ما زالت نظرة الانسان الى القوى الغيبة والروحية تشكل احد التساؤلات المهمة في علم النفس ، إذ هناك الكثير من الدراسات تشير الى ان الدين يمثل احد الابعاد الرئيسة التي تشكل شخصية الانسان ، فللدين مساهمة فاعلة في كيفية تفكيره ، وتشكيل قيمه ومدركاته وعلاقاته مع الاخرين ، ورغم تعدد محاور الدين التي تؤثر في سلوكنا (كالصلاة والصوم والتعبد وممارسة الطقوس الدينية) إلان ان ما يحكم علاقة الانسان بدينه هو كيفية ادراكه ونظرته الى الله ومن ثم العالم الخارجي ، إذ ان كيفية ادراكنا لله يحدد وعينا بهذا العالم وتقيمنا للاخرين ونوعية عبادتنا ومصيرنا في العالم الاخر ، وبما أننا افراد وجماعات نختلف في ديننا وايماننا ووعينا وثقافتنا وارثنا الاجتماعي فان نظرتنا الى الله ستختلف بكل تأكيد ، لذا فان هناك أكثر من فكرة ورؤية ونموذج ومخطط معرفي عن (الإله الخالق) ، الذي سيحدد نوعية حياتنا وسلوكياتنا وتعاملاتنا اليومية مع ابناء ديننا والدين الاخر ، وهذا ما أود مناقشته في هذا المقال .
– ((إله الحب وإله القهر))
هل هناك حقا رؤية مشتركة لإله واحد أم هناك أكثر من إله يختلف في خصائصه وسماته وصوره عن الآخر ، إذ على الرغم من ان المتدينين في العالم يتشابهون في عبادتهم وتقديسهم للإله الذي ينتمون اليه إلا انهم يختلفون في نظرتهم الى هذا الاله ، ويظهر هذا الاختلاف واضحا في سلوك الافراد وتعبدهم وحبهم وخوفهم من إلههم ، وهو ما نجده واضحا عندما نعقد مقارنة بين المتدينين المتطرفين والمعتدلين ، إذ يختلف كل الطرفين في المعتقدات الدينية التي يرون فيها الله ، وكالاتي :
– إله المعتدلين : ينظر الافراد المعتدلين دينيا الى الله بوصفه إلها خيرا وطيبا ومتسامحا وعطوفا وكريما ورحيما معهم ومع جميع البشر ، لذا غالبا ما تكون سلوكياتهم وخصائصهم تشبه السمات التي يرون بها خالقهم ، إذ يتسم المعتدلين دينيا بالسلام والتعاطف مع الاخرين ومساعدة المحتاجين وتقبل الناس الاخرين بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية ، كذلك يعتقدون بأن الله يقف معهم ويساندهم في محنهم ومصائبهم وسيغفر خطاياهم وسيدخلهم الجنة .
– إله المتطرفين : غالبا ما ينظر الافراد المتطرفين دينيا الى الله بوصفه إلها قويا وشديدا وقاهرا ومنتقما ومذلا ومميتا وسريع الغضب ، وانه غير عطوف وغفور مع جميع البشر سوى اولئك الذين ينتمون الى دينهم ، لذا غالبا ما تكون سلوكياتهم وخصائصهم تشبه السمات التي يرون بها خالقهم ، إذ يتسم الافراد المتطرفين دينيا بالقسوة وعدم الرحمة والعصابية وعدم التسامح والعدائية والرغبة في الانتقام لمن يختلف معهم ، فضلا عن ذلك يركز المتطرفين دينيا على الشيطان والموت والعقاب والجحيم والشعور بالذنب والاثم .
– ((الاسلوب المعرفي المتفتح – المنغلق دينيا))
ترجع الاختلافات السابقة في كيفية ادراك الله والعالم الغيبي والخارجي لكل من الافراد المعتدلين والمنغلقين دينيا الى الاسلوب المعرفي الذي تنمطوا عليه خلال مرحلة تطورهم النفسي ، إذ تنشأ الاساليب المعرفية التي يفسر في ضوئها الافراد الاشياء والاحداث المادية والروحية في البيئة خلال مرحلة الطفولة والمراهقة ، وذلك عبر اساليب التنشئة الوالدية والنظم التربوية والدينية التي تحكم ثقافة المتدين الفرعية والثقافة العامة للمجتمع ، مما يؤدي ذلك الى تطبع سلوكياتهم ومخططاتهم المعرفية من خلال هذه القوى بصورة ثابتة ومستمرة ، وبهذا قد ينتج عن هذه القوى–وفق نوعها- نظامان معرفيان يفسر في ضوءه المتدينين العالم الخارجي ، وهذان النظامان وفق لكل من (Rokeach,1960) (Gurney et,al,2013) (McGreal,2013) ، هما :
1. الاسلوب المعرفي المنفتح دينيا : ويتسم فيه الافراد بسعة الافق والمرونة المعرفية في تفسير معتقدات الاخرين ، والانفتاح على القيم الدينية ، والتسامح المعرفي مع ما موجود من تناقضات مع ابناء الدين الاخر ، والبحث عن عوامل مشتركة تجمع دين الفرد بالاديان الاخرى كالسلام والحب والتآخي والعفو ..وغيرها.
2. الاسلوب المعرفي المنغلق دينيا : ويتسم فيه الافراد بالتشدد والجمود العقلي في تفسير الاحداث الخارجية ، والرفض المطلق للقيم الدينية الاخرى ، والقطيعة مع كل ما هو جديد أو يختلف عن قيم المتطرف الدينية ، فضلا عن ادراك الاشياء والاحداث الخارجية بطريقة تقليدية وغير منطقية ، وقد تصل درجة التشدد الديني الى تكفير الآخر واستباحة دمه وماله وعرضه.
– ((سيكولوجيا الاعتقاد الديني وعلاقته بالشخصية الصحة النفسية))
هل ان التمسك الشديد بالمعتقدات الدينية لدى المتطرفين يشعرهم بالراحة والامان والسعادة وطيب الحال اكثر من غيرهم من الافراد؟ وللاجابة على هذا السؤال توجه العديد من علماء النفس نحو تعرف شدة الاعتقاد الديني ببعض المتغيرات النفسية التي لها علاقة بالاصابة بالاضطرابات النفسية والرفاهية والصحة النفسية ، فعلى سبيل المثال وجدت Kenneth,2013 ان الافراد المعتدلين دينيا يشعرون بالصحة والقدرة على مواجهة الضغوط النفسية وعدم التعرض للاصابة بالمرض العقلي بدرجة أكبر من المتطرفين دينيا ، كذلك وجدت دراسة (Argyle& Hills,2000) ان الافراد المعتدلين دينيا اكثر شعورا بالرضا عن الذات والسعادة والراحة من الافراد غير المتدينين والمتطرفين دينيا ، كما وجدت دراسة (Pahnke,1966) ان الافراد المعتدلين دينيا يكونون اكثر مناعة واستجابة للعلاج الدوائي بمقدار الضعف من امكانية الافراد المتطرفين دينيا ، ويعلل عالم النفس Nielsen,1998) ) ذلك بان المتطرفين دينيا غالبا ما يتسمون بالجمود العقلي والعصابية والشك بالاخرين وعدم التسامح مع الناس ، لذلك نجدهم يقعون في العديد من النزاعات الاجتماعية والمعرفية مع الاخرين ، ويعانون من قلة الدعم الاجتماعي ونبذ الناس لهم ، وهذا ما يجعلهم يعانون من العديد من المشكلات والاضطرابات السلوكية والاجتماعية ، فضلا عن ذلك اشارت دراسة White,2013 الى ان هناك علاقة ارتباطية ايجابية بين التطرف الديني واضطرابات الشخصية ، ولا سيما اضطراب الشخصية الحدية Borderline personality التي تتسم بالاضطراب الانفعالي والاندفاعية والغضب والشك بالاخرين وعدم الاتزان في التعبير عن المشاعر ، واضطراب الشخصية السيكوباثية التي تتسم بالعدائية وعدم ضبط النفس والشعور بالذنب والخروج على معايير المجتمع ، واضطراب الشخصية الزورية التي تتسم بالشك والريبة وحمل الحقد والضغينة للاخرين ، في حين وجدت Saroglou,2007 التي اهتمت بدراسة علاقة التدين بالعوامل الخمسة الكبرى في الشخصية ، ان المعتدلين دينيا يتسمون بعامل الطيبة (من خصائص الافراد في هذا البعد: الدفء والحنو والتعاطف مع الاخرين والتواضع واعتدال الراي) وعامل الانفتاح على الخبرة (من خصائص الافراد في هذا البعد : المشاعر الايجابية والانفتاح العقلي على الخبرات الجديدة وتقبل قيم الاخرين والابداع) وعامل يقظة الضمير (من خصائص الافراد على هذا العامل : تحمل المسؤولية والالتزام بالواجبات والاخلاص وضبط الذات) .
وبهذا يخسر المتطرفين دينيا الكثير من الموارد النفسية والمادية مقارنة بالمعتدلين دينيا مثل الصحة والعمل والعلاقات الاجتماعية الطيبة والشعور بالراحة والمرونة المعرفية عند التعامل مع الاحداث الخارجية ، وهذه الخسائر لا تنعكس على المستوى الشخصي للمنغلقين دينيا فقط وإنما تمتد الى المجتمع ككل ، ولاسيما أن مشكلة التطرف الديني الآن أصبحت كبيرة وتهدد الاستقرار الامني والسياسي والاقتصادي للمجتمعات العربية والعالمية ، ومما يزيد الأمر تعقيدا أن دول المنطقة العربية ما زالت تفتقر إلى الأليات والحلول والبرامج الرادعة لتقليل حدة التطرف الديني .
كيف ننظر الى الله؟ دراسة في سيكولوجية الدين والشخصية علي عبد الرحيم صالح مصدر المقالة
لمزيد من المعلومات حول الموضوع يرجى مراجعة الرابط التالي :
كيف ننظر الى الله؟ دراسة في سيكولوجية الدين والشخصية علي عبد الرحيم صالح