من الفلسفة إلى الطب: تطور مفهوم الصحة النفسية عبر الحضارات
 
تُعَدُّ الصحة النفسية من المتغيرات التي حظيت باهتمام كبير منذ العصور القديمة، رغم أنها لم تكن معروفة بالمصطلح الحديث المستخدم اليوم. فقد عرف الإنسان الاضطرابات النفسية منذ بدايات وجوده على الأرض، وحاول الكهنة والفلاسفة والمفكرون والأطباء ورجال الدين عبر العصور فهم وتشخيص وعلاج هذه الاضطرابات بطرق متنوعة تتماشى مع معتقداتهم وظروفهم الاجتماعية والثقافية.
بدأ تطور مفهوم الصحة النفسية منذ نحو خمسة آلاف عام، حيث اعتقد القدماء أن الأمراض النفسية عقوبة تفرضها الآلهة على البشر جراء آثامهم وخطاياهم، وربطوها بسيطرة الأرواح الشريرة على النفس البشرية. وتعود الجذور التاريخية للفكر الحالي حول الصحة النفسية إلى الحضارات القديمة مثل الحضارة المصرية، البابلية، الصينية، الهندية، والسومرية. على سبيل المثال، تضمنت أوراق البردي المصرية إشارات مبكرة لبعض الاضطرابات العقلية، حيث ذُكرت ملاحظات حول تأثير الشيخوخة، مثل الاكتئاب وضعف الذاكرة، على الصحة العقلية.
في الفترة ما بين 550-500 ق.م، كان الفيلسوف الكميون أول من أشار إلى أن المخ هو مركز العقل، وأن الاضطرابات التي تصيبه تسبب الأمراض العقلية. وقد جاءت إسهاماته كمقدمة لهيبوقراط الذي اعتبر أن للاضطرابات النفسية أسبابًا طبيعية، وهي رؤية امتداد لوجهة نظر فيثاغورس التي عدت الدماغ مركزًا للفعالية الذهنية وأرجعت المرض النفسي إلى مرض الدماغ. وفي هذا السياق، ناقش أفلاطون أهمية المعاملة الإنسانية وفهم المرضى من خلال تحليل أحلامهم وسلوكياتهم، بينما ركز أرسطو على دور العوامل النفسية مثل الإحباط والصراع الداخلي في نشأة المرض النفسي، رافضًا النظريات السحرية التي كانت سائدة في ذلك الوقت.
في أواخر الفترة الكلاسيكية، ألقى أسكيلبيادس الضوء على أن الاضطرابات النفسية تنشأ عن اضطرابات العواطف والمشاعر. أما جالينوس، فقد طور نظرية السوائل الأربعة في الجسم وربط الكآبة بزيادة سائل السوداء، والتي تتحول إلى الهوس عند ارتفاع حرارتها. ومع انهيار الحضارتين اليونانية والرومانية، شهدت أوروبا عودة للتفسيرات السحرية والشعوذة، مما أضعف دور الأطباء في علاج الاضطرابات النفسية والعقلية، وحل محلهم رجال الدين الذين أعادوا هذه الممارسات إلى سياق ديني متشدد.
في المشرق الإسلامي، أحدث الإسلام تغييرًا كبيرًا في التعامل مع الأمراض النفسية، إذ رفض الخرافات المرتبطة بالجن والشياطين وقدم الاستشفاء بالقرآن الكريم كوسيلة روحانية فعالة. وقد برز علماء العرب مثل الرازي الذي رأى أن العلل قد تكون نفسية بحتة، مثل الحزن والغضب والعشق، وأكد أن ما يعرض للإنسان قد يكون عارضًا جسديًا أو نفسيًا. كما أبدع ابن سينا في تأصيل فهم الأمراض النفسية من خلال ربطها بالانفعالات العاطفية وتأثيراتها على الصحة النفسية.
ومع بداية عصر النهضة في أوروبا، بدأت العقول المتحررة من ظلمات العصور الوسطى تهتم مجددًا بالبحث في أسباب الاضطرابات النفسية والعقلية. كان الفيلسوف الإسباني جوان لويس فيف من أوائل الذين درسوا دوافع السلوك الإنساني، وقد أسهمت نظرياته في فتح آفاق جديدة لفهم الصحة النفسية. تبعه بارسيليوس الذي عزا بعض الاضطرابات إلى أسباب نفسية بحتة وابتكر مفهومًا للقوة المغناطيسية في الجسم، وهو ما طوره أنتون مسمر لاحقًا في نظريته عن المغناطيسية الحيوانية، التي شكلت حجر الأساس للمدرسة النفسية الحديثة.
في القرن التاسع عشر، كشف الطبيب الإنجليزي جيمس بريد أن التنويم المغناطيسي هو ظاهرة نفسية بحتة يمكن إحداثها دون استخدام المغناطيس. وتعمق الطبيبان ليبولت وبرنهايم في دراسة العلاقة بين التنويم والهستيريا، مما ساهم في بناء أساس علم النفس الإيحائي. كما أرجع بيير جانيه الهستيريا إلى التجارب الشخصية والذكريات المؤلمة التي يتعرض لها الفرد في حياته، مما وضع الأساس لفهم أوسع لدور العوامل النفسية والتجارب المبكرة في نشأة الاضطرابات.
وهكذا، تتبع الصحة النفسية مسارًا طويلاً ومتشعبًا من التطور، حيث مزجت بين المعتقدات الدينية والفلسفية والجهود العلمية حتى وصلت إلى المفاهيم الحديثة التي تركز على التفاعل بين العوامل البيولوجية، النفسية، والاجتماعية في فهم وعلاج الاضطرابات النفسية.
 

شارك هذا الموضوع: