اللغة بين التظليل الصهيوني وشفافية المقاومة
م.م. هاجر محمود إبراهيم العلو
كلية التربية للعلوم الإنسانية/ جامعة كربلاء
ان من السائد تعريف اللغة على انها وسيلة لنقل الأفكار والمعلومات والمشاعر، ولكن مفهوم اللغة أكبر من ذلك بكثير… اذ يصفها مارتن هايدغر، الفيلسوف الألماني، بالوجود ويقول “ان لُغتي هي مسكني، وهي موطني ومستقريٌ، وهي حُدود عالميَ الحميم ومعالمه وتضاريسه، ومن نوافذها ومن خلال عيونها أنظر الى بقيًة أرجاء الكون الواسع“. ومع أهمية اللغة يأتي دورها الكبير في الاعلام وتوجيه الرأي العام. 
اللغة وأهميتها في توجيه الرأي العام
في عصرنا الحديث ومع تطور الاحداث السريع يومياَ أصبح الإعلام من أهم وسائل التأثير على الرأي العام، حيث يتم استخدام اللغة بشكل دقيق ومدروس للتأثير على وعي الناس وتوجيههم نحو قضايا معينة ومن هنا نجد ان وضيفة اللغة في الاعلام لا تقتصر على نقل الحقائق، بل تشمل أيضًا كيفية صياغة تلك الحقائق، وانتقاء الكلمات، واستخدام الاستراتيجيات اللغوية مثل التكرار، والتحوير، والإيحاءات لتوجيه الجماهير إلى الرؤى والتوجهات المبتغاة.
التأثير التظليلي والشفاف للغة
تُظهر لنا هذه الحقيقة أن للغة تأثيرًا مزدوجًا: يمكن أن تكون تظليلية عندما يتم استخدامها بشكل خادع لخدمة أغراض سياسية أو أيديولوجية، أو شفافة عندما يتم استخدامها بشكل صريح وواضح لنقل الحقائق والمعلومات دون تحريف. ويشير الفيلسوف أوستن في كتابه الشهير “How To Do Things With Words” الى نظرية الفعل الكلامي والتي ترتكز على الفكرة القائلة ان لكل استخدام للغة بعداً ادائياً أي ان اللغة هي أفعال كلامية يؤدي بها المتكلم اغراضاً معينه ومن ضمنها تأثير معين في سلوك المخاطَب. وفي هذه النظرية يقسم اوستين الأفعال الكلامية الى ثلاث أنواع (الفعل اللفظي، الفعل الفرضي، والفعل التأثري). وقسمها أيضا الى خمسة أنواع ليكون متها الفعل المباشر وغير المباشر. وقد حدد الجرجاني مفهوماً واضحاً للأفعال الكلامية المباشرة وغير مباشرة في قوله: الكلام على ضربين: ضرب أنت تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده، وضرب آخر انت لا تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده، ولكن يدلًّك  اللفظ على معناه الذي يقتضيه موضوعه في اللغة).
اللغة التظليلية هي التي تعمل على إخفاء الحقيقة أو تحريفها أو تشويهها لتخدم مصالح طرف معين، وتتمثل في اختيار كلمات أو تعبيرات غامضة أو محملة بمعانٍ ملتوية غير مباشرة تهدف إلى إقناع الناس بفكرة أو موقف معين بعيد عن الحقيقة. في المقابل، اللغة الشفافة هي التي تلتزم بنقل الحقائق والمعلومات كما هي، وتكون خالية من أي تلاعب أو تحريف.
الإعلام الإسرائيلي: لغة التظليل
من أمثلة اللغة التظليلية في الاعلام التي يمكننا التطرق إليها، هو الإعلام الإسرائيلي الذي يستخدم لغة منقوصة أو محرفة لتبرير ممارساته المتوحشة والظالمة في حق الفلسطينيين والمناطق المحتلة. يُلاحظ في الإعلام الإسرائيلي أنه يتم استخدام مفردات مثل “الدفاع عن النفس” لوصف الأعمال العدوانية من قصف وحرق وغارات وتهجير التي تقوم بها القوات الإسرائيلية، بينما يتم تجاهل أو تحريف الأحداث التي تحدث على الأرض. كما يتم تجنب استخدام مصطلحات مثل “الاحتلال” أو “التهجير القسري”، بل تتم الاستعانة بمصطلحات مثل “إعادة التوطين” و”التسوية” لتكون بديلة عن الكلمات الحقيقية للفعل.
ومن امثلة التظليل اللغوي والاستخدام الغير مباشر للغة في الاعلام الإسرائيلي الحربي وعلى لسان المتحدث الرسمي لجيش الاحتلال هي: أولا أستخدام المصطلحات التجميلية Euphemism إذ نرى ان المتحدث الرسمي لجيش الاحتلال يكرر العبارات الغير مباشرة مثل “الضربة الوقائية” (بديلاً عن التعبير المباشر ‘الهجوم‘)، “الرد المشروع” (لبيان ان هنالك ‘تهديدات عسكرية‘ من قبل الفلسطينيين)، “حماية المدنيين الإسرائيليين” (هنالك إصرار على أن الهدف من الهجوم هو “حماية المدنيين الإسرائيليين” من “التهديدات” المتصورة، وهو ما يعكس تظليلاً لغويًا يصرف الانتباه عن الخسائر الفلسطينية).
من الأمثلة الأخرى التي نجدها في بيانات الاعلام الإسرائيلي هو استخدام مصطلحات “التصفية” والاستهداف الدقيق”. فعند الحديث عن الشهداء الفلسطينيين نرى ان التصريحات تميل الى استخدام المصطلح “تصفية الإرهابيين” للإشارة بشكل غير مباشر على ان الفلسطينيون هم ارهابيون وبذلك يتم تظليل الرأي] العام وكسب منع أي تعاطف مع حقيقة ما يجري. يشير أيضا المتحدث الإسرائيلي في بياناته على ان الاستهداف دقيق ومدروس ليتم بذلك دس فكرة ان الضربات لا تستهدف أي مدنيين وانما هي ضربات دقيقة لمخابئ وأنفاق.
ومن صفات اللغة التظليلية الأخرى التي نجدها في بيانات افيخاي أدرعي هو “إخفاء الابعاد الإنسانية”. غالبا ما يستخدم المتحدث الرسمي مصطلح “الاضرار الجانبية” ” (Collateral damage)والذي يُستخدم من اجل تقليل حجم الدمار الذي يلحق بالمنازل والبنية التحتية، مما يُخفف من مسؤولية الجيش الإسرائيلي تجاه الخسائر البشرية والمادية في المناطق الفلسطينية المحتلة. ومن اجل ضمان صورة سلمية ومسالمة للجيش المحتل يتم استخدام المصطلح “تخفيف الاضرار” بشكل دائم قبل شن أي هجوم أي ان الجيش يقوم بتحذير الفلسطينيين قبل شن أي هجوم لكن هذا لا يلغي الواقع المرير الذي يعيش فيه اهل غزة الان. ومن الجدير بالذكر ان في تصريحات المتحدثين الرسميين، يتم غالبًا الحديث عن العمليات العسكرية في الأراضي الفلسطينية تحت مسمى “عمليات أمنية” أو “عمليات موجهة” لتقديم الهجوم كإجراء وقائي أو أمني ضد خطر معين. بالإضافة الى ذلك نرى استخدام مصطلح “التضييق الأمني” بدلا من الحصار لكي يشيرون بذلك الى ان هذا الاجراء ما هو الا اجراء أمنى.
لغة المقاومة: مباشرة وصريحة
و على الجانب الآخر، نجد ان لغة المقاومة الفلسطينية تُظهر شفافية ووضوحًا في التعبير عن الحقائق والمطالب. تعتمد هذه اللغة على استخدام كلمات صريحة تبرز الواقع كما هو دون تحريف أو تلاعب او تغليف للحقائق. مثلاً، عند الحديث عن الاحتلال أو التهجير القسري، تُستخدم هذه المصطلحات بشكل مباشر، ما يسهم في نقل صورة واقعية لما يحدث على الأرض. في هذا السياق، نرى ان لغة المقاومة ما هي الا وسيلة لنقل الحقيقة وتوعية الناس بالأبعاد الإنسانية والسياسية للأزمة الفلسطينية، واداة لتحفيز الشعوب على الوقوف ضد الظلم والاحتلال.
ومن امثلة بيانات اعلام المقاومة في فلسطين هي بيانات المتحدث الرسمي لحركة حماس المعروف باسم أبو عبيدة والتي نلاحظ فيها التعبير المباشر عن الانتهاكات عن طريق استخدام المصطلحات المباشرة مثل “الاحتلال الإسرائيلي” و “العدوان الإسرائيلي” للإشارة إلى الهجمات العسكرية الإسرائيلية على غزة أو الضفة الغربية والذي يعكس الوضوح في تحميل المسؤولية كاملة على إسرائيل، دون استخدام مصطلحات قد تخلق أي لبس في فهم الاعتداءات العسكرية. بالإضافة الى ما ذكر، نجد ان بيانات أبو عبيدة تمتاز بالتوثيق الكامل والمباشر وغير المفبرك للعمليات العسكرية التي تقوم بها كتائب حماس كما يتم ذكر عدد الصواريخ، وأماكن الاستهداف، والأشخاص ومدى دقة العملية.
وفي خطابات أبو عبيدة نجد ان هنالك رفضا واضحا وصريحا للمفاوضات الغير شرعية او المشاركة في مسار تسوية فاشل. كما يخصص أبو عبيدة جزءًا كبيرًا من خطاباته للحديث عن الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، معبِّرًا عن معاناتهم وظروفهم القاسية. يُظهر هذا الاستخدام الصريح للمفردات الإنسانية تأثير الوضع الفلسطيني على مستوى الفرد والعائلة. يتم في بعض الأحيان الكشف عن أعداد الأسرى أو تسليط الضوء على قصص الأسرى الأبطال، ما يعكس اهتمام حماس بتوثيق معاناتهم بشفافية.
وكما وضحنا في بداية المقال ان اللغة هي مرآة الوجود وحدود العالم الكبير وهي أداة يمكن بها ان تنال امةً حقها المستباح إلا وهو اظهار الحقيقة للعالم أجمع وبيان الوريث الشرعي لإرضِ طالَ استعمارها وضاقت بها الدنيا حروباً ودما. وللغةِ حدود لا تنتهي فيستغلها البعض لحجب وتشويه الصورة الواقعية وتغليف الحقائق برداءِ تجميلي ليصبح الافتراء حقيقة تُذاع في كل بيت. ولذلك نرى ان بيان الاختلاف في المعنى عند التلاعب بالكلمات هو مسألة يجب تناولها الدائم لحماية الرأي العام من التظليل والتعتيم.

شارك هذا الموضوع: