في عالمنا المعرفي المعاصر، أصبحت الحاجة إلى تطوير أساليب وطرق جديدة لفهم النصوص أمرًا بالغ الأهمية لا يقتصر فهم النصوص على قراءة الكلمات واستخراج المعاني الظاهرة فقط، بل يتطلب معرفة متعددة الأبعاد تأخذ في الحسبان مختلف السياقات التي قد تساهم في تفسير النصوص وتوضيحها. هذا النوع من المعرفة لا ينحصر في جانب واحد، بل يتطلب دمج مجموعة من الأبعاد التي تشمل السياق الثقافي، التاريخي، اللغوي، الاجتماعي، والذهني للفهم الأمثل.
المعرفة المتعددة الأبعاد:
التعريف والمفهوم
المعرفة المتعددة الأبعاد تشير إلى القدرة على معالجة وتفسير المعلومات من خلال عدة زوايا أو أبعاد متكاملة، مما يسهم في تكوين فهم شامل ومعمق للنصوص ، هذه الأبعاد قد تشمل المعاني اللغوية ، الخلفية الثقافية ، التوجهات الفكرية ، والأهداف الاجتماعية التي قد يكون الكاتب أو المتحدث قد سعى لتحقيقها.
في هذا السياق ، يمكن القول إن الفهم لا يكون مقتصرًا على مجرد استخراج معاني الكلمات ، بل يشمل تحليل النص في سياق أوسع يأخذ في اعتباره جميع العوامل التي قد تؤثر على الرسالة التي يحملها النص.
الأبعاد اللغوية
البُعد اللغوي هو البُعد الأساسي في أي عملية فهم للنصوص. يشمل هذا البُعد دراسة المفردات، التراكيب اللغوية، والتراكيب النحوية، ويعتمد على القواعد اللغوية التي تحكم كيفية تشكيل المعاني من الكلمات والجمل، لكن الفهم المتعدد الأبعاد يتجاوز التركيز على اللغة فقط، ويأخذ بعين الاعتبار كيف يمكن للمعاني أن تتغير بناءً على السياق الذي تستخدم فيه الكلمات ، على سبيل المثال ، قد تحمل نفس الكلمة معاني مختلفة في سياقات مختلفة ، لذلكيجب أن يكون القارئ أو المفسر قادرًا على ربط الكلمات والمعاني بالنواحي السياقية الأوسع لتفسير النص بشكل دقيق.
البُعد الثقافي والاجتماعي
الجانب الثقافي والاجتماعي يعد من الأبعاد الحيوية لفهم النصوص بشكل كامل. الثقافة الاجتماعية، خلفيات الكاتب، والمجتمع الذي ينتمي إليه يمكن أن تؤثر بشكل كبير في تفسير المعاني. في العديد من الحالات، قد تحتوي النصوص على إشارات ثقافية تتطلب فهماً عميقاً لهذه الثقافة لتفسير الرموز والمعاني المخفية.
في هذا السياق، يشير الباحث الفرنسي بيير بورديو إلى أهمية فهم النصوص من خلال العوامل الاجتماعية التي تؤثر في الإنتاج الثقافي وتوجيهه ، فالنصوص لا تُكتب في فراغ ، بل هي نتاج بيئات اجتماعية وثقافية تؤثر على معانيها.
البُعد التاريخي
التاريخ يشكل بُعدًا آخر مهمًا لفهم النصوص. النصوص قد تكون نتاجًا لفترة زمنية معينة، وبالتالي يجب النظر إليها ضمن السياق التاريخي الذي نشأت فيه. معرفة الأحداث والتطورات التاريخية قد تساعد في تفسير النوايا الكامنة وراء النصوص وأهدافها.
على سبيل المثال، عند قراءة نصوص أدبية من القرن التاسع عشر أو العشرين، يجب على القارئ أن يكون على دراية بالأحداث السياسية والاجتماعية التي كانت سائدة في ذلك الوقت لفهم كيفية انعكاسها في الأدب.
البُعد النفسي والمعرفي
البُعد النفسي يتعامل مع كيفية تأثير الحالة النفسية للمؤلف أو القارئ على عملية تفسير النص. الأبحاث في مجال علم النفس المعرفي تشير إلى أن طريقة معالجة المعلومات وفهمها تتأثر بالخبرات الشخصية والفكرية لكل فرد. الفهم المتعدد الأبعاد يتطلب أيضًا فحص كيفية استجابة الأفراد للنصوص بناءً على خلفياتهم النفسية والمعرفية.
أهمية المعرفة المتعددة الأبعاد في فهم النصوص
التنوع في الفهم: من خلال توظيف أساليب تحليلية مختلفة، يصبح النص أكثر غنىً وتعددًا في معانيه. هذا يمكن أن يساعد في فتح أبواب جديدة لفهم النصوص التي قد تبدو محصورة في معنى واحد فقط.
السياق الثقافي والتاريخي: من خلال الاستناد إلى معرفة خلفية النص من خلال سياقه الثقافي والاجتماعي، يمكن للقارئ أن يفهم النص بشكل أعمق. مثلاً، في الأدب العربي، قد يتطلب فهم النصوص المعاصرة الرجوع إلى فهم الوضع السياسي والاجتماعي في العالم العربي.
تحليل الطبقات المتعددة للنص: النصوص الأدبية والفكرية غالبًا ما تحتوي على طبقات متعددة من المعاني الرمزية، ويمكن للقراءة المتعددة أن تكشف هذه الطبقات المختلفة.
تشجيع النقد المتعدد: تتنوع المدارس النقدية (مثل المدرسة البنيوية، ما بعد البنيوية، الفينومينولوجيا) وتوفر لكل منها أدوات تحليلية تساعد في فهم النصوص من زوايا جديدة. وهذا يعزز من قدرة القارئ على استيعاب النص بعمق أكبر.
هذا “المعرفة المتعددة الابتعاد”، قد يتم مقارنة نصوص من ثقافات أو فترات زمنية مختلفة، مما يعزز من الفهم ويكشف عن العلاقات المشتركة أو الفروق التي يمكن أن تكون غير مرئية إذا قرأت النصوص بشكل فردي.
طرق تطبيق المعرفة المتعددة الأبعاد
يمكن تطبيق المعرفة المتعددة الأبعاد من طريق عدة طرق منها:
القراءة عبر عدسات مختلفة: من خلال تقنيات متعددة مثل قراءة النص الأدبي من خلال منظور نفسي، اجتماعي، أو فلسفي، يمكن أن نرى أبعادًا جديدة في معانيه.
القراءة التاريخية: هذا يشمل دراسة النص ضمن سياقه الزمني والاجتماعي. فالنص الأدبي قد يكون قد كتب في فترة تاريخية معينة، وفهم تلك الفترة يعزز من فهم مغزى النص.
استخدام النظرية النقدية: مثلما تم استخدام النقد الأدبي في القرن العشرين، مثل النقد الماركسي، النسوي، أو النسقية البنيوية، يمكن للناقد أن يطبق هذه النظريات على النصوص لاستكشاف أبعاد جديدة فيها.
المقارنة بين النصوص: في إطار “المعرفة المتعددة الابتعاد”، قد يتم مقارنة نصوص من ثقافات أو فترات زمنية مختلفة، مما يعزز من الفهم ويكشف عن العلاقات المشتركة أو الفروق التي يمكن أن تكون غير مرئية إذا قرأت النصوص بشكل فردي.
تحديات المعرفة المتعددة الابتعاد
مع التقدم التكنولوجي والرقمنة، أصبح من الممكن التعامل مع النصوص عبر أدوات الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي، مما قد يساهم في تحسين فهم النصوص من خلال نماذج تعلم ذكية تستوعب الأبعاد المتعددة للنصوص ، ومع ذلك، تظل التحديات قائمة في فهم التفاعلات البشرية المعقدة في النصوص الثقافية والاجتماعية ، ويمكن الاشارة الى عدد من التحديات أو المعوقات تتمثل في الآتي:
الإفراط في التأويل: من التحديات المرتبطة بهذا المنهج هو احتمالية الإفراط في التأويل وتعدد التفاسير بشكل قد يؤدي إلى تشويش المعنى الأصلي للنص.
التعقيد الأكاديمي: تطبيق مجموعة من الأساليب والمنهجيات النقدية يتطلب مستوى عاليًا من الفهم والتدريب، ما قد يجعل بعض النصوص معقدة جدًا أو عسيرة على الفهم بالنسبة للقراء المبتدئين.
الخلافات بين المدارس النقدية: في بعض الأحيان قد يتصادم النهج النقدي مع نهج آخر، ما يخلق تباينًا في كيفية تفسير النصوص، مما يؤدي إلى صعوبة في تحديد التفسير الأكثر دقة.
خاتمة:
المعرفة المتعددة الأبعاد تمثل منهجًا غنيًا في دراسة النصوص وفهمها بشكل أعمق وأكثر تنوعًا ، بتوسيع الأفق الفكري واستخدام أدوات نقدية متعددة ، يتيح هذا المنهج للقراء والباحثين فرصة لاستخراج معاني جديدة وتجارب قراءة غير تقليدية رغم التحديات التي قد يواجهها هذا النوع من الفهم ، إلا أنه يعزز من قدرة الإنسان على التفاعل مع العالم الثقافي والفكري بشكل مرن وواقعي ، حيث تتطلب عملية فهم النصوص في العصر الحالي أن يكون القارئ أو المحلل قادرًا على دمج عدة أبعاد معرفية وثقافية وفكرية لتفسير النصوص بشكل دقيق ، تشكل المعرفة المتعددة الأبعاد ركيزة أساسية لفهم أعمق وأشمل لمحتوى النصوص ، مما يسهم في تعزيز قدرتنا على التواصل والتفاعل مع النصوص بكل تنوعها وتعقيداتها.
المصادر
حسن، سامي (2015):النصوص الأدبية بين المعنى الظاهر والمخبأ،مجلة الأدب العربي.
الجوادي، عادل (2019): الفهم متعدد الأبعاد للنصوص، دراسة في مقاربات الفهم الثقافي والاجتماعي، دار الكتب العربية.
Eagleton, T. )1983(. Literary Theory: An Introduction. University of Minnesota Press
Bourdieu, P. )1993(. The Field of Cultural Production. Columbia University Press
Van Dijk, T. A. )2008(. Discourse and Context: A Sociocognitive Approach. Sage