مقال بعنوان
(( مفهوم التفكير في القران الكريم والاصطلاح ))
اعداد: أ,م.د يحيى عبيد ردام الطائي
جامعة كربلاء – كلية التربية للعلوم الانسانية
قال الله تعالى بسم الله الرحمن الرحيم (( كَذَلِكَ نُفَصِلُ الآيات لِقَومٍ يَتَفَكَرُونَ ))صدق الله العلي العظيم .( البقرة : 219)
التفكير نعمة إلهية وهبها الله (عز وجل) لبني البشر دون غيرهم من مخلوقاته ، وقد نال مفهوم التفكير اهتمام عدد كبير من الفلاسفة والمربين والباحثين عبر التاريخ , وقد عَنَت المدارس الفلسفية والفكرية والتربوية والنفسية جميعاً بتنمية الفكر والتفكير لدى المتعلم من اجل أن يصبح أكثر قدرة على مواجهة الصعوبات والمشكلات التي تعترض سبيله في مناحي الحياة المختلفة من اجتماعية واقتصادية وتربوية وغيرها, وليس من شك ان لكل فرد أسلوبه الخاص في التفكير والذي يتأثر بنمط تنشئته ودافعيته وقدراته ومستواه التعليمي وغيرها من الخصائص والسمات التي تميزه عن الآخرين، الأمر الذي قاد إلى غياب الرؤية الموحدة لدى العلماء بخصوص تعريف التفكير وماهيته ومستوياته وأشكاله .
إن الاهتمام بموضوع التفكير قديم قدم الإنسان ذاته ، حيث يتطلب دائماً استخدام العقل للتكيف مع البيئة بمتغيراتها التي لا تقع تحت حصر أو مجال محدد والتي شكلت على مر الزمن تحديات كبيرة كان على الإنسان دوماً أن يتمكن من مواجهتها حتى يضمن لنفسه البقاء واستمرار الحياة وليس أدل على ذلك من أن الأديان السماوية قد حثت على استخدام العقل والتدبير في خلق الله عز وجل والاستدلال عليه وعلى عظمته وقدرته بشتى الوسائل والطرق العقلية الممكنة.
ويُعَد التفكير من المسائل التي تثير الكثير من التساؤلات حول مدلوله فهل جميع الناس يفكرون؟ وهل هم متساوون في درجة التفكير؟ وهل هم مختلفون في نوع التفكير؟ وهل يشمل التفكير كل العمليات العقلية؟ وعن طريق استعراض الأسئلة السابقة يتبين لنا ان لهذا المفهوم أهمية كبيرة ، فالتفكير الجيد هو الذي يتصل بأكثر من مهارة ، ولذلك يحتوي على عدة مهارات ممثلة بالانفتاح العقلي، كما يعد التفكير مصدرا لتزويد الأفراد بمجموعة من الاستراتيجيات يستطيعون من خلالها التفاعل والتعامل مع البيئة التي ينتمون إليها.
ويعرف مفهوم التفكير في اللغة : إعمال الخاطر في الشيء أو إعمال العقل في الأمر، وأفكر في الأمر: فكر فيه فهو مفكر، وهو بالفتح أفصح من الكسر. (ابن منظور)
أما في الاصطلاح : فالتفكير عبارة عن سلسلة من النشاطات العقلية التي يقوم بها الدماغ عندما يتعرض لمثير ما يتم استقباله عن طريق واحدة او أكثر من الحواس الخمسة ( اللمس، البصر، الشم، الذوق، السمع )، والتفكير بمعناه الواسع عملية بحث عن معنى في الموقف او الخبرة وقد يكون هذا المعنى ظاهراً حيناً وغامضاً حيناً آخر ويتطلب التوصل إليه تأملاً وإمعان نظر في مكونات الموقف او الخبرة التي يمر بها الفرد ولذلك فهو يتضمن الاكتشاف والتجريب ونتائجه غير مضمونة، ونحن نبدأ التفكير عادة عندما لا نعرف ما الذي يجب عمله بالتحديد، وهو مفهوم مجرد كالعدالة والظلم والشجاعة لان النشاطات التي نقوم بها عند التفكير غير مرئية وغير ملموسة وما نشاهده في الواقع ونلمسه هي نواتج فعل التفكير.
ويعد التفكير ضرورة حيوية من ضروريات الإيمان بالله سبحانه وتعالى، ووسيلة الإنسان لاكتشاف نواميس الكون، وتدبر حكمة الله جلَّ وعلا فيه، وهو احد المظاهر التي تميز الإنسان عن باقي المخلوقات، وعملية ذهنية يمارسها الإنسان في كل موقف من مواقف الحياة في مواجهة التحديات الحياتية الجديدة.
ولأهمية التفكير حضَّ القرآن الكريم الإنسان المؤمن على التفكير من طريق آياته البينات، قال تعالى: (( قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ))*، وقوله تعالى: ((الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ))** فالآيات الكريمة ناطقة بدعوة الإنسان وتحفيزه على التفكير، وعدم القبول بالامور كما هي، وانما التفكير في خلق السماوات والأرض، ليكون إيمان الإنسان بالله سبحانه وتعالى ليس فطريا، وإنما الاهتداء الى الله الواحد الأحد خالق الكون من طريق العقل ، والقرآن الكريم يحضّ الإنسان على التدبر والتفكير في تجارب السابقين والأمم الأخر والبحث والاطلاع على آثارهم لاستنتاج مدلولات جديدة، واستخلاص المعاني منها لتوظيفها في الواقع الحياتي المعاصر، قال تعالى ((أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ))***.
ونلحظ من الآية القرآنية السابقة ان دعوة القرآن الكريم للتفكير اخذت صيغ عديدة منها (النظر، والسمع، والعلم، والعقل، والتفكر، والتقدير)، ووصف جلَّ وعلا من يستعمل هذه الصيغ بأنهم أولي الألباب أَي أصحاب العقول ، فالنظر هو تقليب البصر لرؤية الشيء ثم ادراكه ، ويراد به التأمل والفحص والمعرفة الحاصلة بعد الفحص، قال تعالى: ((أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ))* ، وإن السمع يعبر عن الفهم وهو مصدر من مصادر جمع المعلومات عند الإنسان، قال تعالى: ((وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ))**، والعلم هو إدراك الشيء على حقيقته ويعد من مصادر المعلومات التي تشغل فكر الإنسان، لذلك حضَّ الله تعالى عباده على تلقي العلم وفضل المتعلمين على غيرهم في قوله تعالى: ((قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ))***، والعقل هو بداية التفكير وشغل الفكر لإدراك العلاقات وإدراك النتائج فيما سيؤول إليه الأمر إذا استمر الإنسان على شيء او سلك أمراً ما، فالبداية تكمن في التمييز بين ما ينفعه وما يضره، وهو ما يسمى بالتفكير الناقد، قال تعالى: ((وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ))****، كما وردت كلمة التدبير مقترنة مع كلمة القرآن، والمراد من هذه الخصوصية هو تدبر القرآن الكريم، بمعنى تناوله بالفهم والاستيعاب، والتعمق في دراسة آياته، وواضح ان الله سبحانه وتعالى قد خصَّ القرآن الكريم بهذه الدرجة العالية والعميقة من التفكير لأهميته، وعليه يكون التدبر هو أعلى درجة من سلم التفكير في آيات الله، لأن القرآن لا يُنظر إليه بسطحية وإنما بعمق لاستخراج الأحكام من باطن المعنى وليس اعتماداً على ظاهر النص.
أ.م.د يحيى الطائي
التخصص – دكتوراة فلسفة في التربية وعلم النفس
2024- 9 نوفمبر