين البرهنة على تماثل نوع المخالفة بين المنطوق التقريري والمنطوق الإدائي(2).
ومن هنا انطلقَ غرايس عندما وضعَ طريقةً جديدةً في فهم التداولية ومسألة التواصل وتُمثّلُ الإسهامَ الرئيسَ له على المستوى النظري في أنّه أدخلَ مفهومَ الاستلزام الخطابي الذي مكّنَ من فهم الاختلاف المألوف بين دلالة الجملة والمعنى الذي يبلغه القول(3)، (( فالجملة هي سلسلة من الكلمات التي يمكن لزيد أو عمرو أو صالح التلفظ بها في ملابسات مختلفة ولا تتغير بتغيّر هذه الملابسات، أما القول فهو حاصل التلفظ بجملة, وهو يتغيّر بتغيّر الملابسات والقائلين))(4).
وقد توصَّل (غرايس) إلى نظرية (الاستلزام الحواري أو التخاطبي) في مجموعة مقالات له بعنوان (المنطق والحوار)(5)، وهذه النظرية تعدُّ أهمَّ عناصرِ (التداولية)؛ فقد قدَّمَ بها تفسيرًا للخلاف بين (الدلالة الحرفية) للخطاب، والمعنى الذي يتم إبلاغه للمتلقي(6).
وأشارَ (غرايس) أيضًا إلى وجود معنيين للخطاب، أحدهما (صريح)، والآخر (ضمني)(7)، والمعنى(الضمني) هو المعنى المقصود في دراسة (الاستلزام الحواري)؛ والمعاني الصريحة هي: (( تلك التي تدل عليها صيغة الجملة ذاتها))(8)، أمَّا المعاني الضمنية فهي: (( تلك التي لا تدل عليها صيغة الجملة، وإنَّما تتولد طبقًا
للسياقات أو المقامات التي تنجز فيها))(9).  
وقد وضع غرايس لظاهرة الاستلزام الحواري مبدأ (التعاون)(10)، ويقوم هذا المبدأ على التعاون بين المتكلم، والمخاطب في بيان دلالة الخطاب، وصيغة هذا المبدأ هي: (( اجعل مساهمتك في المحادثة بحسب ما تتطلبه الحال في أثناء المحادثة برعايةِ الغرض المطلوب، أو اتجاه تبادل الكلام الذي تشارك فيه ))(1).
ويتكون هذا المبدأ من أربع قواعد رئيسة تتضمن كل واحدة منها قواعد فرعية، وهذهِ القواعد، هي(2):
  1. قاعدة الكم: اجعل إسهامك في الحوار بالقدر المطلوب من دون أن تزيد عليهِ أو تنقص منه.
  2. قاعدة القيمة أو الكيف: لا تقل ما تعتقد أنَّه غير صحيح، ولا تقل ما ليس عندك دليل عليهِ.
  3. قاعدة العلاقة أو المناسبة: اجعل كلامك ذا صلة بالموضوع.
  4. قاعدة الطريقة أو الصيغة: كن واضحا، وتجنب الغموض، واللبس، وأوجز الكلام ونظمه.
وتتم ظاهرة (الاستلزام الحواري) عندما يقوم المتكلم بخرق مبدأ أو أكثر من مبادئ التعاون، وهذا الخرق يؤدي إلى انتقال دلالة اللفظ من معناها الظاهر إلى معنى غير صريح(3)، فهذا الانتهاك لمبدأ التعاون يفرض على المتلقي البحث عن المعنى المطلوب، ومع هذا الخرق يبقى المتكلم والمخاطب مخلصينِ للمبدأ السابق؛ إذ إنَّ المتكلمَ حريصٌ على إبلاغ المخاطب معنى بعينه، والمخاطب أو المتلقي يبذل الجهد اللازم للوصول إلى ذلك المعنى الذي قصده المتكلم من دون أن يضلِّل أحدهما الآخر(4)، وذكر(غرايس) مجموعة من الخصائص التي يتصف بها (الاستلزام الحواري) التي تميِّزهُ من (الاستلزام العرفي)، وأهم هذه الخصائص، هي(5):
1- قابلية الإلغاء: ويكون بإضافة قول أو مجموعة أقوال تفسِد استلزام الجملة لمعنى معين، نحو: لم أقـرأ كـل كتبك، فهـذا القول يستلزم قـراءة بعضها، فـإذا أعقبنا
القول السابق بقولنا: الحق إنِّي لم أقرأ أيًّا منها، فهذا القول يلغي الاستلزام التخاطبي.
2- الاستلزام لا يقبل الانفصال عن المحتوى الدلالي: ويقصد به أن الاستلزام الحواري متصل بالمعنى الدلالي لما يقال لا بالصيغة اللغوية التي قيل بها(1)، فالاقتضاء لا يأخذ بمقام الحال في تفسير معنى اللفظ بخلاف الاستلزام الحواري، فقولهم:(فلانة جميلة) على سبيل السخرية يستلزم تخاطبيا: فلانة قبيحة (2).
3- قابلية التغير: والمقصود بهذه الخاصية أنَّ الاستلزام يتغير بتغير السياقات التي يرد فيها؛ فالجملة:(كم عمرك؟) تستلزم في سياق ما السؤال عن عمر المخاطب، وفي سياق آخر الإنكار على فعل قام بهِ(3)، وهذا يعني أنَّ الاستلزام التخاطبي متغير بحسب السياقات.
4- قابلية التأويل والتقدير: وتشير هذه الخاصية إلى قيام الاستلزام الحواري على جملة من الإجراءات يقوم بها المخاطب للوصول إلى ما يستلزمه الكلام(4) للمرور من (المعنى الحرفي) للملفوظ إلى (المعنى المقصود)، وتقوم هذه الإجراءات على افتراض احترام مبدأ التعاون مع إمكانية حصول خرق في قوانينه الفرعية، والمخاطب يدرك ذلك المعنى المقصود، فالمثل العربي: (كثير رماد القدر) يجعل المتلقي يقوم بسلسلة من التأويلات لتفسير دلالة الجملة بالمضياف(5).
ولم تسلم نظرية (غرايس) في الاستلزام الحواري من النقد فقد وجهت لها انتقادات عدة؛ منها إسقاطه الجانب التهذيبي في عملية الحوار، واكتفاؤه بجانب التبليغ في الحوار(6).
وقد زِيْدَتْ على هذه النظريـةِ فيـما بعد مبـادئ أخرى كمبدأ (التهذيب) وغيره(7).
والانتقادات الموجَّهة لـ(غرايس) لا تتعلق بالجانب اللغوي في عملية الحوار؛ فالمقترحات أو المبادئ التي زيْدَتْ على مبدأ (التعاون) تتعلق بالدرجة الأساس بشخصيات الحوار وضرورة زيادة مبادئ تراعي حالهم بخلاف مفهوم (غرايس) الذي تمحْورَ في الجانب التداولي من أبنيةِ اللغة؛ وأهم ما يميز مبدأ (التعاون) والقواعد المتفرعة منه هو أنَّها صدرت من (غرايس) الذي نشأ في ظل مدرسة (أكسفورد) التي ذكرت سابقا أنَّها تأثَّرت بفلسفة (فنجشتاين)، وهذه الفلسفة انطلقت من قضية محورية في دراسة اللغة، وهي دراسة ظروف استعمالها، والانطلاق من الدلالة الحرفية للملفوظ إلى الدلالات الضمنية أو ما يحملهُ اللفظ من قيمة دلالية.
وأفكار(غرايس) السابقة في تفسير دلالة اللفظ على غير المعنى الحرفي له، قادته إلى تقسيم الدلالات التي يحملها اللفظ على معانٍ صريحةٍ وأخرى ضمنية، وهي كما يأتي(1):
1-المعاني الصريحة: وهي المدلول عليها بصيغة الجملة نفسها، وتقسم على:
أ-المحتوى القضوي: وهو مجموع معاني مفردات الجملة مضموم بعضها إلى بعض في علاقة إسناد.
ب-القوة الإنجازية الحرفية: وهي القوة الدلالية المؤشَّر لها بأدوات تصبغُ الجملة بصبغة أسلوبية ما كالاستفهام، والأمر، والنهي، والتوكيد.
2- المعاني الضمنية:وهي المعاني التي لا تدل عليها صيغة الجملة بالضرورة، ولكن للسياق دخل في تحديدها والتوجيه إليها، وتشمل ما يأتي:
  • المعاني العرفية: وهي الدلالات التي ترتبط بالجملة ارتباطا أصيلا، وتلازم الجملة ملازمة في مقام معين، مثل معنى الاقتضاء.
  • المعاني الحوارية: وهي التي تتولد طبقا للمقامات التي تُنجَز فيها الجملة، مثل الاستلزام الحواري.
ويميز غرايس من خلال هذا بين المعنى الحرفي للملفوظات، وما يتم إبلاغه للمتلقي، لكن (سيرل) يرى أن نظرية(أفعال الكلام)- التي طرح فيها مفهوم (فعل الكلام غير المباشر)- جزءٌ من نظرية الإنجازات في اللغة؛ فقد صنَّفَ (أفعال الكلام)على صنفين هما(الأفعال المباشرة)، و(الأفعال غير المباشرة)(2) وبهذا يكون قريبا مما أراده غرايس، والفعل (غير المباشر) هو الفعل الذي ينجزهُ المتكلم زيادةً عن الفعل الكلامي الذي تدل عليهِ الصيغة النحوية بصورة مباشرة؛ فمثلا قد تأتي جملة استفهامية وفي الوقت نفسه يقصد بها معنى آخر؛ فمعناها النحوي يمثل فعلها المباشر أما الحدث أو المعنى المنجز فيتمثل بالفعل غير المباشر(3), وقد طرحَ (سيرل) جملة من المراحل الاستدلالية للوصول إلى الفعل الإنجازي غير المباشر المتكون من فعلين، هما (الفعل الإنجازي الابتدائي)، و(الفعل الإنجازي الثانوي)(1)، وترتبط هذه الخطوات بما وضعه من شروط لإنجاز الأفعال اللغوية(2).
 وقد وجهت بعض الاشكالات على مبدأ الاستلزام الحواري وهي(3):
  • في حالة استعمال جملة ما, مخروجا بمعناها الظاهر المدلول عليه بصيغتها, إلى معنى آخر, ما هو في نهاية الأمر التأويل المطلوب إعطاؤه لهذه الجملة ؟ أيُعتمدُ المعنى المستلزم وحده بعدِّه السابق إلى الفهم أم يُعتمد المعنى الصريح والمعنى المستلزم معًا, بوصف الثاني ناتجا عن الأول.
  • في حالة اعتماد كل من المعنيين, يجد الواصف المتصدي لتحليل الظاهرة نفسه أمام مشكلين رئيسين اثنين:
  • كيف تتم عملية الاستلزام هذه, أي كيف يتم الانتقال من المعنى الصريح إلى المعنى المستلزم خطابيا بوجه عام؟
  • كيف يمكن معرفة المعنى وضبطه الذي تخرج إليه صيغة معينة من الصيغ الجملية كالاستفهام والأمر والنداء والنهي؟
والإجابة على هذين الاشكالين تُمَكِّنُ من تحديد المعنى المراد من خلال الرجوع الى السياقات التي ترد فيها الجمل وبهذا يمكننا الوقوف على بعض الجوانب التي تؤدي الى المقاصد التي يريدها المتكلم, وكذلك الرجوع الى دلالة الملفوظ الحرفية وموازنتها مع سياق ورودها وما ورد معها من ملفوظات للحصول على دلالتها المقصودة داخل النص.
 
(1) آفاق جديدة في البحث اللغوي المعاصر: 33
(2) ينظر: التحليل اللغوي عند مدرسة أكسفورد, صلاح إسماعيل عبد الحق :135.
(3) ينظر: المرجع نفسه:244.
(4) آفاق جديدة في البحث اللغوي المعاصر: 43.
(1) ينظر: المكون التداولي في النظرية اللسانية العربية ظاهرة الاستلزام التخاطبي أنموذجا, ليلى كادة، كلية الآداب واللغات/ جامعة الحاد لخضر-باتنة، الجزائر(أطروحة): 22-29.
 (2) ينظر: التحليل اللغوي عند مدرسة أكسفورد:157.
(3) ينظر: القاموس الموسوعي للتداولية, جاك موشلر- آن ريبول: 212.
(4) التداولية اليوم علم جديد في التواصل: 55
(5) ينظر: آفاق جديدة في البحث اللغوي المعاصر: 3.
(6) ينظر:التداوليات علم استعمال اللغة: 293.
(7)  ينظر: التداولية عند العلماء العرب: 33.
(8)  الاستلزام الحواري في التداول اللساني, العياشي أدراوي : 15.
(9) الاستلزام الحواري في التداول اللساني: 15.
 (10)  ينظر: الاستلزام الحواري في التداول اللساني : 99
 (1) النص والخطاب والإجراء, روبرت دي بوجراند : 495
 (2) ينظر:  آفاق جديدة في البحث اللغوي المعاصر: 35.
 (3) ينظر:  اللسان والميزان أو التكوثر العقلي, د. طه عبد الرحمن:239 .
 (4)  ينظر: آفاق جديدة في البحث اللغوي المعاصر:37.
 (5) ينظر: المرجع نفسه: 39- 41.
 
 (1) ينظر: الخطاب اللساني العربي، د.بن عيسى عسو أزاييط :2/ 337.
 (2)  ينظر: الخطاب اللساني العربي:2/ 337.
 (3) ينظر: آفاق جديدة في البحث اللغوي المعاصر: 30.
 (4) ينظر: المرجع نفسه:39.
 (5) ينظر: الخطاب اللساني العربي: 2/336.
 (6) ينظر: الاستلزام الحواري في التداول اللساني: 118.
 (7) ينظر: اللسان والميزان أو التكوثر العقلي: 240- 249.
 (1) ينظر: التداولية عند العلماء العرب: 34- 35.
 (2) ينظر:التداوليات علم استعمال اللغة:296 .
 (3) ينظر: نظرية الفعل الكلامي, هشام عبدالله الحليفة: 152- 153، ومعجم تحليل الخطاب, باتريك شارودو وآخرون: 22-23.
 (1) ينظر:الخطاب اللساني العربي:2/ 249- 250.
 (2) ينظر:المرجع نفسه: 2/250.
 (3) ينظر: التداوليات علم استعمال اللغة: 292 – 293.

شارك هذا الموضوع: