قصيدةُ النثر: قراءةٌ في جدلية الانتماء  بين الهوية الشعرية ومعيار الشعرية
     عرف الدرسُ النقديُّ عند العرب قديماً أسساً نقديةً دقيقةً لدارسة النصَّ الأدبي وتحديد اتجاهاته وخصائصه وجنسه، إذ كانت هذه الأسسُ بمنزلة الحدود الفاصلة ما بين النصوص الأدبية بشكلٍ عام، التي كانت تندرج تحت قسمينِ رئيسينِ اثنين، هما الشعرُ والنثرُ، فقد وضع النقّادُ القدماء شروطاً للنصِّ الأدبي؛ حتى يصحُّ أن يُطلقَ عليه شعراً، وقد تبلورت هذه الشروط أو المعايير بشكلٍ جليٍّ في تعريف قدامة بن جعفر (ت ٣٣٧هـ) للشعر، فقال: إن الشعرَ كلامٌ موزونٌ مقفّىً يدل على معنى، ومَن ينعمُ النظرَ في هذا التعريف سيجدُ أن النصَّ الشعريَّ من الممكن أن يشترك مع النص النثري في المعيار الأول والرابع: بوصفه كلاماً من جانب، ودلالته على معنىً ما من جانبٍ ثانٍ، ولذا فقد كان المعياران الآخران أي: الوزن والقافية هما الحد الفاصل ما بين الشعر والنثر،  إذ جعلهما الناقدُ القديمُ من أهم وأبرز الخصائص التي تعتمد عليها هوية النصّ الشعري، ثم جاء الآمدي (ت ٣٧٠ هـ) والجرجاني (ت ٣٩٢هـ) والمرزوقي (ت ٤٢١ هـ ) ووسّعوا الحديث عن ذلك، فوضعوا أركاناً سبعةً لعمود الشعر، من بينها الوزنُ والقافية، وبهذه الأركان صار يُعرف الشعر العربي بالشعر العمودي، الذي يعتمد على أوزان الشعر التي وضعها الخليل بن أحمد الفراهيدي من قبلُ، واستمرت الحالُ هذه لقرونٍ من الزمن، في التزام الشعراء بنظمهم بالاعتماد على بحور الشعر العربي وقوافيه، غير أن ذلك الالتزام لم يمنع من وجود محاولاتٍ عند بعض الشعراء للخروج على قوالب الخليل التي باتت من الثوابت في نظم الشعر، فقد شهد العصر العباسي نوعاً من تلك المحاولات عُرِفت بالمسمطات والمخمسات وغيرها من الأشكال الأخرى، ثم ظهر بعد ذلك شكلٌ شعريٌ آخر ألا وهو الموشّح، ومن ثمّ الشعر المرسل، وهكذا وصولاً إلى العصر الحديث وبروز ظاهرة شعر التفعيلة أو كما يُسميه البعض بـ “الشعر الحر” على يد السياب ونازك والبياتي، إلا أن ما تجدر الإشارة إليه أن هذه المحاولات التي ذكرناها لم تتخلَّ عن الوزن بشكلٍ تام، وإنما كانت عبارة عن تغييرات في عدد أجزاء البيت الشعري ” تفاعيله” زيادةً ونقصاناً، ولكن ما أن نصل بالحديث إلى خمسينيات القرن الماضي ومطلع العقد السادس منه حتى يصيرُ الكلامُ عن هذه المحاولات التجديدية مختلفاً تماماً، فقد ظهرت “جماعة شعر” في لبنان وطالبت بما لم يحدثُ من قبلُ أبداً، إذ دعت إلى التخلّي تماماً عن القوالب الخليلية المعروفة وعدم الالتزام بالأوزان والقوافي في نظمهم للشعر؛ إذ عدّوا هذا الأمر ضرباً من التقييد والتعسّف والجمود الفني، وراحوا ينظمون نصوصاً على أساسٍ من رؤيتهم النقدية هذه، وأطلقوا على هذا الشكل الجديد تسمية “قصيدة النثر” وبهذا فقد ألغت “جماعة شعر” الحدود الفاصلة المعروفة كلها، ما بين الشعر والنثر بشكلٍ تام، مكتفيةً بـ”الشّعرية” معياراً لنصّهم الشعري الجديد هذا، وكان من بين الداعين اليه، أدونيس وزوجته خالدة السعيد، وأنسي الحاج، ويوسف الخال، ومحمد الماغوط، وتوفيق الصائغ وجبرا إبراهيم جبرا، وشوقي أبي شقرا، وغيرهم.
   أُثيرت حول هذا الشكل الجديد جملةٌ من التساؤلات والانتقادات والمؤاخذات، من عددٍ من النقّاد والأدباء، فأشكلوا على تسميتها أي: قصيدة النثر، وأبدوا استغرابهم منها، ورفضهم لها؛ بوصفها تسميةً تجمع بين النقيضين في آنٍ معاً، ثم تطرّقوا في نقدهم إلى طريقة كاتبة هذا الشكل الشعري، الذي يعتمد على إلغاء الحواجز المعروفة، وتمييع الحدود الفاصلة التي تفصل كل جنسٍ أدبيّ عن الآخر، وعدّوا ذلك ضرباً من الفوضى الأدبية، وعبثاً بما قرَّ وتعارف عليه الأدباءُ والنّقّادُ لقرونٍ من الزمن، فلا يُعدُّ النصُّ شعراً -حسب رأيهم- ما لم يتوافر على عنصري الوزن والقافية، كما لم يروا في ذلك تجديداً ولا إبداعاً يمكن أن يُسجّلَ لجماعة شعر، فقد رأى هؤلاء الناقدون أن ما جاءت به جماعة شعر، عبارة عن تقليدٍ للتجربة الغربية، واحتذاءٍ لما قامت به الناقدة الفرنسية سوزان برنار في كتابها “قصيدة النثر من بودلير ليومنا هذا” التي تُعدُّ رائدة هذا المصطلح، لذا رفضوا انتماء قصيدة النثر إلى جنس الشعر، أو عدّه وجهاً من وجوه التطوّر والتجديد على القصيدة العربية الكلاسيكية و شكلها أو إيقاعها، واكتفوا بعدِّها نمطاً من أنماط الكتابة الأدبية ليس إلا…
    فيما دافع مريدو قصيدة النثر عن هذا “الشكل الشعري الجديد” -على حدِّ تعبيرهم- ورأوا بأنّها لا تعتمد على إيقاع الشعر السائد والمعروف، بل تعتمد على الإيقاع الداخلي فقط، فضلاً عمّا تنمازُ به عن القصيدة العمودية في الإيجاز، والتوهّج، والمجّانية، وهذا -حسبما يرون- كافٍ لتحقيق الشّعريّة فيها، ومن ثَمَّ عدّها شكلاً شعرياً جديداً، فالشعريّةُ عندهم معياراً مهمّاً في الدفاع عنها وتفنيد ما أُخِذَ عليها، وحجّتُهم في ذلك، أن القرآن الكريم وهو كلامُ الله المُنزلُ قد أطرب الأسماع، وسحر العقول، وأعجز الألسن عن أن يؤتى بمثله، هو غيرُ موزونٍ أو مقفّىً، ومع ذلك كلّه، فهو على درجةٍ عاليةٍ من الجمال، والتأثير، والإعجاز؛ لما فيه من شّعريّةٍ عاليةٍ جداً…
   هكذا بقتُ الحالُ بالنسبة لقصيدةٍ النثر – على الرغم من مرور خمسة عقودٍ على ظهورها عربياً- بين رفضها بوصفها ابناً غير شرعيٍّ للشعر العربي، والدفاع عنها من قبل كُتّابها ومريديها بوصفها شكلاً جديداً ومتطوّراً تمنح الشاعرَ ما لا تنمحها القصيدةُ الكلاسيكية من حيث الفسحةُ، والحرّيةُ، والانسيابية في التعبير عن الأفكار، والعواطف، والرؤى، وعلى أية حالٍ ظلّت جدليةُ انتمائها قائمةً إلى يومنا هذا، مع استمرار كتابتها والدفاع عنها أيضاً، ويُعدُّ الناقد العراقي الدكتور محمد صابرعبيد من ضمن كتّابها البارزين والمدافعين عنها في كتاباته النقدية بشغفٍ كبير…

شارك هذا الموضوع: