التطوع لغة أصله من الفعل الثلاثي طوع، والطوع نقيض الكُره، ويُقال: طاعَ له إذا انقاد له، والتطوع ما تبرّعتَ به مما لا يلزمكَ فريضته (الفراهيدي، العين مادة: طوع).
ويبدو أن للكلمة معنى أعمق من الانقياد، فيظهر منها معنى السهولة والسلاسة أيضًا، فيقال: فرسٌ طوع العنان، إذا كان سلسًا، وذُكِرَ في معنى قوله تعالى: (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ) فطوّعت هنا أخذت معنى رخّصت وسهّلت.
وممّا يُعرّف به التطوع اصطلاحًا: هو التبرّع بشيء غير مُفترَضٍ وإنما يؤدّى بدافع الحُب أو غيره فيكون قد أُتيَ به نافلة لا فريضة كالإسهام في عمل بدني أو فكري أو مالي.
وللعمل التطوعي ضوابط في المنظور الإسلامي مثل بقية الأعمال الأخرى، تضبطه لكي تكون مقبولة عند الله تعالى ومن تلك الضوابط أن تكون خالصة لوجهه الكريم، حتى لا يتبعها أذى ولا منّاً ممّن مؤدّيها تجاه الآخرين، حفاظًا على كرامة الإنسان وعزّته التي هي أسمى من كل عنوان وأشرف من كل موضوع، فالمتطوّع لخدمة اجتماعية أو فردية لا بد من أن يُخلِص عمله لله تعالى طلبًا لرضاه.
ومن الضوابط الأخرى أن يُتقَن ذلك العمل، وتكون تأديته بكل أمانة وصدق، مع التمكّن المعرفي للقيام بالخدمة التطوعية، فالعمل المبني على معرفة قاصرة قد يؤدي إلى مفاسد وإن كانت النية صالحة، وقد يتطلب العمل التطوعي إعدادًا بدنيًا ومهاريًا فلا بد من التمكن من ذلك.
وقدّم لنا القرآن الكريم أجمل الصور المتعلقة بالعمل التطوعي الذي تنطبق عليه الضوابط السالفة، فذكر القرآن الكريم صورًا من حياة الذين تطوّعوا لأعمال الخير خدمة للناس وطلبًا لرضا الباري عز وجل، ومن ذلك ما تطوع به ذو القرنين، قال تعالى: (قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97)، فلم يقبل ذو القرنين أجرًا على تلك الخدمة، وقد أدّاها على أحسن وجه حين عمل لهم سدّا مُتقَن العمل، وهو من ضوابط الخدمة التي ذكرناها سلفًا.
ومن تلك الصور أيضًا، ما قام به النبي موسى عليه السلام من السقي للامرأتين تطوّعًا منه، وقد أدى عمله على أتم صورة وشهدت إحداهما بذلك، فقد قالت لأبيها شعيب: (يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ)، والأمانة وبذل الجهد أمران مهمان وضابطتان ضروريتان في تحقيق العمل المُتقَن.
وزيادة على ذلك لم يكتفِ النبي موسى بالسقي ثماني حِجج لشعيب وهو المُتّفق عليه، بل زاد على ذلك سنتين من العمل التطوعي وهو أمر عظيم، فإنّ أحدًا يُتِم عمله المكلّف به على أحسن وجه نقدّم له شكرًا وخالص الاحترام، فكيف بمَن يؤديه بتمامه ويزيد عليه فإن ذلك هو الفضل الكبير.
وتطوّع العبد الصالح في إقامة الجدار الذي كاد أن ينقضّ حفاظًا على كنز الغلامين الذي كان تحت ذلك الجدار، ولم يأخذ لقاء جهده أجرًا كما أراد النبي موسى، وهو قوله تعالى: (فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا).
وشجّعت آيات كثيرة على العمل التطوعي الذي هو من القيم الإنسانية المهمة، ويأتي هذا الحض بصيغة التعاون والعطاء والإحسان إلى الآخرين من دون مقابل، ومن الآيات التي تتناول العمل التطوعي ومفهومه:
آية التعاون: قال الله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾، هذه الآية تشجع على التعاون في الخير، وهو من أشكال العمل التطوعي، لكي يسعى الناس إلى خدمة المجتمع وتحقيق التكافل بين أفراده.
آية الإنفاق والإحسان: قال الله تعالى:
﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾، يُفسر “القرض الحسن” هنا بأنه العطاء والبذل للآخرين من دون انتظار مردود، سواء كان بالمال أو الجهد أو الوقت، وهو مما يندرج ضمن العمل التطوعي في سبيل الله.
آية الإحسان إلى الآخرين: قال الله تعالى:
﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾، هنا يظهر حث على الإحسان للغير، الذي يتضمن العطاء وتقديم المساعدة للآخرين، وهذا أحد أساسات العمل التطوعي.
آية التكافل ومساعدة المحتاجين: قال الله تعالى:
﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا ﴾، هذه الآية تبين فضيلة إطعام المحتاجين، سواء كانوا مساكين أو أيتامًا أو أسرى، وهو عمل خالص لله يدخل في نطاق العمل التطوعي.
إجمالًا القرآن الكريم يحث على العمل التطوعي عبر التشجيع على البر والإحسان إلى الآخرين والتعاون ومساعدة المحتاجين، مما يعزز من الترابط الاجتماعي ويرفع من مستوى الأخلاق بين الأفراد.
وفي الحقيقة أن أصدقَ تطوعٍ هو ما ذكره القرآن الكريم بقوله تعال: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)، ذلكم الصنف من المؤمنين الذين عُرفوا بسمو النفس، وذروة التفاني، فهم يتطوعون ليس لأنهم في رخاء أو فائض اقتصادي، وإنما يتطوعون بالرغم من حاجتهم إلى ما يقدمونه للآخرين مؤثرين على أنفسهم، غير طالبين لجزاء ولا كلمة شكر من أحد، وإنما يصنعون المعروف لوجهه تعالى حبًّا له، لنيل رضاه والفوز عنده وهو الغاية الأسمى التي ينشدها المؤمنون والأتقياء وهو مصداق قوله تعالى: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا) على خلاف ما قيل في بواعث العمل التطوعي ومنها إرضاء وتطمين بعض الغرائز النفسية أو الرغبة في العمل الجماعي لما فيه من متعة، أو سعيًا وراء كسب شعبيةٍ واحترام وتأييد الآخرين، أو بدافع الغيرة أو خوفًا من العقاب المجتمعي.