من متطلبات عمل المؤرخ
د. حيدر صبري شاكر الخيقاني
كلية التربية للعلوم الانسانية- قسم التاريخ
على الرغم من التعاريف العديدة التي عرف بها علم التاريخ الا ان جميعها يتفق على انه” العلم الذي يهتم بدراسة الماضي”، والماضي هنا لا يقتصر على ماضي الانسان فحسب بل يمتد الى ابعد من ذلك ليشمل ماضي الكون بما فيه ماضي الارض وكل ما يوجد عليها. وقد اهتم الانسان بالتدوين بعد اكتشاف الكتابة منذ اكثر من ثلاثة الاف عام قبل الميلاد، وتوسع ذلك الاهتمام تدريجيا بعد مراحل تطور الحضارة الانسانية الذي ما زال مستمرا حتى يومنا هذا. ومما لا شك فيه ان حاجة الانسان لتدوين احداث الماضي هي حاجة لا غنى عنها لان ذلك من القضايا المهمة التي تجعله يطلع على احداث الماضي وينتفع من تجارب الامم التي سبقته. كما انه سيجعل الاجيال القادمة تطلع على مدى مساهمة اسلافها في التراث الانساني الذي يعد بأجمعه ثروة للإنسانية.
وشهد القرن التاسع عشر اهتماما علميا واضحا من قبل عدد غير قليل من الباحثين الاوربيين للكشف عن بقايا الماضي وتسليط الضوء على احداثه، كما توجه العديد من المغامرين الاوربيين للتنقيب في مناطق اثرية عدة. وادى ذلك الى الكشف عن الكثير من الاثار، فضلا عن التوصل الى حل رموز الكتابة الهيروغليفية عام 1822 على يد العالم الفرنسي جان شامبليون Jean Champollion (1720-1832)، وهذا ساعد على ترجمة معظم الكتابات الهيروغليفية التي تم العثور عليها مما ادى الى معرفة العديد من احداث التاريخ القديم التي كان يكتنفها الغموض. كما شهدت تلك الفترة تطورا نوعيا في كتابة التاريخ والتعامل مع النصوص التاريخية على يد المؤرخ الالماني ليوبولد فون رانكهLeopold von Ranke (1795-1886) الذي اخضع دراسة التاريخ للمنهج العلمي، بهدف التوصل الى معلومات اكثر دقة، وهذا ادى الى كشف الكثير من الحقائق عن احداث الماضي. ولكن يجب علينا ان نتسأل هل يستطيع اي شخص كتابة التاريخ وتدوين احداثه؟
قد يعتقد البعض ان عملية تدوين التاريخ امرا سهلا يمكن الى اي شخص القيام به، الا ان هذا الاعتقاد بعيد كل البعد عن الصواب. لان التاريخ علم له مبادئه واصوله لذلك فان كل شخص يحاول تدوين احداثه يحتاج الى مهارات وامكانيات تجعله قادرا على ذلك، وقد اكد العلامة ابن خلدون(1332-1406) في مقدمته على اهمية علم التاريخ بقوله: (( وفي باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لهذا أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يعدّ في علومها وخليق)).وعلى هذا الاساس نجد ان هناك مجموعة من الشروط يجب تتوفر في المؤرخ ليكون قادرا على اداء عمله بشكل رصين ولعل من اهمها: ان يكون محايدا في ابداء اراءه، اي ان لا يستند في اصدار احكامه على اية مشاعر او ميول شخصية، بعيدا عن معتقده الديني وانتمائه القومي والسياسي، وان يتعامل مع الاحداث وفقا للحقائق التي توصل اليها، ويذكر المؤرخ محمد بن عبد الرحمن السخاوي(1428-1497) في كتابه الموسوم “الاعلان بالتوبيخ لمن ذم اهل التاريخ” اهمية ان يكون المؤرخ محايدا وعادلا ولديه معرفة جيدة بعمله ويقول في ذلك: (( فلا بد ان يكون المؤرخ عالما، عادلا، عارفا بحال من يترجمهم، ليس بينه وبينهم من الصداقة ما قد يحمله على التعصب له ولا من العداوة ما قد يحمله على الغض منه. وربما كان الباعث له على الغض من قوله مخالفة العقيدة، واعتقاد أنهم على ضلال فيقع فيهم، او يقصر في الثناء لذلك)). الا اننا نجد بعض المؤرخين يفسرون بعض الاحداث التاريخية وفقا لوجهة نظرهم، فعلى سبيل المثال نجد ان بعض المؤرخين البريطانيين يطلق على الثورة الهندية ضد الحكم البريطاني عام 1857 تسمية العصيان الهندي Indian Rebellion وهناك منهم من يطلق عليها اسم تمرد السيبوي mutiny of sepoys، بينما نجد ان المؤرخين الهنود يطلقون عليها اسم حرب الاستقلال الهندية الاولى India’s First war for Independence، ومما لا شك فيه ان التسمية الاخيرة هي الاكثر دقة، لان البريطانيين كانوا يحتلون الهند آنذاك. لذلك على المؤرخ ان لا يكتفي بنقل المعلومات وترجمتها دون فهمها فهما دقيقا.
كما يفترض ان تكون لدى المؤرخ ثقافة عامة في العلوم الاخرى ولعلم التاريخ علاقة مع الكثير من العلوم، فالحدث التاريخي ليس حدثا مجردا بل هو حدث يخضع للتأثير والتأثر بما حوله، كونه حصل في زمان معين وفي مكان معين وقد يكون لذلك المكان والزمان اثرا في تفسير بعض الاحداث التاريخية. وخير مثال على ذلك هزيمة الاسطول الاسباني عام 1588 امام الاسطول الانكليزي في معركة الارمادا، اذ كان للأحوال الجوية واتجاه الرياح اثرا في حسم نتيجة المعركة لصالح الانكليز على الرغم من الامكانيات الكبيرة للأسطول الاسباني التي تفوق امكانيات الاسطول الانكليزي في ذلك الوقت.
كما يجب على المؤرخ ان يمتلك قدرة على تحليل الحدث التاريخي ودراسة الاسباب التي ادت الى حدوثه بهدف التوصل الى النتائج المطلوبة، فعلى سبيل المثال ان دراسة الازمة الاقتصادية المصرية(1876-1882) تتطلب دراسة السياسة البريطانية والفرنسية تجاه مصر منذ عام 1863، كما تتطلب دراسة تأثير الحرب الاهلية الامريكية(1861-1865) على الاقتصاد المصري لان الحرب المذكورة كان لها اثارا كبيرة على اقتصاد مصر.
كما على المؤرخ ان يفهم الاوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي كانت سائدة في مجتمع ما خلال الفترة التي يكتب عنها، فعلى سبيل المثال عندما يتطرق الى تدوين احداث الثورة الفرنسية(1789) عليه ان يمتلك رؤية واضحة للأوضاع التي كان عليها المجتمع الفرنسي في اواخر القرن الثامن عشر سواء من الناحية السياسية والاقتصادية والاجتماعية كون ذلك يعطيه رؤية واضحة عن ارهاصات الثورة المذكورة واحداثها.
وعلى المؤرخ ان لا يلجأ الى المقارنة والقياس بين مجتمعه وزمن تدوينه للأحداث من جهة وبين المجتمع والفترة الزمنية التي يتناول دراستها من جهة اخرى، لان لكل مجتمع عاداته وتقاليده واعرافه التي يتميز بها عن المجتمعات الاخرى، وقد تختلف تلك العادات والتقاليد والاعراف في المجتمع نفسه بين فترة واخرى، فعلى سبيل المثال عندما يريد ان يدرس دور المرأة البريطانية في المجتمع خلال القرن التاسع عشر يجب عليه ان يفهم طبيعة وعادات وتقاليد المجتمع البريطاني واهم التغيرات التي طرأت عليه خلال تلك الفترة، والدور الذي كانت تمارسه المرأة في المجتمع آنذاك، ولا يجوز ان يخضع مفهوم ذلك الدور للقياس والمقارنة بالنسبة الى دورها في المجتمع في الوقت الحاضر بل يجب ان يفهم دورها في كل فترة وفقا لطبيعة الحياة العامة للفترة الزمنية والمكان الذي كانت فيه والمؤثرات التي كانت تخضع لها وتقويمه على هذا الاساس.
كما يتطلب من المؤرخ ان يمتلك اسلوب واضح ورشيق، ومعرفة لغوية جيدة من اجل استخدام الكلمات المناسبة لوصف حالة او شخص او حدث معين بشكل دقيق، على ان لا يستخدم التعبيرات المجازية المبالغ فيها في كتاباته، لان ذلك لا يصلح في تدوين التاريخ، بل عليه ذكر الاحداث على حقيقتها وبشكل واضح، بعيدا عن المبالغة، فعلى سبيل المثال عندما يوصف خصال شخص معين عليه ان لا يلجأ الى المبالغة في ذلك بل عليه ان يوصف تلك الخصال بشكل واضح بعيدا عن التهويل.
ومن السمات التي يجب ان يتسم بها المؤرخ هي تقبل الآراء المخالفة الى اراءه، والرد عليها بشكل علمي، في حالة تفنيدها او توضيح عدم دقتها، دون اللجوء الى النقد اللاذع او التهكم من اصحابها، وخير ما نستشهد به هنا ما ذكره الفيلسوف ابن رشد(1126-1198) في كتابه “فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال” حول تقبل الرأي الاخر والتعامل مع اصحاب الآراء المخالفة اذ يقول: (( ثم ننظر في الذي قالوه من ذلك وما أثبتوه في كتبهم، فما كان منها موافقا للحق قبلناه منهم وسررنا به وشكرناهم عليه، وما كان منها غير موافق للحق نبهنا عليه وحذرنا منه وعذرناهم)). ولعل العبارة الاخيرة من تلك المقولة تبين لنا بوضوح اهمية ما ذهبنا اليه من اهمية تعامل المؤرخ مع اصحاب الآراء المخالفة.
كما على المؤرخ ان لا يعتمد في تفسير احداث التاريخ على اتجاه واحد، كأن يكون على سبيل المثال مادي او مثالي او قومي او ديني، لان كل حدث تاريخي له اسبابه التي ادت الى وقوعه وهذا لا ينفي وجود بعض الاحداث التي حصلت بسبب توفر ظروف متشابهة، وعلى سبيل المثال نجد ان الاوضاع الاقتصادية المتدهورة، والنظام السياسي الجائر، وسوء الاوضاع العامة من اسباب اندلاع الثورات، الا ان تلك الاسباب لا تؤدي الى حدوث ثورة بشكل جازم اذا ما توفرت في مجتمع معين فلكل مجتمع خصوصيته ولكل فترة زمنية خصوصيتها ايضا. ولا يمكن القول ان جميع الثورات تحدث بشكل قاطع لأسباب اقتصادية او سياسية او دينية فقط بل ان اسباب اندلاع الثورات تختلف من مكان الى اخر.
وعلى هذه الاسس يجب على المؤرخ ان يمتلك معرفة ومهارات كافية تؤهله للخوض في عملية التدوين لان من المهام الرئيسة التي يسعى المؤرخ الى تحقيقها هي البحث عن الحقائق وتدوينها، وهذا يجعله امام مسؤولية كبرى في الحكم على امم وشعوب وحكومات واشخاص. وهذا الامر لا يمكن ان يتحقق مالم يكن من يقوم به مؤهلا لذلك.