تُعد وثبة كانون 1948 واحدة من أبرز الانتفاضات الشعبية في تاريخ العراق الحديث، حيث شهدت بغداد ومدن عراقية أخرى مظاهرات واسعة ضد معاهدة بورتسموث التي وقعها العراق مع بريطانيا. جاءت هذه الانتفاضة نتيجة الرفض الشعبي للهيمنة البريطانية، وتصاعد الوعي الوطني بين مختلف فئات المجتمع العراقي، مما أدى إلى إلغاء المعاهدة وإحداث تحولات مهمة في السياسة العراقية.
أسباب وثبة كانون 1948
معاهدة بورتسموث (15 كانون الثاني 1948)
جاءت هذه المعاهدة كبديل عن معاهدة 1930 التي منحت بريطانيا نفوذًا عسكريًا وسياسيًا كبيرًا في العراق.
نصت على استمرار الوجود العسكري البريطاني في قواعد جوية مثل الحبانية والشعيبة، وربط الجيش العراقي بالسياسات البريطانية.
رفض العراقيون هذه المعاهدة لأنها كرست التبعية للنفوذ البريطاني، مما أدى إلى موجة غضب شعبي.
تصاعد المد الوطني والقومي
في تلك الفترة، كانت الحركة الوطنية في العراق، بقيادة الأحزاب والقوى المعارضة، تنمو بشكل كبير، خاصة الحزب الشيوعي العراقي، وحزب الاستقلال، والحزب الوطني الديمقراطي.
لعبت الطلبة والنقابات العمالية دورًا أساسيًا في تنظيم الاحتجاجات ضد الاحتلال البريطاني والهيمنة الأجنبية.
تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية
كانت البلاد تعاني من الفقر والبطالة، بينما كانت ثروات العراق، خصوصًا النفط، تخضع للسيطرة البريطانية عبر شركات النفط الأجنبية.
زاد الإحباط الشعبي بسبب فساد الحكومة العراقية وعجزها عن تحقيق الاستقلال الحقيقي.
أحداث الوثبة
انطلاق المظاهرات (16-20 كانون الثاني 1948)
بدأت الاحتجاجات في بغداد بمشاركة الطلبة والعمال، وسرعان ما انتشرت إلى المدن الأخرى مثل البصرة والموصل وكربلاء والنجف.
رفع المتظاهرون شعارات تطالب بإسقاط الحكومة وإلغاء المعاهدة وطرد النفوذ البريطاني.
القمع الحكومي وسقوط الشهداء
واجهت الحكومة، بقيادة صالح جبر، المظاهرات بالقوة، حيث أطلقت الشرطة الرصاص على المحتجين، مما أدى إلى سقوط عشرات القتلى والجرحى، وأصبح يوم 27 كانون الثاني 1948 أحد أكثر الأيام دموية في الانتفاضة.
حاولت السلطات فرض الأحكام العرفية، لكن ذلك لم يوقف المد الجماهيري.
استقالة الحكومة وإلغاء المعاهدة (27 كانون الثاني 1948)
تحت الضغط الشعبي، اضطر صالح جبر إلى تقديم استقالته، وأعلن الوصي على العرش عبد الإله إلغاء المعاهدة، مما اعتُبر انتصارًا كبيرًا للحركة الوطنية العراقية.
نتائج وثبة كانون 1948
تعزيز الروح الوطنية
أكدت الوثبة على قوة الإرادة الشعبية في مواجهة النفوذ الأجنبي، وعززت من دور الحركات الوطنية في العراق.
تراجع الهيمنة البريطانية
على الرغم من استمرار الوجود البريطاني في العراق، إلا أن الوثبة شكلت بداية النهاية للتدخل المباشر في الشؤون الداخلية، وفتحت الباب لمطالبات أوسع بالاستقلال الكامل.
تمهيد الطريق لثورة 1958
كانت الوثبة مقدمة لانتفاضات لاحقة، حيث استمرت التحركات الوطنية حتى ثورة 14 تموز 1958 التي أنهت الحكم الملكي وأعلنت الجمهورية العراقية.
الخاتمة
مثّلت وثبة كانون 1948 لحظة مفصلية في تاريخ العراق الحديث، حيث جسدت رفض الشعب للوصاية الأجنبية وقدرته على تغيير الواقع السياسي. ورغم القمع العنيف، استطاعت الانتفاضة أن تحقق إسقاط الحكومة وإلغاء المعاهدة، مما جعلها مثالًا بارزًا لنضال العراقيين من أجل الاستقلال والسيادة الوطنية.