عنوان المقال” “التناغم: بوابة السعادة واستعادة التوازن بين العقل والروح”
التناغمُ هو قيمة إنسانية جوهرية تفيض بالمعاني؛ فهو ذلك التوافق العميق بين المشاعر، والأفعال، والعلاقات، والآراء، والمصالح، مما يعكس انسجامًا وتوازنًا بين قوى الحياة المتنوعة. وقد أولى علماء النفس والفلاسفة هذا المفهوم اهتمامًا بالغًا، حيث بحثوا في آثاره على السعادة والرفاهية الذاتية، وتوصلوا إلى أن للتناغم دورًا محوريًا في إدراك الإنسان لمعنى الحياة وتعامله معها. إنّه جوهرٌ تتجلى فيه أبعاد النفس في أبهى صورها، وتنعكس فيه قيم علم النفس الإيجابي الذي يسعى لتعزيز الرفاهية الإنسانية.
في الفلسفات الشرقية، نجد أن مفهوم التناغم قد ترسّخ منذ قرون طويلة. ففي تعاليم الكونفوشيوسية، يُعتبر التناغم دعامةً أساسية ترتكز على التعددية والتنوع، إذ يسعى الإنسان إلى خلق توازن بين شتّى جوانب حياته دون السعي إلى التماثل. وعلى الضفة الأخرى، تعكس الفلسفة الطاوية، عبر تعاليم لاو تزو في “كتاب الطريق إلى الفضيلة”، فلسفة العيش بانسجام مع الطبيعة لتحقيق حالة من السكينة والتوازن الروحي، ذلك الهدوء الذي يملأ النفس ويعيدها إلى صفائها. وقد حرصت الكونفوشيوسية على تجسيد التناغم كقاعدة للعلاقات الإنسانية، مما أسهم في استقرار الأسرة وازدهار المجتمع، خصوصًا في ثقافات شرق آسيا التي لا تزال تُقدّر هذه القيم حتى اليوم.
وعلى الجانب الآخر من العالم، في الفلسفة اليونانية القديمة، ارتبط التناغم بفكرة التنظيم الكوني؛ كان رمزًا للوحدة بين الأضداد، ذلك التعايش السلمي الذي ينسجم فيه كل شيء ضمن منظومة كونية مترابطة. تحدث أرسطو عن التناغم كتكامل بين كل جوانب الحياة، حيث تتمازج الصحة، العائلة، والنمو الروحي في بوتقة واحدة متناغمة، تجعل الإنسان مكتفيًا بذاته.
أما في عوالم النفس البشرية، فقد وجد علماء النفس أن التناغم يلعب دورًا جوهريًا في بناء الشخصية السوية. يرى ماسلو أن تحقيق الذات هو الطريق نحو انسجام داخلي، وأن تقنين الشخصية يمنحها القدرة على العيش في اتزان نفسي. في حين يرى فرانكل أن الصفات الروحية كالحرية والمسؤولية هي لبنات أساسية في بناء شخصية متناغمة. ويؤكد كي جونغ أن تنمية الذات هي المحور الذي يدور حوله كيان الإنسان؛ فمن خلال التكامل بين جوانب الشخصية المختلفة، تتحقق لحظات من السلام العميق والتصالح مع الذات.
التناغم ليس حالة جامدة أو ثابتة؛ بل هو رحلة مستمرة نحو توازن ديناميكي، رحلة تتطلب تضافرًا مستمرًا بين العقل والقلب، بين الجسد والروح. ويشدد علماء النفس على أن تحقيق هذا التوازن يشمل الديناميكية العاطفية، الفكرية، والسلوكية، مما يخلق شخصًا مرنًا قادرًا على التأقلم مع تحديات الحياة. وهكذا يصبح التناغم بوابةً لبناء شخصية تفيض بالانسجام، حيث تتحد الدوافع والقيم لتحقيق توازن داخلي ينعكس على سلوك الفرد وعلاقاته.
من زاوية أخرى، فإن التناغم أشبه بمنارة تهدي العقل إلى تحديد أهدافه، وتطوير استراتيجيات بناءة لتحقيقها. إنه تلك الرحلة التي تبدأ بفكرة وتنتهي بحالة من الاتساق الداخلي والطمأنينة. وعلى النقيض، نجد التنافر الذي يمثل اضطرابًا داخليًا يعكّر صفو النفس ويؤدي إلى الفوضى. هذا التنافر، بتأثيره السلبي، يمكن أن يعرقل رحلة الإنسان نحو السلام الداخلي، فيحوله إلى تائهٍ في خضمِّ حياته، فاقدًا لروح الانسجام التي تضيء له طريق الحياة.
وختامًا، لا يمكننا الحديث عن التناغم دون الإشارة إلى ارتباطه الوثيق بالإنسانية. إن التناغم الحقيقي يتجسد في القدرة على إقامة علاقات متوازنة مع الآخرين، دون أن يتخلى الفرد عن جوهره الخاص. فكل إنسان هو جزء من كلٍّ أكبر، يعيش ضمن منظومة شاملة لا تحرمه من فرديته بل تمنحه القدرة على الإسهام في تحقيق قيم الخير والعدل والجمال. إنه شعور عميق يعكس اتحاد الذات مع العالم، فلا تضيع الفردية في خضم العلاقات، بل تزهر من خلالها.
التناغم، في جوهره، ليس مجرد حالة من التوازن الساكن، بل هو حراك دائم نحو الوحدة بين الجوانب المختلفة للحياة، ليمنح الإنسان السلام الداخلي والقدرة على مواجهة تحديات الوجود بصفاء وعزيمة.
المصادر:
Ball, G. O.(2013) The category of harmony in the analysis of the problem of Education and adult education,. – pp. 114-120.
Di Fabio, A.& Tsuda, A.(2018).The Psychology of Harmony and Harmonization: Advancing the Perspectives for the Psychology of Sustainability and Sustainable, Development. Sustainability .10, 4726. https://doi.org/10.3390/su10124726
Frankl, V. E. (1955). The doctor and the soul. An introduction to logo therapy. A. A. Knopf.
Kostakova I.V. (2018). PSYCHOLOGICAL CHARACTERISTICS OF HARMONIOUS PERSONALITY OF THE UNIVERSITY STUDENTS, Preschool Pedagogy and Applied Psychology Togliatti State University, Togliatti (Russia).
Motkov. (2020)The study of the harmony of lifestyle and its development / Education and development: modern. Theory and application. Material XVI int. Readings in memory L. Vygotsky. Moscow.
Sylvia, X. C. (2017). Connecting and separating mindsets: Culture as situated cognition. Journal of Personality and Social Psychology, 97, 217-235.