عند القدماء والمحدثين



منهجية السماع كأحد أصول الاستدلال النحوي

عند القدماء والمحدثين



مازن بندر محسن

قسم اللغة العربية

دكتوراه / لغة




2025





     يُعد السماع الأصل الأول من أصول اللغة والنحو ، وتأتي أهميته من أمور ثلاثة هي():

  1. الدليل الى القاعدة قبل استخراجها 
  2. الشاهد على صحة القاعدة بعد ذكرها 
  3. الطريق الاقوم الى تعرف طبيعة اللغة وبيان خصائصها .

    لقد كان السعي الى الاستدلال بكلام العرب هو الذي دعا الرواة الى الرحلة الى الصحراء ويقال ان الاستماع الى الاعراب الوافدين للحضر بدأ في وقت مبكر عن الرحلة الى الصحراء وكان على يد مجموعة من الرواة منهم عبد الله بن اسحق الحضرمي (117هـ) وعيسى بن عمر(149هـ) وابي عمرو بن العلاء(154هـ) وسائر متقدمي الرواة وبعدها بدأت الرحلة الى البادية للسماع بعد ان كان أبو اسحق (قد بعج النحو ومد القياس وشرح العلل) .

     والسماع واحداً من الأصول التي اعتمدها البصريون والكوفيون ، فلم يقتصر على فئة نحوية دون أخرى ، فالبصريون سمعوا اللغة وكذلك فعل الكوفيون ثم استنبطوا الاحكام ووضعوا القواعد ، وكان لأهل البصرة السبق في ذلك بحكم أسبقية ظهور مذهبهم النحوي ، وقد تشددوا بالاخذ  فاشترطوا في المسموع أن يكون كثيراً حتى يستحق الوصف بالاطراد في الاستعمال ، أما القليل فلم يبنوا عليه القاعدة ، وتشددوا كذلك  في طريقة الأخذ بالسماع ، فحددوا حدوداً زمانيةً ومكانيةً ، أما الكوفيون فبنوا على القليل بعد ظهورهم على الساحة النحوية ، وتوسعوا في السماع وقدموه على ما سواه واخذوا عمن لا يُرتضى عند البصريين ، وجعلوا القاعدة تبعا للسماع وان قلَّ لأن اللغة كانت ضالتهم يحرصون على كل ما ورد منها ويعتزون به ويبحثون له القواعد لان منهجهم يقوم على تغيير القياس لأجل النصوص() .

     وكان النحاة يحفلون بالشعر الى درجة كادت تلهيهم عن غيره من الكلام ، وما يفسر ذلك هو أن النحاة تصدوا الى مهمة انشاء النحو خدمة للقران الكريم كما هو متعارف عليه فلولا عنايتهم بالمحافظة على النص القراني من ان تتسرب اليه ظاهرة اللحن ما فكروا في حصر أخذ اللغة من زمان بعينه ومكان بعينه في انشاء النحو ، والقران نص أنزل باللغة الأدبية وليس بلغة التخاطب العادية ، فكان على من يود المحافظة على القران ان يدرس اللغة التي انزل بها ولو انهم استخرجوا النحو من لغة التخاطب لما وصلوا الى ما يريدون ، فلغة التخاطب كانت اكثر اختلافا وتشعبا على السنة القبائل من اللغة الأدبية فلم يكن من الممكن ان ينشا لها نحو واحد كما الذي نشأ للغة الأدبية .

     وقد انتقى النحاة قبائل بعينها في وسط الجزيرة دون غيرها من قبائل العرب ، فقد بنى النحاة هذا الانتقاء على معيار (الفصاحة) الذي حدده النحاة واللغويون وظلت الفصاحة من مصطلحاتهم حتى نهاية عصر الاستشهاد الذي قد يصل الى نهاية القرن الثاني الهجري ، وبعدها تداول البلاغيون هذا المصطلح ليشمل مدلوله (المتكلم)( كما كان يشمل القبائل الفصيحة) والكلام (كما كان يشمل اللغة الأدبية على ألسنة هذه القبائل).

        وفي الجانب الزماني فقد استنبط الشعراء قواعدهم من شعر أمرئ القيس ومن بعده الى إبراهيم بن هرمة في نهاية القرن الثاني الهجري واللغة في هذه الفترة تطورت في مفرداتها وتراكيبها واساليبها ودلالاتها ويشهد على ذلك أن رواة اللغة والناظرين في الفاظها وطرقها أشاروا الى الغريب والمهجور الذي بطل استعماله الى الدخيل الذي طرأ استعماله وبين ما بطُل وما طرأ لا بد ان يكون هناك تطور.  

      واما المنهج الحديث في دراسة اللغة يربط الدراسة باللغة الحية المنطوقة ويعتبر اللغة العربية صورة من صور الاستعمال واسلوبا من الأساليب التي ينبغي ان يعنى به النقاد لا طلاب اللغة () ، لذا نجد أن مجمع اللغة لعربية في القاهرة قد وضع أُسسا سار عليها في وضع قرارِتِه سواء أكانت صرفيَّة أم نحوية()  وهذه الأُسس ومنها: (الاعتداد بالقليل من الَمسُموع(  ويكون بذلك قد سار على خطى الكوفيين في هذا الجانب لأن الهدف الأَول الذي أُقيمت من أجلِه الَمجاِمع هو الحفاظ على سلامة اللُّغة وثِّمة هدف آخر لا يقل أهمية عن هذا الهدف اتَّخذهُ َمجَمع اللُّغة الَعَربِيَّة في الَقاهَرة هو جعلِه حفيا بَكلام الُمحَدِثين، سِميعا لما يشيع منهُ ويُحتاج إليه، وقد أصدر في هذا الشأن مجموعة من القرارات منها:(تَتُّبع الألَفاظ والأسالِيب الشاِئَعة، إن في الصحف والمجّلات أو المسرح والإَذاعة أو الَّرساِئل والكتب واِتّخاذ القرارات فيها تُنشُر على الجمهوِر ِطبًقا لقانون المجمع َفَتسدُّ حاجة وتحِّقق ِقسطا من التَّهذيب و الإصلاح).

     ومن قراراته أيضا قبول السماع من المحَدِثين ، ِبشرط أن تُدَرس كل َكلِمة على حَدِتها قبل إقَرِارها وكان قراره الأَول هو قبول السَماع من المحَدِثين داعيا إلى تَتَبُّع الألفاظ والأساليب الَشاِئَعة في الصحف وفي المسرح وفي الَّرساِئل وفي الكتب، ومع هذا فهو لا يقبلها إلا بعد أن يصقلها الاستعمال ، وتستسيغها الآذان ويبين وجه الحاجة إليها 

   ويُؤَخذ على َمجَمع اللُّغة الَعَربِيَّة في القاهرة أنَّه لم يلتزم الاعتداد بالقليل من المسموع بل تجاوز في هذا القرار الحد الزمني لقبول السماع وفتح بابهُ حتى أنِّه قد َسِمع من لغويين متأخرين كابن مالك وعبد السلام بن مشيش ، ومصداق ذلك ما جاء في قرار َمجَمع اللُّغة العربِيَّة في القاهرة باستعمال َكلِمة ( الواسطة) ونص القرار ما يأتي: ترى الَّلجَنة أنه في ضوء قرارات المجمع الساِبقة في اسم الآلة وفي الموّلد في قبول السماع من المحَدِثين يمكن تخريج استعمال الواسطة في قول الُكتّاب (بواسطة كذا) على أّنه بمعنى الوسيلة ، ويستأنس لذلك باستعمال (ابن مالك) في قوله:(التابع المقصود بالحكم بلا واسطة هو المسمى َبدلا) ، وباستعمال عبد السلام بن مشيش في قوله:(لولا الواسطة لذهب الموسوط).

  وتشدد الدكتور عبد العال مكرم تجاه الاستشهاد بالقران الكريم وقراءاته وألزم بعدم اللجوء الى الشواهد الأخرى الا بعد الرجوع للقران الكريم وحجته في ذلك بانه المصدر الاوثق في مجال الاستشهاد ولارتباط لغتنا به ربطاً محمكاً يكتب لها الخلود ويرى في الكوفيين (من خلال توسع استشهادهم بالقران الكريم على حساب البصريين ) بأنهم كانوا أوسع أفقاً وأرحب صدراً من البصريين في مجال الاستشهاد بالقرآن الكريم ، وكذا فعل مع الحديث الشريف حيث رأى فيه بأنه أولى في مجال الاحتجاج في اللغة من شعر الشعراء والاقيسة والتعليلات()

   ومما ذكر نلحظ أن الكثير من المحدثين أخذ على عاتقه تأييد المحاولات التي رأوا أن من شأنها أن تصبَّ في خدمة اللغة العربية وعلى هذا الأساس أخذوا في التوسع في مصادر السماع لتحقيق الغرض المذكور .


ذ ضظغ

شارك هذا الموضوع: