موضوع علم الجغرافية وطبيعته
طالبة الدكتوراه: دنيا فاضل طالب
جامعة كربلاء- كلية التربية للعلوم الإنسانية- قسم الجغرافية التطبيقية
الجغرافية علم قديم، عرفه الإنسان منذ نشأته الأولى على سطح الأرض، حيث كان من الضروري له أن يتعرف على المكان الذي نشأ فيه، والذي لا بد له من معرفة خصائصه من معالم السطح والمناخ والنبات والحيوان الذي يعيش فيه وموارد المياه التي تتوفر به وذلك حتى يستطيع أن يؤمن حياته ضد الأخطار، كما تُعد الجغرافية همزة الوصل بين الأرض والإنسان والعلاقة القائمة بينهما سلباً وإيجاباً، إذ تعد الجغرافية إحدى العلوم الاجتماعية التي تربط بين الإنسان وبيئته منذ أقدم العصور وحتى وقتنا الحاضر، بالإضافة إلى ذلك تعد الجغرافية من العلوم التكاملية التي تربط بين العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية.
أما المعنى الحرفي لكلمة الجغرافية، أو المصدر اللغوي الذي اشتقّت منه هذه الكلمة فيرجع إلى لفظتين في اللغة اليونانية القديمة وهما Ge بمعنى الأرض والتي أصبحت في اللغة اللاتينية Geo وأما المقطع الثاني فهو Graphia بمعنى كتابة أو رسم أو صورة، وبهذا يصبح معنى اللفظتين معاً صورة الأرض Geographia، وقد عرفها العرب بهذا الاسم بعد اتصالهم بالفكر والمعرفة اليونانية واللاتينية فكانوا يستخدمون مصطلح جغرافية أو علم تقويم البلدان في بعض الأحيان، وذلك بعد أن تُرجمت للعربية الكتب الجغرافية اليونانية في القرون الأولى بعد ظهور الإسلام، ولا يقف مفهوم الجغرافية عند الوصف فقط، ولكنه يمتد إلى التحليل والربط والتفسير أو التعليل، بمعنى أن الجغرافية لا تسأل فقط عن (أين؟) توجد الظاهرة محل الدراسة ولكنه من الضروري أن تسأل أيضاً (لماذا؟) وأن نبحث عن العلاقات والأسباب فمثلاً لا نكتفي عند دراسة توزيع الجبال بمجرد معرفة أماكن وجودها ولكن لماذا توجد من حيث هي ولا توجد في مناطق أخرى، وذلك يرتبط بتطور تاريخ الأرض من الناحية الجيولوجية.
أما من حيث المضمون فيهتم علم الجغرافية بفحص وربط وتنظيم وتقنين ظاهرات الأرض، فهو يدرس شكل وحجم الكرة الأرضية، وتحركات السطح، وتوزيع اليابس والماء، والتركيب الصخري للقشرة الأرضية، والعمليات التي تؤثر في أشكال سطح الأرض والأحوال الجوية وما ينتج عنها من اختلاف في أنماط المناخ، ويوجه اهتمامه كذلك لدراسة اختلاف الحياة النباتية والحيوانية وتوزيعاتها، إلى جانب دراسة السلالات البشرية التي عمرت سطح الأرض وتوزيع السكان والأنشطة المختلفة لهم، ذلك بالإضافة إلى المحلات العمرانية التي يقطنها، وباختصار تنحصر الجغرافية في دراستها في دراسة مكان وسبب كيفية الأشياء، وهذه المظاهر الطبيعية والبشرية يدرسها الجغرافي دراسة أصولية وإقليمية بمعنى أن الجغرافي يدرس الموضوع أو الإقليم (يدرس العلاقات الموجودة بين الظاهرات والتفاعل بينها داخل الإقليم الواحد).
وللجغرافية ميزتان تنفرد بهما عن بقية العلوم، الأولى: إنها ذات نظرة شمولية، ينفرد بها الجغرافي في رؤية الحقائق والعلاقات، مجتمعة في إطار المكان، ولكن الشمولية لا تعني تجميعاً لعناصر متفرقة، إنما هي خلية تنبض بقوانينها الخاصة، التي تشكل طبيعتها وطبيعة مكوناتها الأساسية، فالجغرافية تكاد تنفرد بين العلوم الأخرى، من حيث دراستها لخليط من الظواهر المتنافرة، التي تقوم بتصفيتها، والتوليف بينها، لتستطيع أن تقدم لنا صورة واضحة متكاملة عنها، فالجغرافية ذات فلسفة متميزة، تقف على النقيض من العلوم المتخصصة، بطريقة النظر إلى الأشياء مجتمعة، وتعد بمثابة حركة تصحيحية للعلوم المتخصصة، وتلتقي على صعيد واحد مع الفلسفة الجشتالتية الداعية إلى إذابة الحواجز الظاهرية وإزالتها قدر المستطاع بين العلوم المختلفة، بحيث تحل العلوم المتداخلة المندمجة والمتكاملة محل العلوم المتعددة والمنفصلة، فالجغرافي يتخصص في عدم التخصص، وقد وُصف كذلك لأنه هو المتخصص الذي يضرب بحرية في العلوم كلها، يربط الأرض بالناس، والحاضر بالماضي، والمادي باللامادي، والعضوي بغير العضوي، ويكاد يتعامل مع كل ما تحت الشمس وفوق الأرض، من خلال وجهة نظر موحدة وأصيلة.
أما الميزة الثانية للجغرافية، فإنها ذات نظرة تكاملية، تنظر إلى العلاقة بين الإنسان والبيئة نظرة تكاملية، وبتعبير آخر، ترى أن المكونات الحية وغير الحية تعمل مجتمعة كوحدة متكاملة، وفقاً لقوانين طبيعية وأحيائية، على اعتبار أن الاثنين طرفان في ذلك الكل المتكامل، الذي يؤلف وحدة تخفي تحتها كثيراً من العناصر المتباينة المتشابكة، والواقع، أنه في الخروج إلى الطبيعة، يمكن أن نجد الدليل على سلامة وجهة النظر الجغرافية، حيث نشهد الوحدة والانسجام بين الطبيعة والإنسان، والترابط بين الظاهرات الطبيعية والبشرية، وندرك أن اتساق الأشياء وعلاقاتها ببعضها هي حقائق كالأشياء نفسها، والجغرافي –وحده- هو الذي يقوم بدراسة هذا الاتساق وتلك العلاقات بين الظاهرات.
والنظرة البيئية التكاملية في الجغرافية، تتميز مما سواها في العلوم الأخرى، إذ إنها تشكل جزءاً هاماً من منهجها، كما أنها تحفظ للجغرافية وحدتها، ذلك أن إغفال دراسة العلاقة بين عناصر الجغرافية المختلفة إنما يؤدي إلى أن تصبح الجغرافية أشتاتاً غير مترابطة من العلوم الطبيعية والبشرية، كما تُعرِّض الجغرافي إلى التعدي على هذه العلوم الأصولية، فالترابط الوظيفي والتفاعل البيئي بين الظاهرات المتنافرة يضمن وحدة العلم الداخلية.
ولا شك في أن الدراسة الإقليمية تستطيع أن تخلص الجغرافية من ورطة الازدواجية، ذلك أن الإقليم هو بمثابة الوعاء الذي يشمل مختلف الظواهر، وفيه يمكن تحليل التداخل بين المظاهر الطبيعية والبشرية، وعلى هذا النحو يصبح الإقليم بؤرة اهتمام الجغرافي وميدانه التخصصي.