التناص الديني في مسرح محمد علي الخفاجي الشعري
أ. د رفل حسن طه الطائي \التربية للعلوم الانسانية \جامعة كربلاء
يعد التناص واحداً من الاساليب او التقانات التي تدخل في البنية الاساسية للنصوص,وهي تُداخل بين نصين هما:النص الغائب والنص الحاضر,وقد يُداخل الكاتب بين اكثر من نصين غائبين ,بل قد يلجأ احياناً الى استدعاء اجناس متنوعة كالشعر والرواية والمسرح وغيرها وتوظيفها في نصه,لذا فإنه يكتسب اهمية كبيرة نظراً للدور الذي يلعبه في توجيه النصوص الى استقطاب الماضي ومزجه بالحاضر في محاولة للفت نظر المتلقي,وتوجيهه الى تلمس جمالية ذلك التوظيف الفني يجدد الافكار ويبث فيها روح التجديد والإبداع الفني المتميز,ويحتل التناص مكانا بارزاً,وأهمية كبيرة في المسرح الشعري الذي غالبا ما يلجأ الى توظيف مفردات الموروث وقصصه,بشتى انماطه ليدعم افكاره ونصوصه,ويزيد تأثيرها في المتلقي الذي يرغب في استكناه اوجه الابداع في ذلك التوظيف,مما يتطلب من المبدع ان يكون اكثر وعياً وحرصاً في اختيار النصوص الغائبة,وقد لجأ الكاتب محمد علي الخفاجي الى الموروث الديني بشكل ملفت للنظر,مستمداً منه مادته الاساسية,فجاءت مسرحياته متكئة على موضوعات التراث الديني وصوره ومفرداته للتعبير عن قضايا عصرية ومصيرية,فاعتمد في ذلك على بعض منعطفات التاريخ المهمة كواقعة استشهاد الامام الحسين التي افاد منها في ثلاث مسرحيات,فضلاً عن استدعاء بعض شخصيات التاريخ ذات البعد الديني كشخصية ابي ذر الغفاري والنبي نوح في مسرحيتين مستقلتين اعتمدتا على تفاصيل واقعية,اجاد الكاتب في حرف مسارهما خدمة لأفكاره ورؤاه.وكان القرآن الكريم اكبر معين للخفاجي في توظيفاته تلك,فضلاً عن تناصه مع الحديث النبوي الشريف ومقولات اخرى لبعض الشخصيات ذات البعدين الديني والتاريخي.
والتعامل مع النص الديني واللجوء اليه من قبل الشعراء والكتاب امراً بالغ الاهمية,فمصادر التناص الديني عند اي شاعر يرجع الى تنوع ثقافته المعرفية وخاصة مصادره الدينية,فهو من اكثر انماط التناص اثراً وفاعلية في نفس الانسان بحكم قربه من الدين,وتعامله معه في الحياة اليومية,وهو ما يدعو الاديب الى الاعتماد عليه في تقريب النص الى قارئه,والاحتكام اليه احياناً في تثبيت الفكرة ودعمها فكريا أو عقائديا. والنصُّ القراني بقصصه ومعانيه ولغته من اكثر المصادر الدينية توظيفاً,كإشارات ورموز يستغلها المبدع لتمرير افكاره ورؤاه التي يسعى جاهداً الى تثبيتها وترسيخها عند المتلقي,ولعلَّ اللجوء الى القرآن الكريم يعتمد على ما يراه الكاتب من تعلِّق المتلقي بهذا الكتاب المقدس,وتعرّفه الكبير على كثير من مفرداته وصوره,لكي تكون قريبة ومفهومة بالنسبة اليه.وبالتالي يتضح القصد الذي هو غاية في حدِّ ذاته.
ويظهر تأثر الخفاجي في مسرحياته بالنص القراني بشكل واضح وكبير,ففي مسرحيته(ابو ذر يصعد معراج الرفض),يركز الخفاجي كثيراً على ضرورة تمسك الانسان بأحلامه وتطلعاته الى التحرر واستعادة الذات التي مزقتها الحروب والويلات التي تعرض لها العرب في عصرنا الحديث,يقول:
ما معنى ان تأخذنا الايام تباعاً
اخذ عزيز مقتدر بين هموم الروح
فالتناص المباشر واضح مع الاية القرآنية من قوله تعالى“كذبوا بآياتنا فأخذناهم اخذ عزيز مقتدر”,فقد أصرَّ الخفاجي على اختيار الشخصيات الثابتة على العقيدة,المؤثرة في الآخر بوصفه المقصود والمتوجَه اليه في الخطاب الانساني العام.فهذا مسلم بن عقيل يقف في وجه امرأته التي تجادله في امر ذهابه الى الكوفة سفيراً للإمام الحسين, مسلم (يهدئها) يا امرأتي اني اذهب نحو
الكوفة
كي اقدح في الظلماء لساني
فيضئ السمع لمن عَميتْ عيناه
وازورَّتْ رؤيته ليكون السمعُ حديدا
فرغم امتلاء النص بالإشارات والرموز في الفاظ (اقدح,الظلماء,لساني,يضئ السمع,عميت عيناه)التي تشير في اغلبها الى اهمية اشعال الثورة في جموع الفقراء والمضطهدين بقوة الحجة(اللسان),لتزيل الغشاوة والتغافل عن عيونهم التي زاغت عن مسار الحق والعدل,فقد اختتم الفكرة بقوله(ليكون السمع حديدا) في اشارة الى الاية القرآنية الكريمة “لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد”, وقد غير (السمع) محل (البصر) للكشف الحقيقي عن كل ما كان مستتراً ومستخفياً من اعمال الانسان. ولا يخفى ايضاً اهتمام الكاتب ببعض الاساليب التي شاركت في تعميق فكرة التناص ودعمها, ومنها اسلوب تراسل الحواس في قوله:(فيضئ السمع) بأداة المحاججة اللسان ليكشف ما خفي على الانسان مهما كان حجمه وأهميته.فالخفاجي ابدع في هذا التوصيف التناصي الذي قلب فيه الفكرة متعمقا بأدق تفاصيلها فنياً وفكرياً الى ما يحب ان يؤكده من ضرورة القاء الحجة اللسانية على البشر.ورغم نهاية مسلم المأساوية إلاً ان الكاتب لم يفتأ يستغل الموقف ليدير به الحدث بشكل فاعل ومثير من خلال رسم حالة الترهيب التي يتعرض لها الناس على ايدي الحكام الظالمين ,يقول:
صلبناه على بوابة داره
فليلزم كلٌّ طائره في عنقه
في اشارة الى قوله تعالى“وكل الزمناه طائره في عنقه”,ليدور المعنى في النص الغائب والحاضر حول فكرة ان الانسان مسؤول عن تصرفاته ومواقفه, فلا يلومنَّ بعدها غير نفسه,وإنما قوله(الزمناه طائره)مثل لما كانت العرب تتفاءل به او تتشاءم من سوانح الطير وبوارحها,
اني رجل غطته فيوضات الروح
حتى ان ألزم طائر وجدي في عنقي
نفضتْ روحي عن غفلتها ريش السكتة
وكثيرا ما يلجأ الخفاجي الى توظيف رمز او حدث يرتبط بالشخصية الدينية القرآنية للتعبير عن افكاره ورؤاه الخاصة بشكل غير مباشر(تناص غير مباشر),فترد اسماء الانبياء وبعض ما تمتعوا به من صفات للإشارة الى مواضع معينة يسعى الكاتب الى تسليط الضوء عليها من خلال الباسها لباس القدسية الذي يكون اكثر قرباً من الانسان,واشد تأثيرا فيه, ففي قصة آدم(عليه السلام)التي تجسد فكرة العصيان لأجل المادة الفانية,صور الخفاجي ذلك حينما ربط بين (تفاحة ادم) وطمع الانسان الأزلي في المال :
المال تفاحة هذا العصر
ويقول كذلك على لسان(مجموعة) منحها الخفاجي صفة الاستمرارية الوجودية في كل الازمنة والأمكنة
كنا منذ بداية هذا الانسان
ومنذ جرى دمه شبقاً في عيني قابيل
فكثيرا ما يلجأ الشعراء والكتاب الى توظيف قصة قابيل وهابيل بشكل غير مباشر ,حينما يرومون التحدث عن حالة الطمع والجشع المتأصل – غالبا- في الذات الانسانية , فتدعوه الى ظلم اخيه الانسان,والبطش به .
لقد وردت توظيفات اخرى تشير الى بعض الاحداث التي تعرض لها الانبياء في نصوص الخفاجي المسرحية,يحاول ان يبين فيها ان الناس لا زالوا يعيشون حالة الانتظار وتحقيق المعجزات على ايدي الخارقين,فها هو ابو ذر يواصل مسيره ؛فاذا به بجماعة من المريدين بثياب ممزقة ,يخاطبهم قائلاً:
ماذا تنتظرون هنا؟
زكريا يفلق جذع الشجرة ؟
مسيحا يتكلم في المهد فيبرأ
في معجزة منه شحوب الاوجه
ماذا تنتظرون هنا؟
نبيا يبدأ دعوته من غار
فالاستفهام الانكاري الذي شكَّله التناص غير المباشر مع اجزاء من بعض قصص الانبياء ,وجهه الخفاجي على لسان ابي ذر الى تلك الجماعة ليُظهر مدى رفضه لفكرة انتظار المعجزات,فهو يشجع على الدعوة للمضي قدما لمواجهة الشر بقوة الايمان بالنفس,وما حبا اللهُ الانسانَ من عقلٍ حرٍّ,وإرادةٍ مستقلةٍ,في اشارات عدة لعدد من الانبياء هم(زكريا),و(عيسى),و(محمد)عليهم السلام جميعا.
وقد ورد ذكر النبي زكريا في موضع آخر على لسان والي الكوفة الجديد ابن زياد, في اثناء حثِّه على الامساك بمسلم بن عقيل في الكوفة,فوظّف لذلك قصة اختباء زكريا(عليه السلام) كما ترويها الاخبار الواردة عن السلف , فحينما طارد بنو اسرائيل زكريا (عليه السلام) انفلقت احدى الاشجار وخبأته في داخلها,ثم اخبر الشيطان اعوان الملك بمكانه,فجاءوا الى الشجرة التي اختبأ فيها زكريا وشقوها نصفين بالمنشار,فمات زكريا وهو داخل الشجرة., يقول:
قصوا شجر الارض جميعا
كي لا يلج الاغصان فيغدو زكريا
ان تأثر الخفاجي بالقصص القراني,ومحاولة توظيفه في نصوصه,لغايات؛ بعضها فكرية, والاخرى فنية, بشكل مباشر حيناً او على هيأة رموز كرمز(زكريا) عليه السلام ,تدل على مهارته في اقتباس تلك الاشارات القصصية لتتعالق مع نصوصه فتمنحها توهجاً وانسحاباً الى قدسية تلك القصص و الاشارات.
فكثرة التداخل النصي دليل عمق الوعي والفن لدى الكاتب,وكذلك يعد دليلاً على شدة التعلق بالفكرة,واستدعاء كل ما يلزمها من الموروث,وان كان ذلك التداخل متراصاً فلا يؤثر مطلقاً على النص اذا ما اتقنه صانعه ومهُر فيه.
ويظهر اسلوب التداخل هذا ايضاً في قوله :
فاكتهل الصبية بالخبرة
واشتعل الرأس بشيب الوعي
في اشارتين مدمجتين الى قوله تعالى”فكيف تتقون ان كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا” وهو تناص غير مباشر تناص معه الشاعر في قوله :( فاكتهل الصبية بالخبرة) , وكذلك قوله تعالى :”واشتعل الرأس شيبا“, وهو تناص مباشر تناص معه الشاعر في قوله :( واشتعل الرأس بشيب الوعي) مما شكَّل صورة تناصية عميقة ودقيقة .
وقد يختلف التناص من ناحية بنائه من نص لآخر,او من مسرحية لأخرى ,ففي مسرحية(نوح لا يركب السفينة)القائمة على التناص الكامل مع قصة النبي نوح(عليه السلام),يلجأ الخفاجي الى معارضة تلك القصة,ولكن بقلب المعادلة وتسخيرها لفكرته التي يحاول معالجتها من خلال التناص الديني ,وذلك باستدعاء القصة القرآنية\النص الغائب, خدمة للنص الحاضر\المسرحية,وتوليفها بشكل آخر يتضامن مع ما يريد الكاتب ان يقوله او يشير اليه,وان كان الاسلوب المعتمد هو قلب الحدث الواقعي للقصة, وهو ما يسمى بالتناص المتفرع عن قصة,بأن يستعير الكاتب قصة معروفة من الاساطير او الدين او التاريخ او الادب او التراث الشعبي, ثم يقدمها بطريقة جديدة, ورؤية جديدة, وهذا النوع كثير في المسرح العالمي, وفي المسرح العربي يقول:
لست بمجنون
حتى اركب هذا الفلك المشحون
وافجع داري بغيابي
فقوله:(لست بمجنون حتى اركب هذا الفلك المشحون),يشير الى معارضة النص القراني في مضمونه رغم وجود اشارات لفظية ساهمت في توجيه التداخل النصي المباشر في النص,كعبارة(الفلك المشحون)الذي يحكي جزءاً من قصة نوح النبي نوح (عليه السلام) مع قومه,اما نوح الخفاجي فهو يدرك خطر الطوفان\العدو , وغاياته بعمل المستحيل كي يغري الناس على الرحيل وترك الارض,فيترك السفينة التي ستبتعد به حتماً عن موطنه,ويحاول بناء ساتر يقيه خطر الطوفان,ثم يدعو الناس بشتى الوسائل للاقتناع بفكرته تلك,فهو طالما حذر من ذلك الطوفان وانه سيغدر لا محالة بمن سيلجأ اليه, فهو ابتعاد بالنص وفكرته الى النقيض تماماً من خلال اسلوب التناص الذي وظفه بشكل واسع امتد على طول المسرحية , في ترميز واضح للأخطار التي تحدق ببلداننا العربية .
والخفاجي يحاول استدعاء تلك الفكرة وتوظيفها فنيا في مسرحيته لغايات حاضرة وواقعية,منطلقا من ان”منبع الفن وأساسه هو نزعة الانسان الى تمثّل تجربته الحياتية,واستنباط مفهومها ودلالتها القيمية,وتثبيت هذا الاستنباط وتوصيله الى اخرين عن طريق استعادة التجربة”. وقد افاد كثيراً مما ورد في قوله تعالى من سورة نوح :”واني كلما دعوتُهُم لتغفر لهم جعلوا اصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم واصرّوا واستكبروا استكبارا”,في قوله :
سخروا مني
وقالوا اين هو الطوفان
حتى ان البعض
وضع اصابعه في الاذان
وسد السمع عن النصح
فهو يعمد الى تصوير الحالة المقلقة والمؤذية التي عاشها النبي نوح (عليه السلام) بين قومه وهم على هذه الشاكلة من الصد والإنكار.وتكاد ان تكون هذه الظاهرة واحدة عند كل الانبياء,الا ان معاناة نوح (عليه السلام) كانت الاشد بسبب ما قضاه معهم من عمر طويل,وكذلك شدة امعانهم في الكفر والعناد.وليس اقرب من صورة من يضع اصبعه في اذنه استنكارا للسمع ورفضاً له.
ان الوعي بالتناص,والإدراك التام لأهمية التداخل النصي بين النصوص منح الكاتب القدرة على هذا المزج البنائي الرائع للغة,ماضيها بحاضرها,قداستها بماديتها,قوتها ببساطتها,عقلها بعاطفتها.