يشير علماء النفس والاجتماع ان التجارب القاهرة والازمات التي تمر بها المجتمعات يمكن ان تصنع الشعوب ، وهذا ينطبق علينا في كل الاحوال ، إذ مرت الشخصية العراقية قبل تظاهرات الثلاثين من تموز عام 2015 بأقسى الظروف والاحداث المريرة من احتلال وارهاب وفساد .
وهذه كانت بمثابة خبرات وتجارب اعطت للشخصية العراقية مستويات ودفعات جديدة من النضج النفسي والاجتماعي والسياسي ، فبعد ان كانت الشخصية العراقية عاجزة وناقصة وتنتظر التغيير من القوى الالهية والغيبية والقدرية مثل التوسل والدعاء او انتظار المخلص أو ولادة شخصية سياسية قوية بمحض الصدفة ورحمة القدر فان العراقيون اصبحوا الان على معرفة ودراية كبيرة بان قوى التغيير تكمن في ارادة الشعوب وفاعليتها الاجتماعية والسياسية في اجبار اقوى الحكومات امنيا ودكتاتوريتا بان تخضع لمطالبها السياسية والشرعية ، لذلك تشهد الشخصية العراقية طفرة كبيرة من التحول النفسي من مظاهر العجز والضعف الى القوة ، او من الخضوع الى السيادة ، مما يحفزها ذلك نحو تغيير سلوكياتها وافكارها واساليبها التوافقية في العيش وفق نظم صحيحة ، ومحاولة توظيفها في البيئة العراقية .
– ((التفاؤل العراقي المتعلم))
بعد استجابة رئاسة الوزراء لمطالب المتظاهرين في ساحة التحرير والمحافظات العراقية ، اصبح الوعي العراقي اكثر تفاؤلا وايمانا بقدرته على التغيير السياسي ، ويتمثل هذا التفاؤل بتصورات واعتقادات الشخصية العراقية الايجابية بانها تستطيع ان تمارس اثرا ايجابيا في عمليات صنع القرار السياسي ، والتأثير في القوانين الحكومية ، ومسؤولية اختيار القادة الجيدين، ومحاسبة المفسدين ، فضلا عن ذلك فان الفزع والخوف الذي ظهر على بعض القادة والمسؤولين من خطورة وجدية التظاهرات اعطى للعراقيين دفعة وثقة كبيرة نحو التغيير ، إذ اقتنع العراقيون اليوم انهم قادرون فعلا على تصحيح المسار السياسي في العراق ، وان سكوتهم لا يجدي نفعا ، وان ليس هناك خسارة اذا ما حاولوا تأكيد مطالبهم وحقوقهم وفق الدستور ، وعلى حد تعبير احد المتظاهرين (المبلل ما يخاف من المطر) ، إلا ان نهضة العراقيين وتكاتفهم معا في سبيل الاصلاح اعطى للشخصية العراقية نفسا جديدا ودفعة سيكولوجية بناءة من اجل اثبات ذاتها ووجودها في الحياة .
– ((تنظيم الذات العراقية ))
يمكن القول ان التغير المعرفي في مدركات الشخصية العراقية عبارة عن وسيلة هجومية للحفاظ على الوجود العراقي ، ومحاولة لأثبات الذات وتنظيم ارادتها من جديد ، وذلك في ضوء استعمال الطرائق والوسائل التي تساعدهم في استثمار القوى والقدرات من اجل تحقيق الاهداف المرغوبة في التغيير مثل القيام بالتظاهرات والاعتصامات المدنية والقيام بتجمعات مدنية تنادي بالحقوق والحريات ومحاسبة المقصرين والمفسدين ، إذ اصبح العراقيون اليوم اكثر تنظيما مما سبق ، وذلك في ضوء توحيد جهودهم وكتابة طلباتهم ، والتعبير عن مشكلاتهم وحاجاتهم بشكل منظم ووفق الاولويات المرجوة ، ومحاولة تحقيق ما يرغبون به بشكل هادف وبناء وسلمي ، ووضع الخطط السياسية المسبقة والمستقبلية ، وتعديل خارطتهم السياسية وفق الاوضاع الراهنة او المؤامرات التي يحاول احد القادة القيام بها .
فضلا عن ذلك اظهرت الشخصية العراقية اثناء تظاهراتها تقدما نفسيا جديدا ، إذ اظهر العراقيون ضبطا كبيرا للذات واتزانا انفعاليا ملحوظا رغم الضغوطات والمعاناة التي تعايشوا معها من قبل الحكومة الحالية ، فلم نجد المتظاهرين يقومون بأعمال انتقامية او تخريبية ضد مرافق الدولة ومؤسساتها ، ولم يعتدوا على اي جندي او شرطي او حارس امن في الشارع بل بالعكس قام المتظاهرون بتبادل الورود والقبلات والعناق مع رجال الامن ، وهذا دليل كبير على التزام العراقيين واحترامهم وحبهم لوطنهم ، فضلا عن وعيهم بان ما حدث من اعمال نهب وتخريب لم يجدي نفعا الآن .
-((الحاجة الى التميز الايجابي))
واجهت الشخصية العراقية منذ تاريخ طويل استباحة حقيقية لقدراتها وثرواتها وكرامتها وتقديرها لذاتها من قبل الحكومات السياسية السابقة والحالية ، إذ طالما حاولت هذه الحكومات ان تتسلط على العراقيين وتسرقهم وتخضعهم لسياساتها وافكارها الايدلوجية ، فضلا عن استعمالهم كدروع بشرية من اجل الحفاظ على بقائها ، واستغلالهم والحط من كرامتهم وتقديرهم لذاتهم ، لذا بات العراقي يشعر بهوية اجتماعية سلبية ومكانة متدنية ونظرة دونية لذاته ، مقابل ذلك اصبح العراقي يتطلع الى الهويات الاخرى بنظرة اجتماعية عالية ، واصبح يتمنى لو انه لم يولد في العراق او يحصل على جنسية اخرى ، لذا كان لهذا الامر اثرا في شعور العراقي بخيبة الامل والحاجة الكبيرة لاسترجاع كرامته واحترامه من قبل الدول الاخرى ، وبذلك بدأت هذه الحاجة تنمو لدى الشخصية العراقية بصورة تدريجية ، واصبحت مطلبا جماهيرا يحفز الشعب العراقي نحو فرض احترامه وارادته على الحكومة الحالية واعلان شأنه وهيبته امام الدول الاخرى ، وقد ظهرت هذه الحاجة بصورة كبيرة في التظاهرات الحالية ، وعبر العديد من الشعارات التي نادى بها المتظاهرون .
((الارادة الذاتية للهوية الوطنية))
ان اعظم نتيجة خرجت بها تظاهرات ساحة التحرير وبعض المدن العراقية انها جمعت مختلف اطياف النسيج العراقي في مساحة اجتماعية واحدة ، إذ نسى جميع العراقيون احزانهم ومشكلاتهم الدينية وفروقهم الطبقية والعرقية والقومية خلال هذه التظاهرات ، وذهبوا ينادون بالحرية والتغيير الاجتماعي والسياسي في العراق ؛ وهذا دليل على ان الارادة الجماهيرية تشفي جروح الهوية الوطنية وتقوم باعادة تشكيل فئات الهوية المتنوعة في نسيج وطني واحد وليس ذلك فحسب بل ان الارادة الذاتية للعراقيين كسرت حاجز الخوف من الرموز الدينية والاجتماعية الفاسدة ، وامضى العراقيون ينددون ويشجبون على مظاهر الفساد التي قامت بها هذه الرموز باسم الدين والحزب والمذهب والقومية الواحدة (باسم الدين باكونه الحرامية) .
– ((الديمومة الايجابية للقوة الوطنية))
إن الحركات الاجتماعية والسياسية في أي دولة تحتاج الى تجديد انفعالاتها وافكارها وديمومة قواها الجماهيرية من اجل ان تستمر وتحافظ على بنائها ومستواها وتحقيق اهدافها ، وهذا لا يتم إلا في ضوء قادة اقوياء ومعلمين فاضلين ورجال دين مصلحين يوجهون الناس نحو الاصلاح والتغيير ، فضلا عن توظيف دور العبادة والمرجعيات الدينية ومنظمات المجتمع المدني والقنوات الاعلامية والفضائية من اجل تشجيع الناس وتأييدهم وتحفيزهم نحو تحقيق مطالبهم وحاجتهم وتوجيههم نحو الحراك الاجتماعي ، إذ من دون هذه العملية سوف تفتر ارادة البعض من ابناء الشعب ، وسوف يرجع السياسيون والمفسدون يتمادون على كرامة الناس وحقوقهم ، وتذهب جميع الجهود والطاقات والتضحيات في ادراج الرياح ، لذا يجب الحفاظ على ما وصلنا اليه في هذه المرحلة الحرجة من تحول في بنيتنا النفسية والاجتماعية العراقية ، وان نراقب بحذر سلوكيات المماطلة والتسويف من بعض الكتل السياسية ، وذلك في ضوء وضع اجهزة رقابية وتنفيذية جماهيرية تعمل على حماية المجتمع من الرجوع الى ما قبل تظاهرة تموز وآب 2015.
سيكولوجية التغيير في العقل العراقي علي عبد الرحيم صالح مصدر المقالة
لمزيد من المعلومات حول الموضوع يرجى مراجعة الرابط التالي :