النَّقْدِ الثَّقَافِيُّ
بقلم : ضياء ريحان السعيدي
     يُعدُّ النقد الثقافي من آليات النقد الحديثة التي كُثر الحديث عنها، ولا يزال النقاد يتجاذبون الآراء النقدية فيه، فـ”حدوث النقلة النوعية من العمل الأدبي إلى النص أدخلنا إلى نقلة أخرى تمثلت في نقل النص وانشغالاته إلى الخطاب، أو الممارسة الخطابية، أو التمثيل كما يسميها فوكو، وهذه هي مهمة النقد الثقافي بتياراته المختلفة”().
     وقد ظهرت هذهِ الآلية الثقافية في الميدان النقدي بالتزامن مع حدوث المتغيرات النقدية التي اقترنت فيما بعد البنيوية وما بعد الحداثة، ولم يكن الاشتغال فيها من أجل الترف النقدي أو الموضة أو لغاية ابتكار شكل نقدي مغاير، وإنما جاءت ولادتها وفقاً لمسوغات دلالية، وسياقات مختلفة، وبواعث فنية، واجتماعية، وسياسية()، إذ تكمن مهمة هذا النشاط النقدي في تبيين دلالات الخطاب الثقافية التي تخفت في عمق البنى الجمالية البلاغية، فهو حيثية نقدية تسعى إلى تفكيك المضمرات الثقافية وتشريحها وتبيُّن سلوكها المضاد للوعي الذهني وللجمال النقدي، ويتجهُ لكشف القيم النرجسية المتغلغلة بوساطة القيم الثقافية والأنثروبولوجية التي تسربت إلى ذائقة العقل الجمعي وتحكمت فيه من دون شعور منه؛ بسبب الأقنعة الجمالية الفنية المخادعة().
     تُعدُّ البيئة الأوربية النقدية هي المرجعية الرئيسة لظهور النقد الثقافي، فالثقافة الغربية هي أوّل مَنْ دعت لتطبيق آليات هذا النشاط النقدي بكلِّ سماته ومراحل تطوره()؛ إذ نشأ النقد الثقافي في القرن الثامن عشر، وعند حدوث التغيرات الحديثة، ولاسيما في النصف الثاني من القرن العشرين صبغت هذا المشروع النقدي بسمات معرفية ومنهجية محددة أعطت له هوية مستقلة يتميز بها عن سائر المناهج النقدية الحديثة()، وقد راح هذا النشاط الثقافي يتطور شيئاً فشيئاً، ولم تستقر أحكامه النقدية الثقافية واقعياً إلا مع الناقد الأمريكي (فنسنت .ب.ليتش) الذي أصدر في سنة 1992م كتاباً يؤصل فيه لرؤية هذا الاتّجاه النقدي.
     ويُعدُّ (ليتش) أوّل مَنْ أطلق مصطلح النقد الثقافي على نظريات الأدب التي ظهرت لنا ما بعد الحداثة، وعني بنقد مدونات الخطاب الأدبي في ضوء التاريخ والاجتماع والسياسة والمؤسساتية ومناهج النقد الأدبي، وتعتمد قراءة (ليتش) ورؤيته الثقافية في تحليل النصوص بأجناسها الأدبية المختلفة بوساطة الأنساق الثقافية التي تُميّز لنا بين ما هو مؤسساتي وما هو غير جمالي، وتتمثل قراءته بكشف شعرية الخطابات حتى تقف الأنساق الثقافية على تصويب وتقويم أنظمتها ومضامينها التواصلية التي تؤثر بالمخاطبين().
    وقد تتعدد روافد هذا الحقل الثقافي ومشاربه المعرفية من علوم وحقول شتى، فهو نشاطٌ متداخل ومتواشج مع اتجاهات أيديولوجية متباينة تشترك في معانٍ معرفية وإنسانيّة مختلفة، ويقوم نقاد الثقافة بتجلي الأفكار والمفاهيم في أثناء معالجتهم للنصوص الأدبية.
     وتتميز آليات هذا النشاط الثقافي بإحاطة التحليل والقراءة الشمولية الرحبة للنصوص؛ لأنها تضم تحتها نظرية الأدب والجمال والنقد، والتفكير الفلسفي وتحليل الوسائط والنقد الثقافي الشعبي، إذ يستفيد النقد الثقافي في أثناء تحليله من نظريات ومجالات علم العلامات، ونظرية التحليل النفسي والنظرية الماركسية والنظرية الاجتماعية والأنثروبولوجية().
     وقد شرعَ المشتغلون في هذا الاتّجاه النقدي برسم هوية نقدية مستقلة له حتّى يتمَّ تمييزه عن سائر آليات المناهج النقدية الحديثة والمعاصرة؛ لأن هذا النشاط يدعو إلى تطوير مطرد في آلياته النقدية، ويسعى إلى كسر الحواجز الموجودة بينه وبين جميع العلوم والمعارف الإنسانية().
     يقوم النقد الثقافي بكشف” السياقات والظواهر والبنى المختلفة التي شكلت البيئة الثقافية التي أنتجت فيها النصوص، ثم يعمل على تفكيك البنى الثقافية من أجل الكشف عن مهيمنات إنتاج المعاني الأيديولوجية، وتشريح الخطابات المختلفة”()، فالمشتغل في الحقل النقدي عندما يعمد على تحليل مدونات الخطاب الأدبي بوساطة آليات النقد الثقافي يلحظ” مكمناً لإضمار الأنساق الثقافية المخاتلة، والتمثيلات الإحالية المتضادة، والمسكوتات اللفظية التي لم تفلح القراءة النصية التقليدية في كشفها”().
     يُعدُّ عبد الله الغذامي الرائد الأوّل لنشاط النقد الثقافي في ميدان النقد العربي، إذ دعا في مشروعه الثقافي الجديد إلى تطبيق آلياته الثقافية على مدونات الخطاب الأدبي، وقد تمثلت دعوته بكتابه الشهير” النقد الثقافي قراءة في الأنساق الثقافية العربية” فجاء بمصطلحات ثقافية متعددة اعتمدها لتكون آليات تحليلية يتمُّ بوساطتها تجلي ماورائيات البنى الجمالية ولكي يكشف أنساق العنصرية والكراهية المتسربة إليها والمختبئة تحت أقنعة الإبداع الفني، ومن أبرز هذه الآليات: الوظيفة النسقية، والمجاز الكلي، والتورية الثقافية، ونوع الدلالة، والجملة النوعية، والجملة الثقافية, والمؤلف المزدوج()، وقد ارتكز الغذامي في رؤيته الثقافية الجديدة على نموذج (عناصر الرسالة) الذي قدمه رومان ياكبسون الذي يتكون من ستة عناصر هي: المرسل، والمرسل إليه، والرسالة، والسياق، وأداة الاتّصال، والشفرة، وقد أضاف الغذامي لهذا النموذج النقدي عنصراً سابعاً وهي الوظيفة النسقية الثقافية()، ومن هذه الوظيفة انطلق الغذامي في رؤيته الثقافية التي نادى بها.
     خالف بعض النقاد العرب عبد الله الغذامي في رؤيتهِ النقدية الجديدة، التي تمثلت بموت آليات النقد الأدبي، الذي ركّز فيّه على قراءة نصوص الخطاب الأدبي وفقاً لآليات النقد الثقافي التي تسعى إلى كشف الأنساق الثقافية المضمرة، ولم يسايروهُ في هذهِ الرؤية الثقافية، إذ اعتنوا بالنقد الثقافي بصفة عامة، يقول د. يوسف عليمات “لا يمكن للنقد الثقافي أن يموت، كما لا يمكن للنقد الثقافي أن يؤسس ولادته ومشروعيته على أنقاض النقد الأدبي، فالخطاب الثقافي لا يتحقق وجوده بانفصامه عن جماليات اللغة والمعنى في النصوص الشعرية، وإنما يكتسب صفته الثقافية بفعل السياقات الجمالية والقيم الاجتماعية المنصهرة فيه”()، فضلاً عن ذلك فإنَّ نظرة هؤلاء النقاد للنقد الثقافي تكمن في فهم السياقات المختلفة ودراسة وظائف الخطاب الأدبي كافة، وقد ركزوا على علاقات وحاضنة مدونات الخطاب الأدبي ولم يجردوا تلك النصوص من منتجيها()، فمفهوم النقد الثقافي لديهم لا يلغي الوظيفة الجمالية وأثرها في التحليل الثقافي فهم يرون هذه الوظيفة ضرورة نقدية، على الرغم من أن مهمة النقد الثقافي تكمن في تجلي الأنساق القبحية المتجذرة في مضامين الخطاب الأدبي().
     وخلاصة عمّا تقدم فالنقد الثقافي هو نشاطٌ تحليلي، تتعدد روافد مشاربهِ من علومٍ شتى، واتجاهات أيديولوجية تشترك في معانٍ معرفية وإنسانيّة مختلفة؛ إذ يستفيدُ هذا النشاط الثقافي من علم النفس والاجتماع، ومناهج النقد الأدبي السياقية والنصية، وتُعدُّ مرجعيات القارئ المعرفية والثقافية عاملاً مهماً في قراءات الخطاب الأدبي، ولا يمكن للمشتغل في النقد الثقافي أن يقوم بقراءة الخطاب الأدبي قراءة ثقافية من دون الإحاطة والشمول، بهذهِ العلوم والمعارف.

شارك هذا الموضوع: