يولد البشر في هذا العالم كصفحة بيضاء خالية من الثقافة والقيم واللغة والتصورات التي يفسرون في ضوئها الخبرات والتجارب البيئية ، إذ بعد ولادتهم واحتضانهم من قبل افراد الاسرة نجد انهم يتعلمون منذ طفولتهم تصنيفان واسعان حول الاشياء من خلال عمليات التنشئة الاجتماعية ، يتمثل التصنيف الاول بالتقاليد والعادات والممارسات الثقافية المشتركة كاللغة والملابس والادوار المناسبة لكل جنس وما يمكن ان يعتبره المجتمع مناسبا في المواقف الاجتماعية الخاصة به ، أما التصنيف الثاني الذي يكتسبه الافراد اثناء التنشئة الاجتماعية socialization فيتمثل برؤية العالم world-view:
مدركاتنا ومعتقداتنا التي نفسر في ضوئها العالم الخارجي ، والتي تؤثر على الكيفية التي نتفاعل بها مع الناس والاشياء في الطبيعة
وعلى الرغم من اننا نادرا ما نعبر عن رؤيتنا الخاصة تجاه العالم بصورة لفظية ، إلا ان من الممكن استنتاجها من خلال تصرفاتنا مع الاخرين والاشياء في الحياة اليومية ، فعلى سبيل المثال اذا كنت تعتقد ان معظم الناس صادقين وسوف لا يغشوك اذا تعاملت معهم ، فانك من النوع المنفتح على الاخرين ولديك ثقة بهم، ويظهر السبب الرئيس حول عدم قدرة الافراد على تحديد ووصف المعتقدات الشخصية حول رؤية العالم world-view بأن هذه الرؤية عبارة عن فرضيات ضبابية fuzzy assumptions وغير واضحة حول الناس والمجتمع والوجود بشكل عام ، فرؤية العالم عبارة عن مجموعة من المشاعر والاتجاهات الاساسية حول العالم بدلا من ان تكون اراء مصاغة بشكل واضح اتجاهه (العالم) ، وهذه المشاعر والاتجاهات يتم تعلمها بشكل مبكر من الحياة ، ومن الصعب تغييرها .
اما بشأن تشابه رؤى العالم لدى الافراد في المجتمعات والثقافات المتنوعة ، نجد ان الدراسات النفسية تشير الى ان رؤى العالم لدى معظم الناس الذين يعيشون في جماعات صغيرة تكون مشتركة بصورة جوهرية في حين تختلف رؤى العالم لدى الافراد الذين يعيشون في المجتمعات الكبيرة ، ويرجع سبب ذلك الى تباين الثقافات في تربيتها وعاداتها ومدركاتها وتفسيرها للاحداث ، مما يؤدي الى اختلاف رؤاها .
– انواع رؤى العالم :
ترجع البحوث الرائدة في دراسة رؤى العالم الى بحوث عالم النفس Robert Redfield عام 1950 ، إذ استنتج ان رؤى العالم في جميع المجتمعات تقوم على الانواع المتشابهة لبعض الفروق الرئيسية في التصنيف والاشياء المتعلقة بالعالم والكون ، أي بمعنى اننا نرى ان هناك بعض الافراد يتجمعون حول نوع معين من الرؤى اكثر من غيرها عند النظر الى العالم ، وبهذا الصدد قسم Redfield رؤى العالم الى ثلاثة انماط هي :
– رؤية العالم تجاه البشر ، كيف ندرك الافراد في العالم الخارجي (اخيار ام اشرار)
– رؤية العالم تجاه الطبيعة ، كيف ندرك الاحداث والظواهر الطبيعية .
– رؤية العالم تجاه ما وراء الطبيعة (القوى الغيبية) ، كيف ندرك القوى الغيبية وما مدى تأثيرها علينا؟
وقد قادت هذه الاختلافات بين الافراد (فيما يتعلق برؤيتهم تجاه البشر والطبيعة وما وراء الطبيعة) عالم النفس Redfield الى استنتاج نوعين اساسيين من رؤى العالم ، هما :
أ. رؤية العالم الخرافية (الاسطورية) mythological :
تفسير الاحداث الخارجية بصورة غيبية وسحرية ، إذ هي رؤية بدائية جدا ويحكمها التفكير الخرافي ، لذا يعتقد الافراد الذين يؤمنون بالرؤية الاسطورية بأن البشر ليسوا منفصلين عن الطبيعة والقوى الغيبية ، وانها تعيش معهم وتشبههم من الناحية الانسانية مثل تمتع هذه الكائنات والقوى بالدوافع والمشاعر والتفاعلات مع بعضها البعض ، كذلك يعتقدون ان جميع الاشياء كالحيوانات والاشجار والصخور والارواح والالهة لديها خصائص انسانية ، وانها يمكن ان ترتبط معهم ، وتشعر بالخوف والغضب والسعادة بنفس الطريقة التي يشعر بها البشر ، بعبارة اخرى يعتقد الافراد اصحاب الرؤية الاسطورية بعدم وجود فرق بين البشر والطبيعة والقوى الغيبية ، إذ ان هذه العوالم مشتركة ومتداخلة وتتفاعل مع بعضها البعض بشكل مستمر ، ويشير Redfield بان هذه الرؤية تنتشر لدى الافراد في الجماعات الرعوية والزراعية .
ب. رؤية العالم المتحضرة (المتمدنة) civilized :
تفسير الأشياء والاحداث في البيئة الخارجية بطريقة علمية ومنطقية، إذ هي رؤية متمدنة تعتمد على القوانين والتفسيرات العلمية في النظر الى العالم الخارجي ، لذا يعتقد الافراد المتحضرين ان الناس منفصلين عن عالم الطبيعة والقوى الغيبية ، ويرون ان الحيوانات والاشجار والصخور والاشياء الاخرى في الطبيعة بانها فاقدة للخصائص الانسانية مثل التفكير والوعي ، وبما ان الانسان منفصل عاطفيا عن الطبيعة فأن هذا يؤدي الى استغلالها وعدم الاعتناء بمواردها الطبيعة مثل تغيير مسار الانهار وقطع الاشجار وصيد الحيوانات .
لذا نجد أن الافراد المتحضرين بعيدين جدا عن الاعتقاد بالعالم الغيبي ، ويرون ان الالهة تعيش لوحدها وبشكل منفصل عن الناس ، ولا تتفاعل بشكل مباشر مع البشر ، وتفتقد للخصائص الانسانية ، وليس هناك اية احتمالات ان تهبط الى الارض وتحارب مع البشر في المعارك او تتزوج بهم ، فالإلهة اسست الكون في الماضي القديم وهي الان بعيدة عن الاهتمامات والانشطة الدنيوية .
وبهذا الصدد يرى Redfield ان رؤية العالم المتحضرة تختلف عن رؤية العالم الخرافية ، إذ تتسم الرؤية المتحضرة بالبصيرة والفائدة في فهم وتفسير ما موجود في العالم ؛ ورغم الفرق بين هاتين الرؤيتين فان Redfield يشير الى أن رؤى العالم تتضمن ما هو أبعد عن عالم الطبيعة والقوى الغيبية ، إذ تهتم رؤى العالم بالقيم الجوهرية core values ، التي تزودنا بقاعدة اساسية للسلوك الاجتماعي في المجتمع ، فالقيم عبارة عن ما يعتقد به الناس بشأن ما هو مرغوب ومنافي للاخلاق أو مناسب وغير مناسب أو صحيح وغير صحيح ، وتتضمن القيم مجموعة من الاعتقادات مثل العيش بوئام مع الطبيعة بدلا من الهيمنة عليها ، وان جميع الناس طيبون بشكل عام ، وان الاعمال الشريرة ستتم معاقبتها في نهاية الامر ، إلا ان القيم الجوهرية تختلف من ثقافة الى اخرى وفقا لمعاييرها ورؤاها الاجتماعية .
– ما هي معتقداتك حول رؤية العالم ؟
قد لا يكون من السهل تحديد معتقداتك الشخصية حول رؤيتك للعالم ، إذ من المحتمل أن لا يكون لديك تقييم حاسم حول ذلك ، إلا ان احدى الطرق لتحديد رؤيتك الخاصة ان تفكر بالمعتقدات المتناقضة مثل (الخير مقابل الشر) أو (الانفتاح على الاخرين مقابل تجنبهم) أو(الالحاد مقابل التدين) ..وغيرها ، وحتى تبدأ عملية تقييم الذات فأن عليك ان تفكر بالاشياء والخصائص الموجودة على احد هذه الاقطاب ، وحدد ما يناسبك منها (مثل اختيار الخير وتجنب الاخرين والتدين) ، إذ ان هذا يعطيك بصيرة حول القيم الجوهرية التي تؤمن بها وطبيعة رؤيتك تجاه العالم ، والان لنحدد بعض الخصائص الاساسية التي تتسم بها شخصياتنا:
1. هل تعتقد ان الاشياء مرتبطة مع بعضها بطرائق معقدة على الرغم من اختلافها بالدرجة؟ على النقيض من ذلك ، هل ترى ان الاشياء مختلفة بدرجة شديدة؟ بمعنى اخر هل تبدو لك القضايا كاسود وابيض ام انك تراها رمادية على سبيل المثال هل الكذب على صديقك أمر خاطئ بصورة دائمة ؟ ام ان هناك بعض الاكاذيب اقل سوءا لانها تجنب صديقك الشعور بالسوء حول شيء ما او الشعور بالخيبة؟
2. هل تفضل ان تكون الاشياء ثابتة ومستقرة ام متغيرة؟ وهل تفضل ان تقوم بالاشياء وفق طريقتك التقليدية في كل مرة؟ على النقيض من ذلك هل تفضل القيام بالاشياء بطرائق جديدة ومتنوعة ؟وهل تستمتع اذا اصبحت حياتك متقلبة ومتغيرة ؟ على سبيل المثال ، عندما تخرج للعشاء ، هل تحب ان يكون في نفس المطعم الذي تذهب اليه في كل مرة وان تتناول نفس وجبة الطعام ؟ ام تحب تجربة مطاعم جديدة وتناول طعام مختلف؟
3.هل تحب القيام بالمخاطر والمغامرات ام انك مقتنع بالحياة الامنة والبسيطة ، على سبيل المثال هل تحب تسلق الجبال وركوب الموجات العالية او القيام بالالعاب الرياضية الخطرة ؟ وهل تشعر بالضجر عندما لا تشاهد او تقوم بهذه الانشطة الخطرة ؟ عندما تقدر وتحسب هذه المخاطر في عقلك فانك تقارنها لا شعوريا بمقياسك الداخلي للشعور بالأمان – القلق ، فإذا شعرت بان هذه الانشطة خطرة فانها ستثير لديك القلق في حين اذا شعرت بان هذه الانشطة قليلة الخطر فانك ستشعر بالامان ، وفي النهاية اين تضع نفسك؟ هل ان عدم القيام بالانشطة الخطرة يشعرك بالضجر ام انك تفضل الراحة والامان؟
4. هل تفضل المنافسة أم التعاون ؟ ، على سبيل المثال هل تحب الالعاب التي يوجد فيها فائزين وخاسرين ؟ ام تفضل ان تقضي وقتك في الانشطة غير التنافسية (التي يكون فيها الفوز ليس الهدف المباشر من ممارستها)؟ ومن الجدير بالذكر ان المؤسسات في العالم الغربي تشجع وتؤكد في الوقت الحاضر على قاعدة التنافس مع بعضها البعض ، إذ ان الفائز من يقوم بجمع المال في حين ان الخاسر من يفلس تماما ، وبالمثل فان معظم الالعاب الرياضية ذات طبيعة تنافسية حادة ، فالبيسبول وكرة القدم والعاب الساحة قائمة على الربح والخسارة ، فهل تفضل ان يكون هناك خاسر ورابح في الحياة؟
– رؤى العالم وادراك الزمن :
إن احدى الجوانب المهمة لرؤى العالم انها تؤثر على طريقتنا في العيش وتفاعلنا مع بعضنا البعض وكيفية ادراكنا واستعمالنا للوقت ، إذ ان معظم الناس في العالم الغربي يفكرون بالوقت بوصفه حقيقة ثابتة ، فالوقت شيء لا يمكن الهروب منه . ويتكون الوقت من اقسام محدودة ومستمرة في المدة على سبيل المثال يتكون الوقت من اشياء بديهة يمكن من خلالها حسابه كالثواني والدقائق والساعات ، وهذه المكونات البديهية ليست من الطبيعة ، وانما قام الانسان بابتكارها ليحدد انشطته ووقت عمله اليومي عندما يذهب الى وظيفته او مصنعه او شركته ، كذلك ليحدد وقت الرجوع الى البيت ، لذلك يركز الافراد في المجتمعات الغربية عند قيامهم بالأنشطة اليومية على الوقت في حين نجد ان الافراد في المجتمعات العربية التقليدية ينظرون الى طبيعة الانشطة بدرجة اكبر اهمية من الوقت ، إذ يبدؤون بالنشاط من دون تحديد وقت معين ويستمرون به حتى يتم الانتهاء منه او تركه ، فعلى سبيل المثال نجد ان العربي عندما يذهب الى عمله في الصباح (المهن والاسواق والتجارة) غير محدد بزمن معين ، فمتى ما انتهى عمله او شعر بالتعب ذهب الى بيته.
فضلا عن ذلك تتضمن رؤى العالم التركيز على ابعاد الزمن الثلاثة (الماضي، الحاضر، المستقبل)، فنجد ان معظم الافراد في امريكا الشمالية يتوجهون نحو المستقبل بدرجة شديدة (ولا سيما الشباب) ، إذ اننا نرى ان طلبة الجامعة يكونون متحمسين الى العمل وفق الشهادة التي سيحصلون عليها بعد بعضة سنوات (المستقبل القريب) ، على الرغم من ان ذلك يؤدي الى تأخرهم في الزواج وتكوين عائلة خاصة به ، فهم يقومون بذلك لانهم يتوقعون تحقيق بعض المكاسب في المستقبل حتى لو بعد فترة من الزمن مقابل ذلك نجد ان الصينين يركزون بصورة تقليدية على الاجيال القادمة في المستقبل ، لذا نجدهم يعملون بجد وجهد كبير ، ويضحون بحياتهم من اجل ان تكون حياة عوائلهم واحفادهم من الاجيال القادمة غنية ومرفهة ، وبهذا نجد ان رؤية الصينين نحو العالم طويلة الامد ، ومتوجهه نحو الاستمرار بالتضحية والتفكير بالمستقبل البعيد.
وإذا كانت رؤى الامريكان والصينين متجهه نحو المستقبل فان هناك بعض الشعوب متجهه نحو الماضي بوصفه عصرا مثاليا ومجيدا ، على سبيل المثال نجد ان المصريين متمركزين نحو حضارتهم الفرعونية القديمة ، وهو شائع جدا في حياتهم اليومية مثال ذلك انتشار صور المصريين القدماء على طوابعهم البريدية وبناياتهم ومصنوعاتهم وتحفهم اليدوية ، إذ ان هذا السلوك والتوجه الزمني يعمل كرسالة تذكير للشعب المصري حول تاريخ مصر العظيم في الماضي ؛ ومن المدهش ان هذا الامر لا ينعكس على الشعوب فقط وانما يوجد افراد يعيشون في مجتمعات متجهه نحو المستقبل ولكنهم متمركزين بصورة فردية نحو الماضي ، فعلى سبيل المثال نجد ان الرئيس السابق رونالد ريغان كان يتكلم في اغلب لقاءاته عن أهمية القيم العائلية family values التي حدثت في المجتمع الامريكي ما بين عام 1920-1930 ، إذ كانت هذه الفترة عصر ذهبي بالنسبة له ، وهذا يعكس بطبيعة الحال سمات ريغان الشخصية التي كانت تتسم بالتقليدية والمحافظة والحنين الى الماضي .
الانماط الشائعة لرؤى العالم (البشر – الطبيعة – القوى الغيبية) د. دينيس اونيل . مصدر المقالة
لمزيد من المعلومات حول الموضوع يرجى مراجعة الرابط التالي :
الانماط الشائعة لرؤى العالم (البشر – الطبيعة – القوى الغيبية) د. دينيس اونيل .