دلالة ترتيب الالفاظ في سورة الفتح
ا.د. فلاح رسول حسين
  قال تعالى : (( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا)) [الفتح : 4] .
   في الآية المباركة جاءت لفظة (جنود) متأخرة ، فقدم عز وجل الجار والمجرور (لله) عليها، و السبب هو الحصر  وهو حصر ادعائي إذ لا اعتداد بما يجمعه الملوك والفاتحون من الجنود لغلبة العدو بالنسبة لما لله من الغلبة لأعدائه والنصر لأوليائه [i].
قال تعالى: (( لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا *  وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا))  [الفتح : 5 -6
  نجده عز وجل قدّم ذكر المنافقين على المشركين  لأنهم أكثر ضررا ، يقول أبو حيان : (( ولما كان المنافقون أكثر ضررا على المسلمين من المشركين بدئ بذكرهم بالتعذيب ))[ii]  ، كذلك لتنبيه المسلمين يقول ابن عاشور : ((والابتداء بذكر المنافقين في التعذيب قبل المشركين لتنبيه المسلمين بأن كفر المنافقين خفيّ فربما غفل المسلمون عن هذا الفريق أو نسوه .))[iii] ، وكذلك لان عذابهم أشد ((و تقديم المنافقين و المنافقات على المشركين و المشركات في الآية لكونهم أضر على المسلمين من أهل الشرك و لأن عذاب أهل النفاق أشد قال تعالى: (( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ )) [النساء من الاية: 145].))[iv].
    ونجد أيضا  تأخير لفظة (فوزا) ، فقدم عليه (عند الله)، وذلك للاهتمام بالمقدم  كما يرى بعضهم : ((و ( عند الله ) متعلّق بـ ( فوزاً ) ، أي فازوا عند الله بمعنى : لقوا النجاح والظفر في معاملة الله لهم بالكرامة وتقديمه على متعلقه للاهتمام بهذه المعاملة ذات الكرامة . ))[v]
قال تعالى : (( إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا*  لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا))   [الفتح : 8-9] .
نلاحظ  انه تعالى قدّم وصف الشاهد ، ففي الآية ثلاثة أوصاف هي (شاهد ومبشر ونذير) ، وقدم منها وصف الشاهد لأنه يتفرع عنه الوصفان بعده . [vi] ، وأما تقديم (مبشر) على (نذير) فلاشك أن الترغيب مقدم على الترهيب ، وان رحمة الله قد سبقت غضبه ، وأن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للعالمين قال تعالى : (( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)) [الأنبياء : 107]
قال تعالى : (( سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا)) [الفتح : 11] .
    وهنا قدم المال على الأهل ، وبهذا الصدد يقول أبو حيان : ((  وبدأوا بذكر الأموال ، لأن بها قوام العيش؛ وعطفوا الأهل ، لأنهم كانوا يحافظون على حفظ الأهل أكثر من حفظ المال  ))[vii] . ويقول الآلوسي : (( ولعل ذكر الأهل بعد الأموال من باب الترقي لان حفظ الأهل عند ذوي الغيرة أهم من حفظ الأموال))[viii].
    ونجد أيضا تأخير لفظة (خبيرا) ، للاهتمام بالمتقدم ((وتقديم (بما تعملون) على متعلقه لقصد الاهتمام بذكر عملهم هذا ))[ix]
قال تعالى : (( لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ  )) [الفتح  من الاية: 17]   .
    وفي تقديم الأعمى والأعرج على المريض يقول سيد قطب : (( فالأعمى والأعرج معهما عذر دائم هو العجز المستمر عن تكاليف الخروج والجهاد ، والمريض معه عذر موقوت بمرضه حتى يبرأ))[x] .وفي تقديم الأعمى على الأعرج ، والاعرج على المريض يقول  محيي الدين الدرويش : (( فقدم الأعمى لان عذره واضح مستمر، والانتفاع منه معدوم البتة ، وقدم الأعرج على المريض لان عاهة العرج قد يمكن الانتفاع منها في حالات معينة كالحراسة ونحوها ، أما المريض فإن إمكان زوال المرض عنه متوقع في كل وقت ))[xi] ، فما أدق هذا الترتيب للكلمات ! فكل لفظة أخذت مكانها الملائم في النظم القرآني المعجز.
قال تعالى: (( وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا)) [الفتح : 24].
وفي الاية   نجد تقديما للمسند اليه في (هو الذي كف) وهذا التقديم قد أفاد التخصيص (القصر)  ((وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي لإفادة التخصيص ، أي القصر ، أي لم يكفّهم عنكم ولا كفكم عنهم إلا الله تعالى ، لا أنتم ولا هم فإنهم كانوا يريدون الشر بكم وأنتم حين أحطتم بهم كنتم تريدون قتلهم أو أسرهم فإن دواعي امتداد أيديهم إليكم وامتداد أيديكم إليهم متوفرة فلولا أن الله قدّر موانع لهم ولكم لاشتبكتم في القتال ، فكفَّ أيديهم عنكم بأن نبهكم إليهم قبل أن يفاجئوكم وكف أيديكم عنهم حين أمر رسوله (صلى الله عليه وسلم) بأن يعفو عنهم ويطلقهم ))[xii].
قال تعالى: (( لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا)) [الفتح : 27].
  نجد في الآية المباركة   تقديم الحلق على التقصير (( وظاهر تقديمه عليه أنه أفضل منه وهو الذي دلت عليه الأخبار في غير النساء …))[xiii] ، ولعل هناك مزية للمحلقين ، جاء في كتاب (في ظلال القرآن) : ((قال ابن إسحاق : فحدثني عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس . قال : حلق رجال يوم الحديبية وقصر آخرون . فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) (( يرحم الله المحلقين )) قالوا : والمقصرين يا رسول الله؟ قال : (( يرحم الله المحلقين )) قالوا : والمقصرين يا رسول الله؟ قال : (( يرحم الله المحلقين )) قالوا : والمقصرين يا رسول الله؟ قال : (( والمقصرين )) فقالوا : يا رسول الله ، فلم ظاهرت الترحيم للمحلقين دون المقصرين؟ قال : (( لم يشكوا )) ))[xiv]
 
[i] ينظر: التحرير والتنوير : 26/ 127 .
[ii] البحر المحيط : 9/ 485 .
[iii] التحرير والتنوير : 26/ 129 .
[iv] الميزان : 18/ 268 .
[v] التحرير والتنوير : 26/ 128 .
[vi] ينظر: المصدر نفسه : 26/ 130-131.
[vii] البحر المحيط : 9/ 488 .
[viii] روح المعاني : 14/ 119 .
[ix] التحرير والتنوير : 26/138 .
[x] في ظلال القرآن : 6/ 3324 .
[xi] اعراب القران الكريم وبيانه : 7/ 229 .
[xii] التحرير والتنوير : 26/ 155 .
[xiii] روح المعاني : 14/146 .
[xiv] في ظلال القرآن : 6/ 3312 .
 
المصادر والمراجع:
  • إعراب القرآن الكريم وبيانه ، محيي الدين الدرويش ، الناشر: كمال الملك ، مطبعة سليمان زاده ، ط1، 1425 هـ .
  • الامثل في تفسير كتاب الله المنزل ، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي ، الاميرة للطباعة والنشر والتوزيع ، بيروت لبنان ، ط1، 2005 م.
  • انوار التنزيل واسرار التأويل ، البيضاوي (685ه)، تحقيق : الشيخ عبد القادر عرفات ، دار الفكر، 2005م.
  • البحر المحيط في التفسير ، أبو حيان الأندلسي (754هـ) ، طبعة جديدة بعناية الشيخ عرفات العشا حسونة ، مراجعة صدقي محمد جميل ، دار الفكر، 2005م.
  • التبيان في تفسير القرآن ، ابو جعفر الطوسي (460ه)، تحقيق : مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المقدسة ، ط1، 1430 هـ . ق.
  • التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور ، سماحة الاستاذ الامام الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور (1973م)، مؤسسة التاريخ العربي ، بيروت لبنان ، ط1، 2000 م .
  • تفسير القرآن العظيم ، ابن كثير الدمشقي (774ه)، منشورات محمد علي بيضون ، دار الكتب العلمية ، بيروت لبنان ، ط1، 2004م.
  • الجامع لاحكام القرآن ، القرطبي(671ه) ، تحقيق: د. عبد الحميد هنداوي ، المكتبة العصرية ، صيدا – بيروت ، 2006م
  • الجنى الداني في حروف المعاني ، المُرادي (ت 749ه)، تحقيق د. فخر الدين قباوة ، ومحمد نديم فاضل ، منشورات محمد علي بيضون ، دار الكتب العلمية ، بيروت- لبنان ، ط1 ،1992م .
  • درة التنزيل وغرة التأويل ، الخطيب الاسكافي (420ه)، دراسة وتحقيق : د. محمد مصطفى آيدين ، جائزة دبي الدولية للقرآن الكريم ، سلسلة الدراسات القرآنية ، ط1، 2009م.
  • روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني(1270ه) ، أبو الفضل شهاب الدين السيد محمود الالوسي البغدادي ، دار الفكر، ط1، 2003م.
  • شرح الرضي على الكافية ، الرضي الاستراباذي(ت 688ه)، تصحيح وتعليق : يوسف حسن عمر ، جامعة قاريونس ، 1978م .
  • العين (ترتيب) ، الخليل بن احمد الفراهيدي (ت 175ه)، تحقيق د. مهدي المخزومي ، ود. إبراهيم السامرائي ، تصحيح اسعد الطيب ، انتشارات أسوة ، مطبعة باقري ،قم ، ط1 ،1414 ه .
  • فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ، الشوكاني(1250ه) ، تحقيق : سيد ابراهيم ، دار الحديث القاهرة ، 2007م
  • في ظلال القرآن ، سيد قطب (1966م)، دار الشروق ، الطبعة الشرعية الاولى ، 1972 ، الطبعة الشرعية السابعة والثلاثون ، 2008م.
  • الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الاقاويل في وجوه التأويل ، ابو القاسم محمود بن عمر الزمخشري (ت 538هـ) ، دار احياء التراث العربي ، بيروت – لبنان، مؤسسة التاريخ العربي ، بيروت – لبنان ، ط2، 2008م.
  • مجمع البيان في تفسير القرآن ، الشيخ الطبرسي (548ه)، تحقيق وتعليق : لجنة من العلماء والمحققين الاخصائيين ، مؤسسة الاعلمي للمطبوعات ، بيروت – لبنان ،ط2، 2005م.
  • المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ، القاضي ابو محمد عبد الحق بن غالب بن عطية الاندلسي (ت 546هـ) ، تحقيق عبد السلام عبد الشافي محمد ، دار الكتب العلمية ، بيروت – لبنان ، ط2، 2007م.
  • معاني الابنية في العربية ، الدكتور فاضل صالح السامرائي ، جامعة الكويت ، كلية الاداب ، قسم اللغة العربية – الكويت ، ساعدت جامعة بغداد على نشره ، ط1 ، 1981م.
  • معاني الحروف ، أبو الحسن علي بن عيسى الرماني النحوي (384ه)، تحقيق: د. عبد الفتاح اسماعيل شلبي ، دار ومكتبة الهلال ، بيروت ، دار الشروق ، جدة ، 2008م.
  • المعجم الوسيط ، قام بإخراجه إبراهيم مصطفى ، وآخرون ، مجمع اللغة العربية ، الإدارة العامة للمعجمات وإحياء التراث ، دار الدعوة ، استانبول – تركية .
  • المفردات في غريب القرآن ، الراغب الاصفهاني (ت 502 هـ ) ، تحقيق وضبط : ابراهيم شمس الدين ، مؤسسة الاعلمي للمطبوعات ، بيروت – لبنان ،ط1 ،2009 م .
  • المفصل في صنعة الإعراب ، الزمخشري (538ه)، قدم له ووضع هوامشه وفهارسه د. إميل بديع يعقوب ، منشورات محمد علي بيضون ، دار الكتب العلمية ، بيروت – لبنان ، ط1، 1999م .
  • المقرب ، ابن عصفور(ت 669ه) ، تحقيق احمد عبد الستار الجواري ، وعبد الله الجبوري ، وزارة الأوقاف والشؤون الدينية ، لجنة إحياء التراث الإسلامي ، مطبعة العاني ، بغداد ، د.ت .
  • الميزان في تفسير القرآن ، السيد محمد حسين الطباطبائي (1981م)،منشورات مؤسسة الاعلمي للمطبوعات ، بيروت لبنان ، ط1، 1977م.
 

شارك هذا الموضوع: