م. نشأة الصيرفة في كربلاء
منذ أن ضمّت تُربة كربلاء المقدسة جسد الإمام الشهيد أبي عبد الله الحسين-عليه السلام-ونُخبة من أهل بيته وأصحابه الكرام، صارت مقصدًا للناس يأتونه من كل فجٍّ عميق، وهذا ما نقرأه في مختلِف المصادر الإسلامية المتقدِّمة زمنيًا وفي ما كتبه الرحالة من المسلمين والأجانب الذين زاروا كربلاء في القرون الخمسة الأخيرة ودوّنوا ما شاهدوه فيها من تعدّد أجناس الناس الآتين من جميع أنحاء العالم الإسلامي.
لقد صوّرت جملة من المصادر مدينة كربلاء بأنها كانت تطفح بالحياة التجارية، وهذا أمر بديهي، فالزائرون كانوا بالآلاف والتجمُّع في مكانٍ ما لا سيما عند المراقد المقدسة يخلق سوقًا حافلاً بالبيع والشراء، ولما كانت هذه البقعة المباركة مستقطبة للزائرين من دول مختلفة وكل دولة لها عملتها النقدية الخاصة بها، لذلك ظهرت الحاجة إلى وجود مهنة الصيرفة في كربلاء، ولستُ أعلم على وجه الدقّة متى ظهرت فيها، إلّا أن أوّل ذِكرٍ لها-بحسب اطّلاعي-كان على لسان الإنجليزي “سوانس كوبر” الذي زار مدينة كربلاء عام (1893م)، ووصف ما شاهد فيها ومن ذلك قوله: ((مررنا بشوارع مزدحمة وأسواق، وتوقّفنا عند محل صرافة النقود)).
ولا أعتقد أن مهنة الصرافة أو الصيرفة بدأت فجأة في كربلاء من هذا التاريخ، فالحاجة إليها كانت مُلحّة قبل مجيء “كوبر” بكثير، فقد ذكر رحّالة آخرون سبقوه بقرنين من الزمن وأقل من ذلك، أن المدينة كانت تستقطب كثيرًا من تجار الدول المختلفة، لتصريف بضائعهم على الزائرين القادمين من أصقاع العالم الإسلامي المختلفة، وهنا كان لا بد من وجود صيرفي يُسهّل على الوافدين عملية تصريف العملات، ولعلّها-أي الصيرفة أو الصرافة-بدأت بسيطة، كأن يقوم شخص وهو الصيرفي أو الصرّاف بمهنته من دون أن يكون له محل ثابت، فربما كان يتجوّل في السوق ويُعرِض خدمته على الناس، أو يجلس في مكانٍ ما مكشوفًا كما كان عليه الحال إلى وقت قريب في مدينة كربلاء المقدسة، بل ما يزال ذلك. (ينظر: ابن قولويه، كامل الزيارات، ص539؛ الإدريسي، نزهة المشتاق، ص668؛ الخليلي، موسوعة العتبات المقدسة، ج8، ص281؛ مركز تراث كربلاء، كربلاء في مذكرات الرحالة، ص20، 143-144، وغيرها)
م.د. أحمد مهلهل مكلف