نظرية الهيمنة الامريكية
منذ عهد الاستعمار البريطاني للقارة الامريكية وترسيخ الوجود الإنكليزي في المستعمرات الثلاثة عشر ، ترسخ لدى المهاجرين البريطانيين من المذهب البيوريتاني ” ان الله اسند لهم مهمة عظمى في هذه القارة ” بناءً على ما كانوا يعتقدون به .
والبيوريتانية هي مذهب مسيحي بروتستانتي نشأ وترعرع في إنكلترا خلال عهد الملكة اليزابيث الأولى ، وهو مذهب معارض لكنيسة إنكلترا الرسمية ( الانجليكانية ) ، آمنوا بضرورة الغاء اللباس والرتب الكهنوتية وبالكتاب المقدس مصدرا وحيدا للعقيدة الدينية دون الاخذ بأقوال القديسين ورجال الكنيسة ، واطلقوا على انفسهم مذهب المتطهرين ، تأثروا بتعاليم جون كالفن الى حدٍ بعيد حتى اطلق عليهم (الكالفنيون) ، ومعروف ان من الأسس الكالفنية ( ان الانسان مسير وليس مخير ) و ( ان الله اختار بالفعل من سينقذهم في الاخرة ) ، لذلك تزمتوا ايما تزمت في مختلف جوانب الحياة ومن جوانب تزمتهم رفض رقابة الدولة على الكنيسة بل أرادوا رقابة مذهبهم على الدولة ، واظهروا عدم قبولهم بل واحتقارهم لحكم النساء سيما حكم الملكة اليزابيث الأولى ، وهذا ما سبب اضطهادهم واضطرارهم الى الهجرة الى العالم الجديد للتخلص من (شرورهم) من قبل النظام السياسي في بريطانيا ، ومما امنوا به أيضا ” ان كل عناق دعارة وكل رقص مشترك فسق وفجور ” ، وفي نظر معظم البيوريتان ان الموسيقى والزجاج الملون والصور الدينية والاردية الكهنوتية البيضاء كلها أمور تحول دون الاتصال بالله والاتجاه اليه ، كما حرموا استخدام مستحضرات التجميل وترتيب الشعر وعدوها ضربا من الزهو والغرور والتفاهة ، كما استنكروا الاحتفالات والاعياد ، وحرموا الألعاب والملاهي وعدوا يوم ميلاد السيد المسيح على انه من التقاليد الوثنية وان يوم الميلاد يجب ان يكون يوماً للصيام والكفارة ، وتوسعوا في إرهاب الناس بالوعظ ويوم الجحيم ، وعدوا انفسهم المرشدين للناس والهادين لسلوكهم ، وكان الفقر لا الغنى هو الخطيئة في نظرهم لأنه ينم عن الافتقار الى الخلق الشخصي والى نعمة الله لذلك جوزوا المشروعات والمغامرة التجارية والملكية الخاصة .
وبهذه الصورة من التزمت والاحتفاء بالنفس والايمان المشوه وان الله اجتباهم من بين جميع المذاهب واوكل اليهم مهمة انقاذ العالم ، انطلق البيوريتان الى القارة الجديدة واستوطنوا مستعمرات نيو انجلاند ( مستعمرات بريطانيا الشمالية في القارة الامريكية ( الولايات المتحدة الامريكية لاحقا ) ) ، ومارسوا شتى أنواع الممارسات المتطرفة ظناً منهم انهم أولياء الله على الأرض . وهذا بالضبط ما آمن به اليهود وانهم بعثوا لإنقاذ البشرية وجعل القدس ارض الميعاد بالنسبة لهم .
وباستيطانهم ما عرف لاحقا بالولايات المتحدة الامريكية ونتيجة لتزمتهم ، هجرت مستعمرات اقامتهم كثير من اتباع المذاهب الأخرى واسسوا مستعمرات خاصة بهم ، بل واجبروا كل من يعارضهم في العقيدة على ترك مستعمراتهم والاستيطان في مستعمرات جديدة .
وبعد استقلالها عن بريطانيا تركت البيوريتانية اثرها في النظام السياسي الأمريكي فقد اشترطوا الموافقة على الدستور الفدرالي اصدار ( قائمة الحقوق الامريكية ) ، بل وظهرت مؤثراتهم الفكرية بشكل جلي على الإباء المؤسسين ومن بعدهم الرؤساء الامريكان ، حتى ان العبارات الدينية واختيارهم بعناية من الله ، وان الله اجتبى أمريكا للقيام بدور عالمي ، ظهرت في كثير من عبارات وخطب الرؤساء الامريكان وعلى سبيل المثال لا الحصر ما ذكره الرئيس جورج واشنطن في احد خطبه ” ما من شعب مدعوا اكثر من شعب الولايات المتحدة الى شكر الله وعبادة اليد الخفية التي تقود أمور الناس . فكل خطوة جعلتهم يتقدمون على طريق الاستقلال الوطني تبدو موسومة بسمة التدخل الإلهي ” ، وما ذكره جون جاي ” ان أمريكا … المحمية بالعناية الإلهية والتي تنزاح نحوها الحضارة ، وهي مرحلة انتقالية نحو العالمية ، نحو تحرير الأرض بكاملها ” ، فضلا عن ما ذكره بنيامين فراكلين ” من ان المؤسسات والعادات والمبادئ الامريكية مخصصة للتطبيق في كل مكان ” وهذا لعله التبشير الأول نحو العولمة وفقا للنموذج الأمريكي ، ثم ما ذكره الرئيس بوش الابن ” لا يمكن للمرء ان يكون رئيسا لهذه البلاد من دون قناعة اننا الامة الوحيدة الخاضعة لأوامر الله ” . كما ان الخطب السياسية المعدة لاستلام منصب الرئاسة لجميع الرؤساء الامريكان ، ورد فيها ذكر فضل الله وبركاته التي أحاط بها الامة الامريكية وان الجمهورية الامريكية هي جزء من ( التدبير الإلهي ) ، بل تجاوز الامر ذلك ليسمح لدولة تؤمن بالحياة المادية ان تضع حتى على عملتها الوطنية عبارة ” بالله نحن نؤمن In God Wy Trust –” .
من هنا نخلص الى القول بان جذور الهيمنة الامريكية عميقة بعمق تأسيس هذه الدولة ، وان رواسب البيوريتانية تركت اثرها على جميع مراحل التاريخ الأمريكي الحديث والمعاصر ، تلك الرواسب النابعة من التزمت والتطرف والايمان المطلق بانهم الدولة المختارة والمكلفة بأداء دورا عالمي ، وهذه المقاربة ذاتها التي امن بها اليهود ومن بعدهم الكيان الصهيوني ، وهذا احد اسرار التقارب بينهما .