الجغرافية التاريخية تعريفها ومجالها ومناهجها
يتفق الجغرافيون جميعاً تقريباً على شئ محدد عندما يحاولون تعريف علمهم، هذا الشئ هو أن الجغرافيا علم دراسة المكان والأرض، ولكنهم قد يختلفون في تحديد صلة هذا العلم بغيره من العلوم الأخرى، ومع ذلك لا يختلفون في أهمية العنصر البشرى في المكان، حيث أن الجغرافيا وهى علم المكان بدون الإنسان الذي يعمر هذا المكان لا تعتبر جغرافيا، لأنه إذا ما أهملنا العنصر البشرى لدخلت دراستها فوراً في نطاق العلوم الأخرى، مثل تلك العلوم التى تتناول الظاهرات الطبيعية المختلفة من أرض وصخور ومعادن وعلاف جوى ونبات وحيوان، وليس هذا مجال الجغرافي، بينما لو أهملنا عنصر الأرض، ودرسنا الإنسان وحده مجرداً عن بيئته لم نعد جغرافيين، فهذا مجال العلوم الإنسانية أو الفلسفية، مثل علم السياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع إلى أخره.
إذن فالجغرافيا هى العلم الذي يدرس الأرض بوصفها وطناً للإنسان، وهذا التعريف لا يضع الجغرافيا بين العلوم الطبيعية الصرفة، كما أنه لا يضعها تماماً بين العلوم الاجتماعية، وربما كان هذا في صالحها ولا يعتبر قصور يؤخذ عليها، وذلك إذا علمنا أن المعرفة في حد ذاتها لا تضع فواصل بين ما هو علم طبيعي أو ما هو علم اجتماعي. فكل من الجانبين متصل بالآخر متأثر به، لأن النشاط البشرى وهو هدف الجغرافيا لا يمكن دراسته منفصلاً عن البيئة الطبيعية المحيطة بالإنسان.
ومن ثم فإن الجغرافيا هي العلم الذي يضم بين ثناياه الظاهرات المختلفة، سواء كانت ظاهرات طبيعية أو بشرية في المكان من وجهة نظر إنسانية، وهذا هو الوضع الطبيعي والمنطقي للأشياء، ولكن غاية الأمر أن العلوم المختلفة جردت كل ظاهرة وفصلتها على حدة لتسهيل دراستها، وجاءت الجغرافيا لتنظر إلي هذه العلوم مرة أخرى بوصفها كلاً متكاملاً، وتعيدها إلى وضعها الحقيقي، كوحدة طبيعية بشرية حيث تعتبر الجسر بين العلوم الطبيعية والإنسانية، وذلك من خلال إعادة أوجه النشاط البشرى إلى أصولها البيئية الطبيعية المختلفة، وكذلك يحاول علم الجغرافيا معرفة أثر الإنسان في الظاهرات الطبيعية وتغييرها وتعديلها، لأنها العلم الذي يحلل الظاهرات الطبيعية أو يبحث عن علاقتها بالنشاط البشرى عامة، ومن ثم كانت الجغرافيا علماً تحليلياً كما أنها علم تركيبي.
مما تقدم نري أن مجال دراسة الجغرافيا هو الأرض أو المظاهر الطبيعية Natural Landscapes و بفضل جهود الإنسان يمكن أن يتحول إلى مظاهر بشرية أيضاً Cultural Landscapes، وما المظاهر البشرية الحالية لأي مكان إلا نتاجاً للجهود البشرية التى بذلت خلال العصور التاريخية الماضية. وتعتبر دراسة المكان في الوقت الحالي ذات مفهوم طبيعي بشرى، ولا يمكن أن تكتمل دون الإلمام بما حدث لهذا المكان خلال الزمن أي خلال التاريخ.
وعند النظر مثلاً إلى أي منطقة من الأرض تحولت بفعل النشاط البشرى من مظهر طبيعي إلى مظهر بشرى، فإن هذا المظهر البشرى هو في الحقيقة تراكم جهود بشرية سابقة خلال فترات تاريخية سابقة. وليس هذا فحسب بل أن المظهر الطبيعي نفسه لأي مكان علي الأرض قد مر خلال الزمن بتغيرات عدة حتى استقر علي الوضع الحالي، ولا يمكن فهم الصورة الحالية لهذا المظهر دون الرجوع إلى الوراء ودراسة تطوره، الذي يسمى تطوراً جيولوجياً.
والأمثلة على ذلك كثيرة تنتشر في كل أنحاء العالم وفي جميع العصور الماضية، منها مثلاً بقايا المنازل والقرى والمدن القديمة الغارقة في مياه بحيرة المنزلة، مما يدل على أن هذه البحيرة قد هبطت عن مستواها السابق في العصر العربي ومنها مدينة تنيس القديمة، ومثال أخر متمثل في قاعدة أحد الأعمدة الأثرية في جامع النبي دانيال بالإسكندرية، والمياه التى تغمر الأدوار السفلى من المقابر الرومانية Catacombs في تل الشقافة بالإسكندرية أيضاً، دليل على هبوط مستوى الأرض أو طغيان الماء في عصر تالي إنشاء هذه الآثار.
يسير التغير في المظهر الطبيعي باستمرار وبدون توقف لأن الظروف الطبيعية التي تتأثر بها لا تتوقف، ولكنها لا تبدون للشخص العادي ولا يستطيع أن يسجله لأن عمر الإنسان أقصر من أن يظهر فيها هذا التغير، و يظل هذا التغير يحدث و يتراكم ببطء حتى يبدو للعيان بعد عدة أجيال، وقد يحدث هذا التغير فجائياً بحيث يرى الإنسان آثاره بين يوم وليلة، مثل الآثار التى تحدثها الزلازل والبراكين. ولا يتمثل التغير في المظهر الطبيعي ما يحدث في ظاهرات سطح الأرض فقط، بل إن الظروف المناخية تتغير أو يحدث بها ذبذبات، وتبعاً لتغير هذه الظروف يحدث تبدل كذلك في المظهر النباتي علي سطح الأرض.
بينما لا يحتاج التغير في المظهر الثقافي أو الحضارة البشرية لدليل علي وجوده، فإقامة الخزانات والسدود على مجاري الأنهار، والتي تتحكم في مياه مجارى الأنهار حتى يستطيع الإنسان الاستفادة منها في عمليات الزراعة وباقي أنشطة حياته، ومن المظاهر الحضارية الأخرى إنشاء القرى والمدن أو تدهورها، ونشأة الوحدات السياسية المختلفة وتطورها، واختلاف أشكال وتغيرات حدود السياسية بين هذه الوحدات، وهي كلها أمور يسجلها التاريخ ونشهدها بأعيننا في أرجاء الكرة الأرضية.
ومن الأمور البديهية في الجغرافيا البشرية، أن العناصر السكانية لأي إقليم في الوقت الحاضر ما هي إلا نتيجة تطور بشرى حدث في عصور زمنية طويل سابقة، تمثل في هجرات عديدة حمل فيها الهاجرين الجدد سلوكهم، ومنهم من اندمج مع العناصر صاحبة المكان أي الأقدم عهداً به، أو ضغطت عليها وزحزحتها من مواطنها أو اضطرتها للانزواء في الأقاليم المنعزلة، أو قاموا بإبادتها إبادة تامة. وما هو معروف عن التوزيع الحالي للشعوب والأقوام إلا نتيجة هذه العملية التطورية الطويلة، ولا يزال يخضع توزيع الشعوب والقوميات لعملية هجرة مستمرة للإنسان.
ومن الأمثلة الدالة علي أن عملية توزيع الشعوب والقوميات في بعض أجزاء العالم مازالت مستمرة ذلك الذي حدث لخريطة شرق أوربا قبل الحرب العالمية الثانية وبعدها، سوف نجد أن المظهر الثقافي تغير تماماً عما كان عليه عندما عرفت ببروسيا الشرقية، أو ممر دانزج أو سيليزيا العليا، أو ما بين نهرى الألب والأودر، وسادتها الثقافة الصقلبية وتغيرت أسماء مدنها وقراها إلي أسماء صقلبية بدلاً من أسمائها الألمانية السابقة، ونقل سكانها الألمان ناحية الغرب إلى ما وراء نهر الأودر، أي حدث تغير في تركيبها السكاني نفسه. وفى وطننا العربي مثال آخر لأثر الهجرة في تغيير مظهر قطر عربي وهى فلسطين، التى تهودت أجزاء هامة منها بفعل الاستقرار اليهودي المنظم على مقياس كبير منذ عام 1920، إلي جانب تغير وضعها الدولي بعد عام 1948 واعتبارها دولة يهودية في وسط الكيان العربي، وما قامت به من توسعات في عام 1967، ثم محاولاتها الحالية تهويد جزء أخر من أرض الضفة الغربية الفلسطينية.
وإذا ما نظرنا إلى العالم الجديد نجد أن معظم سكانه الآن نتيجة حركة الكشف الجغرافي الكبيرة التى بدأت في القرن الخامس عشر الميلادي، وما تبعها من الهجرات الأوربية العديدة المتتابعة والتي خرجت في أول الأمر من جنوب أوروبا، وتجارة الرقيق التى حملت أعداداً كبيرة من زنوج إفريقيا عبر المحيط الأطلنطي ليستقروا في تلك البلاد الجديدة عليهم، بل أن توزيع العناصر البشرية في دولة جنوب إفريقية في الوقت الحاضر نتيجة هذه الحركة نفسها. ومما تقدم نري أنه لا يوجد شئ ثابت في الطبيعة، لأن الشئ الثابت الوحيد فيها هو التغير. من أجل ذلك نجد أن هذا التغير في المظهر الطبيعي والمظهر الثقافي للإنسان هو موضوع اهتمام الجغرافيا التاريخية.