سياسة بريطانيا تجاه اقليم انفدي 1890-1964.
سار الاستعمار باشكاله وصفاته المختلفة على سياسة قائمة على اساس “فرق تسد” فتمكن من الاستحواذ على مقدرات القار الفريقية لسنوات طوال، واتبع السياسة نفسها في تفتيت وحدة الحركة الوطنية الافريقية بالتشجيع على تأسيس عدد من الاحزاب السياسية في كل دولة افريقية، القائمة على اساس الانتماء القبلي او المناطقي لذلك لم نجد من بين تلك الاحزاب، الا العدد القليل جدا، قد لايتجاوز اصابع اليد، الذي اتسم بالطابع القومي الرامي الى تحقيق الوحدة الوطنية ، والذي عمل على وحدة الصف من حيث وحدة الانتماء الى الوطن لا الى القبيلة.
مع نجاح السياسة الاستعمارية الى حد كبير اضطر الاستعمار الى منح الدول الافريقية الاستقلال الواحدة تلو الاخرى، امام التطورات التي شهدها العالم والقارة الافريقية بعد الحرب العالمية الثانية، لكن الدول الاستعمارية لم تستسغ استقلال الدول الافريقية، فحاولت استمرار سيطرتها وهيمنتها على تلك الدول بطرق عدة، كان في مقدمتها مشكلات الحدود ، فقد استغلت بريطانيا مثلا ما كان موجودا من مشكلات على الحدود بين الدول الافريقية وفي حالات اخرى اوجدت بريطانيا تلك المشكلات لتكون الاداة التي يمكنها من التدخل في شؤن الدول الافريقية عند اثارتها، فبرزت مشكلة اقليم انفدي الواقع في الشمال الشرقي للصومال في حدوده مع كينيا.
جمع سكان انفدي بقاسم مشترك مع سكان اوغادين انفدي وسكان اوغادين الصومال او في اثيوبيا، إذ لديهم اللغة نفسها وانتماءهم للعشيرة نفسها وجميعهم مسلمون، وغالبيتهم على الطريقة الصوفية.
مع مجيء الاستعمار الاوربي الى افريقيا وفرض الحماية البريطانية على زنجبار عام 1890، اصبح الساحل الصومالي الداخل ضمن ممتلكات زنجبار خاضعا للنفوذ البريطاني، ونتيجة للتوجه الالماني نحو استعمار مناطق شرق افريقيا لاسيما في تنجانيقيا وصولا الى اقليم انفدي ، سعت بريطانيا الى بسط سيطرتها المباشرة على الافليم، فتمكنت من عقد عدد من الاتفاقات مع الشيوخ الصوماليين التي ادت الى وضع الاقليم تحت السيطرة المباشرة لبريطانيا.
ادى ضهور الحركات الوطنية الصومالية بعد الحرب العالمية الاولى ضد الوجود البريطاني في الصومال الى سعي بريطانيا بكل الوسائل للقضاء على الحركة الوطنية الصومالية، وبعد القضاء عليها تبرعت بريطانيا بجزء من اقليم انفدي عام 1924، الى ايطاليا لدخولها في الحرب العالمية الاولى الى جانب بريطانيا لتثبت خط طول 41 حدا فاصلا بين اقليم انفدي والصومال الكيني، ومنطقة جوبالند التي ضمت الى الصومال ليبدأ النزاع على الاقليم بين الصومال من جهة وبريطانيا وكينيا من جهة ثانية.
شهد عام 1947، انشاء اول حزب سياسي صومالي باسم”وحدة الشباب الصومالي” الذي رفع شعار الوحدة والاستقلال للشعب والارض الصومالية، فحقق انتشارا واسعا في اقاليم الصومال كافة، ومنها اقليم انفدي الذي شهد انتشار اكثر من مركز للحزب، فطالب الحزب من سكان الاقليم باتخاذ موقف متضامن واخوي تجاه اخوانهم في الصومال، والعمل سويتا على تحقيق الحرية والاستقلال، وخوفا من اتساع تأثير هذا الحزب على سكان انفدي او لمنع انتشار مبادئ الحرية بينهم سمحت بريطانيا للقوات الكينية الدخول الى اقليم انفدي لحل الحزب والقضاء على الحركة الوطنية عموما وثورتها الشعبية، وايفاد قوات كينية تتمركز في الاقليم لقمع أي حركة وطنية فطالبت بانضمام الاقليم مع الاراضي الصومالية، لكن كل تلك الاجراءات لم تمنع من ضهور احزاب سياسية في اقليم انفدي.
توجه الصومال بعد الاستقلال عام 1960، حكومة وشعبا واحزابا المطالبة بتحقيق وحدة الاراضي الصومالية بما فيها اقليم انفدي، وعلى اثر ذلك ارسلت الجمهورية الصومالية وفدا رسميا الى بريطانيا للحضور الى جانب وفد اقليم انفدي لتوحيد المواقف والاراء والمطالب بشأن اعادة الاقليم الى الجمهورية الصومالية، وهذا ما ابدته الجمعية الوطنية الصومالية في تشرين الثاني عام 1961، بالموافقة بالاجماع على تاييد مطالب ممثلي الاقليم بلانضمام الى الصومال، وفي عام 1962، اكد وفد انفدي قرب انعقاد مؤتمر لانكستر هاوس في لندن لمناقشة الدستور الكيني، عزمه على الانضمام الى الصومال قائلا : ((اننا جئنا الى لندن لنحصل على الانفصال عن كينيا نظرا لرغبة شعب انفدي في الانضمام الى الجمهورية الصومالية… نحن اخترنا هذه اللحظة لعرض مشكلتنا على الحكومة البريطانية لان مشاكل كينيا يجب ان يتم حلها الان، ومشكلة الاقليم الشمالي هي احدى هذه المشكلات))، ووزع الوفد كتاب بعنوان ” شعب معزول” مضمونه مطالب الاحزاب بالعودة الى الصومال.
بالوقت نفسه، طالبت الحكومة الصومالية اجراء استفتاء شعبي للاقليم تحت اشراف الامم المتحدة، وتزامن مع خروج مظاهرات مؤيدة لمطالب الاقليم فيا اكثر من عاصمة اوربية منها باريس وروما وغيرها من العواصم فضلا عن اقليم انفدي ، فقررت بريطانيا مواجهة هذا الحراك بارسال لجنة تحقيق الى الاقليم للوقوف على الحقائق والاراء، فالفت لجنة ضمت بعضويتها عضوان من نيجريا وكندا، التي اشرفت على الاستفتاء الذي جرى في تشرين الاول عام 1962، ووصلت لجنة اخرى لرسم حدود الاقليم، فكان موقف سكان انفدي معارضا للاجراءات البريطانية، وقاطعوا اعمال اللجنة مبررين موقفها بعدم وجود اية مصلحة بين الاقليم وكينيا، وحملوا بريطانيا عاقبة المماطلة في ضم الاقليم الى الصومال، وجاء في التقرير النهائي للجنتين بان اغلبية سكان الاقليم ايدت الانضمام الى الصومال وعدم رغبتهم بالارتباط مع كينيا باي شكل من اشكال الاتحاد او الاندماج على عكس القلة الذين ابدوا رغبة الانضمام الى كينيا. واوصت لجنة ترسيم الحدود بانشاء ست مقاطعات جديدة في الاقليم ومحاولة ارضاء الاغلبية فيها المؤيدة لكينيا تحسبا لما قد يحدث في المستقبل اذا ما قررت المقاطعات الانفصال عن ساحل الاقليم لانه سيؤثر على كينيا، وبالنتيجة الختامية فان نسبة السكان المؤيدين للانضمام الى الصومال هي اكثر من80% وان خمس مناطق من اصل ست ارادت الانضمام الى الصومال.
ومن النظرة الاولى على مطالب سكان اقليم انفدي والنسبة الكبيرة منهم التي طالبت الانفصال عن كينيا والانضمام الى الصومال، والمساحات الواسعة من الاقليم التي يسكنها المؤيدين للانضمام للصومال، يمكننا ن نلحظ مدى التأمر والانحياز البريطاني الى صالح كينيا على حساب الصومال وسكان الاقليم عندما جاء على لسان وزير المستعمرات البريطانية دنكان سانديز(Duncan Sandys) في 3 اذار 1963، بان اقليم انفدي اقليما سابعا تابعا لكينيا.
يمكننا ان نلحظ من خلال القاء نظرة على المساحات وعدد السكان في اقليم انفدي المؤيدة للانضمام الى الصومال وفق ما اعلنه الاستفتاء الذي اجرته الللجنتين البريطانيتين الخاصتين بمسألتي اجراء التحقيق والاستفتاء ورسم الحدود، ان بريطانيا عازمة منذ البداية على الوقوف الى جانب كينيا على حساب رغبة ومشاعر الشعب الصومالي وسكان الاقليم، الذين توحدت اراءهم ومواقفهم في قرار الانضمام الى الصومال، وهذا ما عبر عنه وزير المستعمرات البريطاني الذي صرح بان حكومته وجدت من المناسب عد اقليم انفدي اقليما سابعا تابعا لكينيا وفق ما تقتضيه التطورات الدستورية في كينيا، فمن ناحية اهمل القرار رغبة سكان الاقليم، ومن ناحية اخرى دل على وقوف بريطانيا الى جاب العالم المسيحي على حساب المسلمين الذي مثلوا الاغلبية في الاقليم، مما اثار نقمة جماهيرية في الاقليم والصومال عموما ترجمت بخروج مظاهرات كبيرة نددت بالقرار البريطاني، ومن ثم اعلان الصومال قطع علاقاته مع بريطانيا لكونها المسؤلة عن ضياع الاقليم والتنازل عنه الى كينيا.
امام هذا التصعيد الذي تسببته بريطانيا بفصل الاقليم عن الصومال وضمه الى كينيا حمل اكثر من نائب في مجلس العموم البريطاني حكومته مسؤلية هذا التوتر، فصرح اللورد ليتون(Lord Lyttons) في 3 نيسان 1963، امام البرلمان البريطاني عادا تصريح وزير المستعمرات بانه((تصريح يقوض كل امل وكل رغبة، انها ليست حماقة بل هي جنون مطبق، فهو يبدو وكأن انشاء اقليم سابع انما هو بمثابة اية وردت في سفر التكوين، وهي ليست شيئا من هذا النوع… وان هذه اللجنة الخاصة بانفدي لم تذهب الى هناك للبحث فيما اذا كانو يرغبون بالانفصال ام لا)). واكد لورد اخر على ما ذهب اليه اللورد ليتون قائلا: ((ما من احد يستطيع ان ينكر ان اللورد ليتون محق للغاية في قوله بان الصوماليين شعب واحد يجمعهم دين واحد مشترك ولغة مشتركة وطريقة حياة مشتركة ويميزون من الناحية العنصرية اذ هم من الجنس الحامي عن جيرانهم من البانتو والنيليين))، وحمل الحكومة البريطانية مسؤلية الازمة الحدودية بين الصومال وكينيا التي ستتفاقم بالمستقبل قائلا: (( انني على يقين من ان البرلمان لن يصفح عن أي حكومة بريطانية تتجنب اتخاذ قرار له مثل هذه الاهمية الخطرة بشأن مستقبل كينيا… وما من شك في انها سوف تؤدي بكينيا الى اراقة الدماء والعنف)). وفي لواقع ان بريطانيا كعادتها لا تستمع الى الاصوات الحرة او المعتدلة في داخل منظومتها السياسية سواء الحكومية ام البرلمانية، ولا تستمع لرغبات اصحاب الشأن، لذلك استمرت في التسويف والمماطلة لضمان بقاء اقليم انفدي تحت الحكم الكيني، وتنفيذا لذلك شكلت لجنة للمفاوضات في روما في 15 آب 1963، لكنها لم تتقدم باي مقترحات او اراء ناجعة لحل الازمة، الممثلة باعطاء سكان انفدي حق تقرير المصير، وبالمقابل رفضت الحكومة الصومالية التفاوض ووقفت موقفا صلبا بمقاطعة المفاوضات مع اللجنة مبررة موقفها برفضها التفاوص مع كينيا، وطالبت الحكومة البريطانية تقديم اقتراحات مقبولة لتكون اساسا للتفاوض، وبالوقت نفسه حملت الحكومة البريطانية مسألة فشل المفاوضات وهذا على ما يبدو ما ارادته بريطانيا بتحويل المفاوضات بعد استقلال كينيا بين الحكومة الكينية والحكومة الصومالية وكأن الامر لا يعني بريطانيا، وبالفعل تحولت مسألة الخلاف على الاقليم من حيث رسم الحدود وحق تقرير المصير بين الدولتين في المحافل الافريقية طوال سنة 1964، باصرار الصومال على اجراء استفتاء لسكان الاقليم ومنحهم الحرية باختيار مصيرهم، واصرار كينيا على بقاء الحدود على ماهو عليه مستندة على قرارات ومبادئ “منظمة الوحدة الافريقية” التي تأسست عام 1963، التي ايد غالبية اعضاءها ان لم يكن جميع اعضائها ببقاء الحدود على ما هي عليه عند الاستقلال، وبذلك تمكنت بريطانيا بتحويل اقليم انفدي ذو السكان المسلمين من الصوماليين الى نقطة خلاف وصراع بين كينيا والصومال الى يومنا هذا.
المصادر:
1-حمدي السيد سال،الصومال قديما وحديثا،ج2،الدار القومية للطباعة والنشر،القاهرة،1965.
2-بطرس بطرس غالي واخرون،الملف الخاص بالخلاف الصومالي الاثيوبي الكيني،مجلة السياسة الدولية،العدد19،1970.
3-F.O.Secret Correspondence Between the British Foreign Office and the Representive of the British Government in the House of Commons.