و أفول…(١) توهّج
هناك في نيسابور ، عاصمة الدولة السلجوقية ، في عام ( ٤٦٣هـ) التقى بالصدفة المحضة ثلاث أصدقاء غيروا مجرى وأحداث تاريخهم المعاصر آنذاك ، بل لعل هذا التأثير امتد الى يومنا هذا فشواهده مازالت حاضرة لحد الان في بغداد مثلا ، واقصد المدرسة النظامية التي أُسِّسَت للرد على المذهب الباطني آنذاك.
فارسيٌّ وتركيٌّ وثالثٌ من أصول عربية، أنهم الفرسان الثلاثة الأصدقاء الأكثر جدلا في التاريخ الأسلامي :- الحسن الصباح – الأسماعيلى الطامح والطامع
عمر الخيام ، السني الحيادي ، محب العلم
و – نظام الملك : التركي الطامع .
أتفقوا في صباهم ، أنه إذا أبتسمت الأقدار لأحدهم، فأنه سيمد يده لمساعدة صديقيه الآخرين.
كان الاتفاق واجب التنفيذ، والذي اقترحة هو الارهابي الأول في الإسلام : الحسن الصباح.
برأيي الشخصي المتواضع ، فإن الحسن الصباح هو الأنسان الأكثر تأثيراً في كل التاريخ الإسلامي، ولا أستثني حقبة من هذا التاريخ وأعني ايضا فترة الهجرة والخلافة الراشدة ، فلم يؤثر أحد إطلاقاً بمجرى الأحداث بقدر تأثير هذا الرجل .
لقد كان شديد الطموح ، وكان يسحق كل عقبة في طريقه ولا يدع فرصة تفوته، وحتى عندما كان صغيراً ، كان يجمع المعلومات بشكل سري وخطير عن كل اقران صباه، حتى أنه يعرف أسرارهم عن طريق المراقبة والاستنطاق اللاشعوري.
وذات يوم، ضاقوا به ذرعاً لانه يعرف كل عيوبهم المخفية ، فحاولوا ضربه لكنه هرب بطريقة عجيبة ، واختفى في مكان أعده بنفسه لهذا الغرض ووقت الضرورة.
في المقابل، كان عمر الخيام، الزاهد في الدينا وملذاتها المادية ، الشغوف بالعلم من الفلك والرياضيات والطب والموسيقى ، والذي كان متردداً بعض الشيء في موافقته على ذلك العهد الذي أبرموه ، لأنه كان يرى في الحسن الصباح شخصاً انتهازيا، وهجومياً اذا خالفتة بالمذهب ، فكان يرمي بالكفر كل من لا يجيب على أسئلته السوفسطائية في الاقناع بأتباع مذهبه الشيعي الاسماعيلي
C
حتى أنه أحتج ذات يوم على عمر بأسمه قائلاً: كيف يكون أسمك عمر وانت بين أناس لا يستسيغون هذا الاسم ، أو كيف ارتضيت البقاء عاليه !
لقد كان عمر متردداً كثير في علاقته بإبن الصبّاح، الا انه فارقه ولم يأبه لكلامه ظاناً بأنه لن يلقاه في مقبل الايام.
وبالفعل فإن الحظ قد أبتسم لصديقهم الثالث ، نظام الملك ، الذي أصبح وزيراً لبلاط ملك شاه السلجوقي .
فقَدِم كل من حسن وعمر إليه وهنا حانت لحظة الوفاء بالعهد القديم.
كان نظام الملك شديد الكرم عليهما ، فعيّن الصباح على أخطر أجهزة الحكومة ، إذ إنه يقابل اليوم في عالمنا منصب رئيس المخابرات المالية للبلاط الملكي فأصبح أخطر انسان على رأس أخطر جهاز في الدولة ، و كان حسن لايُخفي مذهبه كبقية الباطنيين حتى أن ملك شاه احتج على ترشيح نظام الملك له لرئاسة هذا الجهاز الحساس وهو باطني ، الا ان نظام الملك كان يعرف كيف يقنع الملك بكل مايريده.
وعرض نظام الملك وزارة المعارف (كما نصطلح الآن عليها ) على عمر الخيام ، لكن الاخير رفض بشكل قاطع معللاً رفضه بأنه انسان حرّ ويكره قيود الوظيفة، فلم يجبره نظام الملك على شيء في بادئ الأمر لكنه عندما علم بصدق نبوآته في التنجيم وقراءة الطلله ، استدعاه وأجبره على التنجيم في كل مرة بل كان اكثر من ذلك يجبره بأن يقول طوالع أحداث ومعارك لملك شاه وفقاً لما يمليه عليه نظام الملك ومصلحته الشخصية ، وهذا ما زاد من الكره بينهما .
بينما كان الاثنين في هذا الشد والجذب ، كان الحسن بن الصباح يطير الى القمة ويحقق كل أحلامه، طبعاً هو ليس بالانسان العادي في ذلك وغيره ، فقد كان متفاني في عمله وفي كل مرة يبتكر افكارا تدهش الملك ووزيره ، فقد سيطر بشكل عجيب على كل درهم أو دينار يدور في بيت المال . وكانت الخصوم له تزداد غيرة وحنقاً ففكر جميعهم آنذاك بمكيدة لاينجو منها، و بالفعل كاد يتعرض للأعدام ، ثم خففت العقوبة الى السجن فقط، لكنه لم يمتثل الى ذلك فقرر الهروب والتخفي
لقد تحولت مشاعر الصداقة وأحاسيس الود الى الكراهية والبغضاء والمطاردة.
كان الصباح قد بايع نزاراً بعد المستنصر بالله الفاطمي فقد سمعها منه شخصيا أثناء حياته ، لكن وزير الدولة آنذاك بدرالدين الجمالي لم يرق له نزار ، فطرد حسن وعائلته نفياً بمركب الى المغرب.
لكن في الطريق حدثت عاصفة قوية كادت تغرقهم جميعا ، وعندما بدأت تنفرج فَطِن الصباح لذلك فوقف في بداية المركب لاعباً دور الساحر الذي يتحدث مع العاصفة ويرغمها على الهدوء، وبالفعل هدأت ! وأنبهر كل من كان على متن المركب وبايعوه على السمع والطاعة بعدما رأواه. استغل ابن الصبّاح هذه الحادثة ايّما استغلال فأمر ربانهم بالانحراف بالمركب الى الاسكندرية واستمر بترحاله حتى انتهى به الأمر عند نظم الملك أيام صعوده.
نعم ، هرب الحسن هروبه الثاني ولكن هذه المرة من نظام الملك ، وأصبح عمر قيد الإقامة الجبرية لدى الاخير ايضا، فأفِلَت تلك الصحبة أيّما أُفول .
إضطر حسن لصعود قلعة الموت هو وأتباعه والاستعداد هناك لكافة الاحتمالات.
في بادئ الامر كانت القلعة جرداء ومهجورة ، فأضطروا لأكل الحشائش، ومن هذا جاءت تسميتهم بالحشاشين ، لكن اغلب الظن أن الاسم جاء من حسن ، حسنيين ، ثم بمرور الوقت تبدلت السين شيناً.
أسس هناك أول فرقة اغتيالات في العالم ، شباب يمتثلون بشكل أعمى لكل أوامره وكإن بهمُ الجِّن !
حاصر نظام الملك القلعة شهوراً ، لكن ذكاء الصباح . كان فوق المتوقع .. استغل حسن الشبه الشديد بين أحد مراسلي ملك بني سلجوق الذي كان حاملا رسالة شخصية لابن الصباح وأحد فدائييه فقتل الرسول ولبس الفدائي ملابسه وزوده بخنجر مسموم ذو نصل شديد المضيّ ، وما ان وصل المراسل المزيف الملك سلمه رد الحسن بيساره فإستنكر الملك ذلك لكنه عاجله بالخنجر بيمينه فأرداه قتيلا بالتوّ واللحظة.
أضطر نظام الملك الى الانسحاب بالجيش مباشرة بعد حصار طويل للقلعة ، إلا أنّ خنجراً اخر كان بانتظاره فمات به اثناء عودته.
فانتصر ابن الصباح وأصبحت عمليات الاغتيال ديدنه حتى خضعت له كل القلاع المجاورة
2
كان عمر يسمع بكل أخبار حسن وكان يتمنى له الغلبة لِما قاساه من نظام الملك.
ثم جاءت اللحظة، مات الحسن الصباح بشكل سري ، لكنه لم يسمح لمذهبه (الحشاشون ) أن ينتهى بموته ، فقد أخبر أقرب المقربين منه بأنه سوف يذهب ليقابل صاحب الأمر والزمان الامام المهدي ، وأنه عائد لامحال ، لكنه لا يعلم كم ستطول المقابلة ، فرمى بنفسه من شاهق خلف القلعة في نهر جارٍ كفيل بأن ينقل الجثة بعيدا عن اهل القلعة وهكذا فإن اتباعه ينتظرونه الى يومنا هذا جيل بعد جيل.
اما الخيام فقد تحرر اخيرا وعاد إلى نيسابور ليموت فيها عن عمر ناهز ال ٨٣ ليدفن في مكان قد تنبأ يوما به في إحدى ابيات رباعياته الرائعة.