تعتبر الذات بمثابة القلب النابض للشخصية، فهي الجوهر الذي يحدد هويتنا وكيفية تفاعلنا مع العالم من حولنا. ومفهوم الذات، ذلك البُعد المحوري في شخصيتنا الإنسانية، يلعب دورًا حاسمًا في توجيه سلوكياتنا وتصرفاتنا المختلفة. فكيف تتشكل هذه الذات؟ وكيف ندرك أنفسنا؟ يرى علماء النفس أن الطفل لا يولد واعيًا بذاته بشكل تلقائي، بل يكتسب هذا الوعي تدريجيًا من خلال تفاعله مع الآخرين، وإدراكه لاستجاباتهم وتقييماتهم وانطباعاتهم عنه. فكأننا نرى أنفسنا من خلال أعين الآخرين.
وقد تناول العالم “كولي” (Cooley) هذا الموضوع في كتابه “الطبيعة البشرية والنظام الاجتماعي”، مؤكدًا أن الذات تنمو وتتطور في سياق العلاقات الاجتماعية. وقدّم “كولي” مفهومًا أساسيًا في نظريته الاجتماعية، وهو “المرآة العاكسة للذات”. فالمجتمع، في رأيه، بمثابة المرآة التي تعكس ردود أفعال الآخرين تجاهنا. ومن خلال ملاحظة هذه الردود، يتشكل لدينا مفهومنا عن ذواتنا. فتفاعلنا مع الجماعة هو بمثابة اللبنة الأساسية في بناء مفهومنا الذاتي، سواء كان إيجابيًا أو سلبيًا، وهذا يعتمد بشكل كبير على طريقة معاملة الآخرين لنا.
كما أولى “روزنبرج” اهتمامًا كبيرًا بدور الأسرة في تشكيل تقدير الفرد لذاته، وعمل على توضيح العلاقة بين تقدير الذات الذي يتكون في كنف الأسرة وبين أنماط السلوك الاجتماعي اللاحقة للفرد، فقد أكدت الدراسات أن الأفراد الذين يشعرون بتقبل الوالدين لهم يكون لديهم شعور أفضل تجاه أنفسهم مقارنة بأولئك الذين يتعرضون باستمرار للنقد والتجريح والسخرية من قبل الوالدين. فدفء الوالدين وتقبلهما للأبناء يعملان على تنمية تقدير مرتفع للذات.
وفي هذا السياق، قام “كوبر سميث” بتحديد أنماط أسرية مميزة بين الأطفال ذوي التقدير العالي للذات وأولئك ذوي التقدير المنخفض، مؤكدًا على وجود ثلاثة جوانب أساسية في الرعاية الوالدية مرتبطة بنمو مستويات أعلى من تقدير الذات، وهي:
تقبل الأطفال من جانب الآباء: أن يشعر الطفل بأنه محبوب ومقبول من والديه كما هو، دون شروط.
تدعيم سلوك الأطفال الإيجابي من جانب الآباء: أن يقوم الوالدان بتعزيز السلوكيات الإيجابية التي يقوم بها الطفل، مما يشجعه على تكرارها.
احترام مبادرة الأطفال وحريتهم في التعبير من جانب الآباء: أن يمنح الوالدان الطفل مساحة للتعبير عن آرائه وأفكاره بحرية، وأن يحترما مبادراته.
كما أشار “أدلر” (Adler) إلى أن الأساليب السوية في تعامل الآباء مع أبنائهم تشجع على نمو ذات متفردة بطريقة أكثر نضجًا وفاعلية وإيجابية، أما الأساليب غير السوية فتؤدي إلى استجابات مرضية مثل العُصاب أما “جورج ميد” (George Mead)، فقد وضع نظرية حول تكوين الذات، موضحًا أن الذات في نموها وتطورها تمر بثلاث مراحل رئيسة هي:
الأدوار الخاصة: في هذه المرحلة، يلاحظ الطفل أدوار الآخرين في معاملتهم له، فيمتصها ويقوم بتمثيلها والتمرن عليها في داخله. هذا يمثل بداية تحوله إلى كائن اجتماعي، فهو عندما يجرب أدوار الآخرين إنما يقوم بذلك على أنها أدوار منفصلة، كل دور على حدة في الموقف الواحد.
الأدوار العامة: هنا يتمكن الطفل تدريجيًا من لعب أدوار الآخرين جميعها في الموقف الواحد، وتنظيم هذه الأدوار في شكل عام متماسك ومتكامل. فالأدوار العامة هي مفهوم يشتقه الفرد من خبرته ويمثل وجهة نظر الآخرين واتجاهاتهم وميولهم.
الذات المفردة والذات الاجتماعية: هاتان العمليتان هما وجهان لعملة واحدة، تتفاعلان معًا وتؤثران في بعضهما البعض. ويكون السلوك نتيجة لهذا التفاعل. فالطفل أثناء اكتسابه للغة يتشرب معها معايير مجتمعه وقيمه، فتتشكل لديه أدوار جديدة تتدخل في سلوكه وتسهم في توجيهه بالتدريج. ويتعلم كيف يفكر في نفسه كفرد له وجهات نظر خاصة وأهداف ودوافع تتفق مع رؤيته لنفسه ورؤية الآخرين له.
أما “روجرز” (Rogers) فقد ركز على أهمية العلاقات التفاعلية المبكرة بين الأطفال ووالديهم في تكوين مفهوم الذات. فالتقدير الإيجابي من الوالدين يلبي حاجة أساسية للطفل، بالإضافة إلى الحاجة للتقييم. فإشباع الحاجة للقبول يؤدي إلى توسع خبرات الطفل مع مفهومه لذاته، ويتحقق هذا بعيدًا عن الضغوط والسيطرة والرفض والإهمال. فالعلاقة بين قبول الطفل لذاته وتقييمه لها وقبول والديه وتقييمهم له هي علاقة قوية. فالطفل خلال مراحل نموه يكون شديد التأثر بتوقعات الآخرين واتجاهاتهم نحوه، ويمنح صفات معينة لنفسه تُنسب إليه من المقربين. وتبدأ مشاكل سوء التكيف من عدم اتساق مفهوم الذات مع الخبرات.