مقال:  المتحرّي والإمّعة
مَن يتحرّى عن الأشياء بالسؤال وتقميش الأدلة ويُعمِل فكره ثم يتخذ الرأي الصائب ويتّبع الحق فهذا داخل في صفوف المؤمنين الذين يُجهِدون أنفسهم في البحث عن الحقيقة وهم الذين ذكرهم القرآن الكريم بقوله تعالى: (فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا) (الجن: 14)، فهؤلاء الراشدون هم الذين استضاؤا بنور العلم، وليس الجميع يرغب في هذا الدخول، لأن فيه جهدًا والإنسان يطلب الراحة ويفضّلها على المشقّة وإنْ كانت الأخيرة هي التي تقوده إلى راحته الحقيقية الأبدية، لذلك قلَّ مَن يتحرّى الحقيقة وهؤلاء هم الذين ذكرهم عز وجل بقوله: (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ) (المدثر: 45)، والوصف الأمثل والدقيق لهذا الصنف ما قاله أمير المؤمنين (عليه السلام): (همج رَعَاع أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق)، وإذا ما تم انتقاد هؤلاء لعدم تحرّيهم عن الحق وأهله لقالوا: إنما نحن مع الناس وحشر مع الناس عيد، هكذا بدون أي إعمال للفكر ولا أدنى إجهاد للعقل ولا أيِّ وزن للرأي فلا جرمَ أنهم كالأنعام بل أضلّ سبيلًا، وهذا صنف لا خير فيه ولا نجاة له، وقد حذّر الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) الفضل بن يونس من السلوك العشوائي الذي لا تفكير فيه ولا وعي بقوله: (أبلغ خيرًا ، وقُل خيرًا ، ولا تكونن إمعة). فقال الفضل: وما الإمعة؟ قال عليه السلام: (لا تقُل أنا مع الناس وأنا كواحد من الناس، إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: أيها الناس هما نجدان: نجد خير ونجد شر، فما بال نجد الشر أحبّ إليكم من نجد الخير؟!).
إذن، فالرشيد هو مَن يفكّر قبل النطق ويجتهد في التحرّي عن حقيقة الأشياء قبل اتّباعها، ومَن كانت هذه صفته بسلوك الطريق الواضح فلا شكّ بأنه سيَرِد الماء، وأمّا الإمعة وهو مَن يسبق لسانه فكره فينطق بالشرّ ويتبع كل ناعق بدون تفكير ولا وعي كغصن شجرة ضعيف تحرّكه الريح وتميل به في كل اتجاه، فهو لا محال واقع في التّيْه.
المصادر: (نهج البلاغة، ص36)؛ (المفيد، الأمالي، ص210-211)

شارك هذا الموضوع: