نظرات جديدة في المعنى بين التضمين والنيابة في حروف الجر
  • م. د. قصي ثعبان يوسف الأسدي .
  • التخصص : اللغة العربية / لغة .
اللغة العربية لغـة خصها الله تعالى بـدقـائق ، وحبـاها بلطـائف دون غيـرهـا من اللغات ، فأمّتها تقصد المعنى الواسع بأقل العبارات وأخصر الطرق، فمن دقائقها التضمين ، وقد رصده المفسِّرون والأصوليون والبلاغيون والنحويون وغيرهم بالبحث والتفصيل ، وسبروا أغواره حتى اختلفوا فيه ، ولكلٍّ أدلته المبسوطة في مظانها ، وما يعنينا هو مراقبة التضمين النحوي وأثره في المعنى .
           ذهب ابن هشام الأنصاري إلى تعريف التضمين ، بقوله : ” قد يُشرِبون لفظا معنى لفـظ فيـعطونه حكمه ويسـمى ذلـك تضـمينا وفائدتـه : أن تؤدِّي كلمة مؤدَّى كلمتين ”  ويأتي الزركشي ( ت 794 هـ )  فيحاكي صاحب المغني فيما ذهب إليه في هذا المقام بقوله :  ” التضمين وهو إعطاء الشيء معنى الشيء ، وتارة يـكون في الأسمـاء ، وفي الأفعال ، وفي الحروف ، فأما في الأسماء ، فهو أن تُضمِّن  اسما معنى اسم ، لإفادة الاسمين معا  … وأما الأفعال فإن تُضمِّن فعلا معنى فعل آخر ، ويكون فيه معنى الفعلين معا.
فتبيَّن عبر ما تقدم ذكره آنفا من  آراء القدماء أن التضمين يقع في أقسام الكلمة على السواء ، إذ المقصود به المعنيان معا للمضمِّن والمضمَّن ، وما عنوه بالتضمين في الحرف هو النيابة ، وفي ذلك تعسف وتكلف شديدان ، وأكبر الظن أن  التضمين يشمل الاسم والفعل والحرف ، ولا نيابة . 
والزمخشري في توجيهه لقوله تعالى : (( وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ))  عـــلى الـــتضمين ، إذ يـــضمن الفـــعل ( لـــتكبروا ) مـــعنى الحـــــمد بـقـولـه : ” وإنَّــــما عــــدِّي فـــعل التـــكبير بـــحرف الاســـتعلاء لـــكونه مـــضمَّناً مـــعنى الــحمد ، كأنَّه قيل : ولتكبروا الله حامدين على ماهداكم “. 
 
أما النيابة فتتعلق في اصطلاح النحويين بالحروف ( حروف الجر ) ، فإحلال حرف مكان حرف آخر في التركيب هو ما خصَّوه بالنيابة  
فنيابة الحروف بعضها عن بعض يحمل على التوسع في لغة العرب ، يقول ابن السراج  في هذا المعنى : ” واعلم أن العرب تتسع فيها فتقيم بعضها مقام بعض إذا تقاربت المعاني ، فمن ذلك : البـاء ، تـقول : فـلان بمـكة وفي مـكة ، وإنـما جـازا معاً لأنـك إذا قلـت : فلان بموضع كذا وكذا فقد خـبرت عـن اتصـاله والتـصاقه بـذلك الموضـع ، وإذا قلت : في موضع كذا فقد خبرت (( بفي )) عن احتوائه إياه وإحاطته به ، فإذا تقارب الحرفان فإن هذا التقارب ، يصلح لمعاقبة ، وإذا تباين معناهما ، لم يجز ”  .
واللافت للنظر أن النحويين قد جعلوا لكل حرف معنى أصليًّا ، وما خرج عنه إلى معان أخرى فهو من باب الاتساع  ، فالمـعاني المتسعة للحرف تُلحـظ مـن خـلال التركيـب ،  والأصل لا يستشف من التركيب مع هذه المعاني الأخرى إن لم يكن للتبادر؟ مما يجعل كونه في الإفراد ملحوظاً بنوع من البيان ، مع ظهوره في التركيب بشكل واضح . 
ووجدت أن مــــا ذهبـــــوا إليــــه تعسّف إذ وصفوا الحرف بالضعف ؛ فإذما وافقتهم على ما وصفوا الحـرف بـه مـن ضعـف ، فـــقـد جـعلوه سبـباً لمنـعه من التصـرَّف ، تصـرَّف الفـعل ، فأحسبه تسويقاً قد فرضته الصناعة النحوية لتخريج ما تبنَّوه ، إذ الــــفعل قـــد يوصف بالضـعف أيضاً ، فيـقوى بالحـرف ، نحـو : ( مررتُ بزيدٍ ) ، فالفـعل ( مـرَّ ) فعـل لازم ، تعدَّى إلى مفعوله بحرف الجرِّ ( الباء ) ، فقوي به على مباشرة مفعوله ، لضعفه بنفسه ، فالحرف هنا أقوى من الفعل ؛ لأنه أوصل الفعل إلى ما بعده ، وما يستعان به أقوى من المستعين ، فوصف الحرف بالضعف إذاً هو وصف واقع كذلك على الفعل ، وجعل قوة التصرف للفعل بالتضمين وسحب الحرف  إلى النيابة ونفي التضمين عنه بما للفعل بعدم إرادة المعنيين معاً للحرفين تعسف واضح ، وأحسب أن وصف كلٍّ من الفعل والحرف بالضعف أمر غير سديد ؛ إذ دلالة الحرف على معنى في غيره ما هو إلاَّ لوظيفته التركيبية بالوضع ، وكذا الفعل اللازم حين تعديته بحرف الجر لا يعني ضعفه ، بل إن وظيفته الأصلية هي اللزوم ، واستعماله في تركيب آخر مع احتياجه إلى رابط يباشر به مفعوله ما هو ليس سوى استعماله في أسلوب زائد على أصله ، مما استدعى لوازمَ تركيبية جديدة لأسلوب جديد يعبَّر عنه بالاتساع ، وكثيراً ما تتسع العرب .
وقد يدلّ الحرف على معنيين معاً ، فحروف المضارعة ( أحرف أنيت ) ، تدلّ على معنى المضارع وكذلك على معنى الفاعل  ، مما يوضح أن الحرف بالقوة والفعل له إمكانية الدلالة على معنيين معاً في نفسه ، فإذا تقرَّر هذا ، كان دلالته على معنيين بطريق التضمين أولى .
فيترجّح لدي أن للحرف معنى في نفسه مع كونه في التركيب أدلُّ على ذلك المعنى , إذ إن لكل حرف معنى  أصليًّا يتّسع فيه إلى باقي المعاني المستفادة من التركيب , ومن ثمّ كان الحرف قابلاً للتضمين لا النيابة ؛  لأن النيابة لا فائدة فيها ؛ إذ لا تضيف معنى , ففي قوله تعالى : وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ  , جعل ( في ) بمعنى ( على ) , هو هجر لمعنى ( في ) وإحلال معنى الاستعلاء من دون الظرفية , مما يضيق المعنى ويبعد المراد والمقصود من استشعار معنى الاستعلاء مع معنى الظرفية الدال عليه السياق . 
فالتضمين لبيان المعنى المقصود من دون تكلّف , ولكنّه يحتاج إلى لطافة التأويل , وحسن الدراية , والذوق السليم , لإصابة المعنى المراد(, فالسياق هو الفيصل إن كان  التضمين في الحرف أو في الفعل . 
ويترجَّح لدي أن ( في ) يتوسَّع فيها بمعنى ( على ) ، ولكن على نحو يكون المــقصود بــــه الـــــمعنيين مــــعاً ، فــــفي قـــوله تــــعالى :   وَلَأُصَــــلِّبَنَّكُمْ فِــــي جُذُوعِ النَّخْلِ ،  يحمل المعنى على أن المصلوب يحلُّ جزءٌ منه في أجزاء الجذع ؛ لعدم استوائه ، فهو مقعر السطح ومحدودبه ، وهو أشدُّ في العذاب ، في حين يكون الجزء الآخر من المــــصلوب مـــــــستعلياً فــــوق الجذع ، فإرادة المعنيين معاً يتحقَّق بتضمين الحرف ( في )  معنى الحرف ( على ) لا النيابة ؛ لأن النيابة لا تحقِّق القصد بإرادة المعنيين معاً .
وقد تدلُّ الباء على معنى ( مِن ) ، كقوله تعالى : عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا ، أي : يشرب منها ، وأحسب أن المعنيين معاً مقصودان في الآية الكريمة ، معنى الحرف الظاهر والمضَمَّن ، والمعنى يشربون بها ومنها ، فقدمت ( عيناً ) للتعـظيم والاهتمام .
         فالتضمين لبيان المعنى المقصود من دون تكلّف , ولكنّه يحتاج إلى لطافة التأويل , وحسن الدراية , والذوق السليم , لإصابة المعنى المراد , فالسياق هو الفيصل إن كان  التضمين في الحرف أو في الفعل . 



شارك هذا الموضوع: