من الألواح الطينية إلى الوسائط الذكية:
كيف نؤسس تعليماً ناجحاً؟
 
د. عباس عبيد
جامعة كربلاء – كلية التربية للعلوم الإنسانية
قسم اللغة العربية
 
يبدو أننا الآن شهود لحظة تاريخية فريدة. قلت ذلك في نفسي، وأنا أرقب أولادي ينجزون واجباتهم الدراسية، ويرسلونها إلى أساتذتهم، بواسطة أجهزة ذكية بحجم الكف. أتذكر السنوات الطويلة التي قضيتها في الدراسة، والتي كانت ـ باستثناء مرحلة الدراسات العليا- تستند لوسائل تقليدية. أذهب إلى ما هو أبعد منذ ذلك التاريخ بكثير، فأتخيل ملامح ذلك التلميذ الذي طلب من والدته أن تعد له وجبة طعام كي يتناولها في المدرسة، وترجاها أن تسرع، ليصل إلى مدرسته في الوقت المناسب. ولكن، ما الجديد في الأمر، ما دام كثير من الطلبة يفعلون ذلك في كل عصر؟
 الحق، أنني لا أتحدث هنا عن أي تلميذ، وإنما عن التلميذ الأول، الذي عاش قبل الألف الثالث للميلاد، هنا؛ فوق أديم بلاد ما بين النهرين التي تأسست فيها قواعد الكتابة، ولقد قدر لحكايته المكتوبة فوق رقيم طيني أن تصلنا سالمة، وأن يُعثر عليها وتحظى بالترجمة والدراسة، بجهود علماء كبار أدركوا سرّ عظمة الحضارة السومرية. ولعل في مقدمة من يمكن الاستشهاد بهم هنا هو عالم السومريات الأكثر شهرة (صموئيل نوح كريمر).
ينقل لنا كريمر في كتابه – صغير الحجم كبير الفائدة – (هنا بدأ التاريخ. طبعة
بغداد، بترجمة ناجية المراني)، لا بقية تفاصيل اليوم الدراسي في الحكاية الطريفة المتقدمة، وكيف كانت زيارة الأستاذ إلى بيت التلميذ للالتقاء بوالديه فحسب، بل معلومات غنية أيضاً عن طبيعة نظام التعليم السومري، حيث نشأت أولى المدارس، قبل خمسة آلاف عام، ولعل من لطيف ما أورده أيضأً أن مدير المدرسة كان يلقب ب(أبي المدرسة)، والمدرس ب(الأخ الكبير)، أما التلميذ فكان يسمى (ابن المدرسة). وتبقى احالات هذه الدوال السيمائية المتمثلة في التسمية بحاجة لمعرفة السياق الذي ولدت فيه، لنفهم إن كانت مصممة في الأساس لجعل فضاء التعلم سهلاً ومسؤولاً في آن واحد، يذَّكّر بالألفة، وبالأجواء الحميمية التي يشيعها جو الأسرة الواحدة، أم هي منبثقة من روح الثقافة المجتمعية ذات الطابع الأبوي  (patriarchal)، وإن كان الاحتمال الثاني لا يلغي الأول بالضرورة.

ومهما يكن من أمر فإن ما يستدعي الانتباه حقاً، يتمثل أيضاً فيما ينقله كريمر عن رغبة الأسلاف بتطوير أساليب التعلم، يقول: (إن أجدادنا كانوا يفكرون بطرق التدريس منذ الألف الثالث قبل الميلاد….وإن عدد الذين مارسوا فن الكتابة آنذاك يزيد على الآلاف. نفسه :8ـ9).
 وعلى الرغم من أن النهر قد جرت فيه مياه كثيرة بعد ذلك العهد، لكننا كنا بحاجة إلى أن ندشن الألفية الجديدة لنشهد تطوراً غير مسبوق في الوسائط التعليمية، تلك التي كانت في البدء لوحاً طينياً (رقيماً)، يقوم المدرس (الأخ الكبير) بمهمة اعداده (ينظر:نفسه:11ـ12) ثم أخذت و لقرون طويلة شكل الكتاب الورقي، إلى أن صارت اليوم متمثلة بوسائط ذكية تفوق غيرها في سرعة ومرونة الاستخدام، بما توفره من إمكانات خزن واسترجاع لمعلومات واسعة بسرعة فائقة، مع ما يتصل بها من صور ورسوم و جداول إحصائية، وملفات صوتية وفيديوهات، فضلاً عن إمكانية إنشاء صفوف تعليمية تامة بصيغة إلكترونية، وكل ذلك بتكلفة مادية يسيرة. وإن كانت بعض تلك الوسائط الحديثة، مثل الأجهزة اللوحية الذكية لا تزال في دائرة التسمية ذاتها  (tablets).
ومهما يكن من أمر فإن ما يتوجب علينا فهمه أن التطور الهائل في الوسائط الحديثة للتعلم لا يمثل المسألة كلها، إذ يبقى المنهج نفسه، و يبقى الأستاذ المدرس، ويبقى التلامذة أيضاً، ولعل من أبجديات علم التربية، أن التعليم ليس سوى نتاج تفاعل سليم بين تلك العناصر التي يفترض أن يكون كل منها مؤهلاً بجدارة. إن وسائط التعلم الذكية الحديثة لا تنفي الحكمة القديمة: (من جدّ وجد)، فأسلافنا الذين لم تتح لهم الفرصة لامتلاك ما يتوفر لنا اليوم من امكانات، جعلوا من الطين كتاباً سطروا فيه بأقلام من قصب علوم الرياضيات، والفلك، والآداب، و المعارف، والفنون، ونجحوا بكل جدارة في بناء حضارة استثنائية. أما سر ذلك النجاح الكبير فهو راجع لامتلاكهم ما هو أكثر أهمية من الوسائط والتقنيات، وما يسبقها في سلّم الأولويات، وأقصد به الحرص، والرغبة الجدية بالتعلم، والشغف بالمعرفة، أساتذة و تلامذة. من هنا فقط يبدأ الطريق المعبد لأي مشروع يراد له النجاح. ومن الطبيعي أن يكون وراء ذلك كله مؤسسات حقيقية، تعتمد الكفاءة والخبرة، وتتميز بالمهارة الإدارية، وبالتفكير الاستراتيجي الذي يحسب حساب ما يمكن أن تأتي به حوادث الأيام. ولعمري إنها تأتي – بين آونة وأخرى – بما لم يكن في حسبان أحد!

شارك هذا الموضوع: