جامعة كربلاء – كلية التربية للعلوم الإنسانية – قسم الجغرافية التطبيقية.
إن نشوء المدن وتطورها كان امتثالا لرغبة وحاجة قاطنيها، ولا سيما بعد الزيادة الكبيرة في أعداد السكان في المدن وتنوع استعمالات الأرض فيها فقد أصبح تطبيق استراتيجيات المدن المستدامة ضرورة ملحة لا بدَّ منها ،إذ لا يمكن إهمالها لما لها من ارتباط كبير بمخاوف عالمية تتعلق بالنظام البيئي بكافة جوانبه ولا سيما في ظل التطور التقني السريع الذي يشهده العالم والزيادة السريعة في معدلات التحضر التي نشهدها في القرن الواحد والعشرين، والاعتماد على حلول غير فعالة قصيرة الأجل، زادت الحاجة نحو إنشاء مدن مستدامة تعالج المشاكلات التي تعانيها المدن التقليدية، وتقدم حلول ملائمة لمجموعة المشكلات الملحة باستخدام آليات واستراتيجيات يمكن تطبيقها على أرض الواقع لتدعيم التنمية المستدامة والعمل بأهدافها في شتى مجالات الحياة.وهنا جاء هدف المقال .
مفهوم المدن المستدامة :
يعد مفهوم المدن المستدامة من المفاهيم المهمة التي ازداد الاهتمام بها في الآونة الأخيرة على نحو متكرر بين الحكومات والباحثين وصناع القرار، رغبة منهم في مواجهة التحديات المتعلقة بالبيئة والظواهر الاجتماعية التي تتعرض لها المدن في المستقبل القريب، إذ تشير إحصاءات الأمم المتحدة أن أكثر من 66% من سكان العالم سيعيشون في المدن بحلول عام 2030م، مما سيزيد من معدلات انبعاث غاز الكربون على المدى البعيد، وتسهم المدن وحدها في إنتاج أكثر من 70% من انبعاثات الكربون في العالم مما يزيد الخطر على العالم من ظاهرة الاحتباس الحراري التي تهدد استمرار الحياة على كوكب الأرض . تعرف المدن المستدامة بانها المدينة التي تحترم مبادئ التنمية المستدامة ، وتعمل من أجل تسهيل أساليب العمل والتنقل ، كما تعرف أيضا بأنها تلك التجمعات السكانية الكبيرة، التي تسعى إلى تلبية احتياجات مواطنيها الحالية والمستقبلية، مع الحفاظ على الموارد الطبيعية، وتقليل أثرها البيئيّ. إنها -بعبارة أخرى- مدن تعمل على تحقيق التوازن بين التنمية الاقتصادية والاجتماعية والبيئية؛ لتضمن حياةً أفضل للأجيال القادمة ،وهي في الغالب عبارة عن تجمع من الأحياء البيئية التي تهدف إلى تقليص بصمتها البيئية (1).
نظرا لما تواجهه المدن في الوقت الحاضر من تحدياتٍ كبيرةً، منها التلوث بأنواعه، وارتفاع استهلاك الطاقة والمياه، وزيادة النفايات. لذا جاءت فكرة المدن المستدامة كحل مبتكر لهذه المشكلات؛ إذ تعد أحد أهم الابتكارات الضرورية التي فرضها علينا عصر تقنية المعلومات.
استراتيجيات تحقيق المدن المستدامة:
وقد ظهر في الآونة الأخيرة عدة استراتيجيات وتوجهات في التصميم الحضري لبناء مدن مستدامة يمكن اختصارها باستراتيجيتين هما: –
الاستراتيجية الأولى (المدن المتضامة ) Compact City : وفق هذه الاستراتيجية فالمدينة تسعى إلى تضام وتراص فضاءها الحضري من أجل تحقيق الاستدامة (الاجتماعية والبيئية والاقتصادية )(2) ، إذ عدَ إن مفهوم المدينة المتضامة كأحد آليات الاستدامة في الحفاظ على هدر الطاقة وتحقيق التقارب الاجتماعي باعتماد آلية تقليص الخدمات، والحد من حركة المركبات مقابل التأكيد على حركة المشاة واعتماد مبدأ النقل العام ، وتحقيق مجتمع حضري محلي مستدام ، أقل تأثيرا على البيئة (3) .
الاستراتيجية الثانية : تستند هذه الاستراتيجية على العامل البيئي لتحقيق المدن المستدامة من خلال عمارة منسجمة بيئيا ، واقل ضررا واستنفاذا للبيئة (كالعمارة الخضراء) (4) ، إذ يمكن إدخالها ضمن المخططات الأساسية للتجمعات السكنية والمدن الحضرية والسقوف الخضراء للمباني لما لها من أهمية جمالية والتقليل من التلوث البصري فضلا عن نتائجها الإيجابية في التخفيف من تأثير (UHI) وتنقية الهواء(5) .
وفي ضوء الدراسات والأبحاث يمكن اقتراح استراتيجيات متعلقة بتحقيق الاستدامة للمدن في وقتنا الحالي وتتمثل بـ:- أن تلبي المدينة احتياجات سكانها ومتطلباتهم في الوقت الحالي والمستقل ،فضلا عن توفير البدائل يعتمد عليها السكان في التنقل والاتصال وتوجيه الخدمات على أن تكون هذه البدائل صديقة للبيئة كركوب الدراجات والمشي والمركبات الخضراء وبناء أنظمة نقل ذات كفاءة في استهلاك الوقود في المناطق الحضرية واستخدام السيارات الكهربائية شكل (1)،التوجه نحو استخدام الطاقة المتجددة ومصادرها المختلفة من أجل تلافي الأضرار التي تتعرض لها المدينة، مثل استخدام الطاقة الشمسية شكل (2)، وطاقة الرياح وغيرها من التقنيات المتطورة. ولا بدَّ أيضا من الاهتمام بالمساحات الخضراء عند بناء المدن المستدامة إذ تعد المساحات الخضراء درعا المدينة ضد التلوث ، وهي بمثابة الرئة التي تتنفس من خلالها المدينة ، وهي عنصر أساسي من عناصر العمران ومكملا له ، ويجب أن تؤخذ بنظر الاعتبار عند تصميم المدينة .
شكل (1) النقل المستدام
Litman,Todd, Developing Indicators for Sustainable and Livable TransportPlanning , Victoria Transport m policy Institute ,2014,p3.
شكل (2) استخدام الطاقة الشمسية
ختاما: تمثل المدن المستدامة أحد الركائز الأساسية في تحسين جودة حياة سكان المدن. إذ يتطلب بناء مدن مستدامة أن يكون هنالك فهمًا عميقًا من قبل الجهات المختصة والمخططين باحتياجات السكان واحتياجات المدينة نفسها. لما تمتاز به المدينة من هوية فريدة تختلف عن غيرها من المدن الأخرى ، ويجب أن يكون التطوير مبنيًا على ثقافة واحتياجات سكانها. لذا فإن تطبيق استراتيجيات الذكية ليست هدفًا بحد ذاته حتى تصبح المدينة مستدامة، وإنما هو أحد الوسائل المهمة في تحقيق الأهداف، وان بناء مدن مستدامة يتطلب تعاونيًا وجهدا يجمع بين رؤى صناع القرار والمخططين ومساهمة المجتمع. إن تطوير مدننا على نحو مستدام يضمن للأجيال الحالية والمستقبلية بيئة حية ومزدهرة. ومع أنه إلى غاية اليوم لا توجد مدن تم تحويلها إلى مدن مستدامة وإنما جميع التجارب العالمية الخاصة بالمدن المستدامة تخص مدن جديدة يتم بناءها من أجل أن تكون مستدامة .
المصادر :
فؤاد بن غضبان ، المدن المستدامة والمشروع الحضري نحو تخطيط استراتيجي مستدام ، دار صفاء للطباعة والنشر والتوزيع ، عمان – الأردن ،ط1، 2014 ، ص153 .
Calthorpe, Peter ,The Next American Metropolis :Ecology , Community and American dream Princeton Architectural Press, 1993.p71
Rogers, R. Cities for Small Planet. Faber and Faber, Limited, London.1997.p54-55.
Yeang, K.(1999) “The Green Designing Skyscraper the Basic for Designing Sustainable Intensive Building”. Pestle ,Munich, Germany.p11.
احمد عبد الوهاب، الاستراتيجية المستقبلية للبيئة الحضرية، مجلة المخطط والتنمية، (العدد 34)، 2016.، ص 213-217.