الحج – عند البشر جميعاً – هو زيارة جماعية لمكان مقدس، في وقت معلوم، بقصد الشعور باقتراب خاص من المعبود الذي يؤمن به القوم. ويربطون هذه الزيارة بذكريات معيّنة موغِلة في القِدم، تتصل بالمكان الذي يفِدون إليه.
هكذا كان الحجّ ولا يزال، فقد قدّس الناس الأشجار والغابات والجبال، والأنهار، والآبار وجعلوا منها أماكن يزورونها جماعات، فيشعرون بالقوّة التي يبعثها في نفوسهم العدد الكثير، وبالطمأنينة لوجودهم معاً في موقف عبادة ذات شعائر خاصة، ونظام دقيق. ومن المؤكد أن الإنسان في العصور السحيقة قبل التاريخ، كان يرتاد بقاعاً من الأرض يجد لها رهبة، أو راحة نفسية، أو شفافية روحانية، يحلّق بها في آفاق أسمى من المطالب المادية التي تحاصره. ثمّ تبلور هذا الشعور في العصور التاريخية القديمة: فالمصريون القدماء كانوا يعتقدون أنّ آلهتهم الفرعونية تجتمع في معبد «أوزيريس» بمدينة «أبيدوس» في عيد هذا المعبود، فكانوا يحجّون إليه بهذه المناسبة. وكان الهنود يحجّون إلى المعابد الضخمة بجبال الهملايا، أو على ضفاف نهر الكنج، في «جُمنا»، أو «برندابان» أو في مدينة «بَنارِس» الجليلة القدر عندهم. وفي الصين كانت الجبال المقدسة التي يَؤمّونها للحج كثيرة، خاصة جبال «تاي – تِشان». وفي اليابان حيث تلتقي عبادة أرواح الأسلاف بالطقوس البوذية، في تعايش سلمي منسجم، تقوم معابد (الشِنْتو) – أي تقديس الأسلاف – مستقلة عند المعبد البوذي ومجاورة له: الأولى تسمى في لغتهم «جِنْجا» والثانية «أوتيرا». وأماكن حجّهم على الجبال العالية، ولا سيما جبل «فُوجي ياما». كما يؤمّون المعابد البوذية في مدينة «نارا» حيث أقسم أسلافهم القدماء على تحرير وطنهم من التبعية لإمبراطور الصين، فأصبح معبدها البوذي مكاناً للحجّ.
وفي العراق القديم، كانت كلّ إمارة سومرية أو أكادية في (الألف الرابع قبل الميلاد) تتخذ لها عاصمة: تل العُبيد – الوَرْكاء – أُور – إريدُو – تل خَلَف – نينوى – بابل – خفاجي – أرْبِل – كِرْكوك… إلخ، وكان تخطيط العاصمة يبدأ بمعبد مركزي، يمنح المدينة قدسيتها، إذْ يصبح حرماً ومكاناً للحج. وكان هذا المعبد إما مربعاً، إشارة إلى أنّ الله هو المهيمن على الجهات الأربع للعالم: الشرق والغرب والشمال والجنوب، وإما بيضاوياً، يذكر بأنّ الله خالق للحياة، بإرادته تخرج الدجاجة، لتبيض بدورها بمشيئته، فتستمر الحياة.
وفي كلّ معبد برج شامخ يسمّونه «زِقُّورة» شكله مربع في المعابد المربّعة، ومستدير في المعابد البيضاوية، ينتهي من أعلى بشرفة يرصد منها الكهنة النجوم – وكانوا يعبدونها – ويعلنون بدايات الطقوس الدينية للحجاج. وهكذا كان الحج في إيران القديمة وبلاد الحيثيين في آسيا الصغرى وغيرها من بلدان العالم القديم.
وإذا كان إبراهيم الخليل (عليه السلام) قد رفع القواعد من بيت الله في مكة المكرّمة، فإنّه لم يَرِد عنه، حتى في المرويّات اليهودية، أنه بنى لله – تعالى – بيتاً آخر في فلسطين، بل يقولون: إنّه مرّ ببلدة «سالم» وهو الاسم الفلسطيني القديم للقدس فنزل ومن معه ضيوفاً على ملكيصادق (ملك الفلسطينيين) وقدّم ملكيصادق ملك (سالم) خبزاً ونبيذاً؛ لأنّه كان كاهناً لله العليّ، ثمّ باركه وقال: «مبارك أبرام من الله العليّ مالك السموات والأرض، وتبارك الله العليّ الذي دفع أعداءك إلى يديك»(1).
أما الساميون فقد كانوا على اختلاف عشائرهم يحجّون إلى أماكن معيّنة في أوقات معلومة. وكان أهم هذه البقاع المباركة عندهم، الجبال والأشجار والآبار وعيون الماء، فنقرأ مثلا في التوراة: «وهذه هي الرسوم والأحكام التي أعطاك الرب إله آبائك، لتملكها كلّ الأيام، التي تحيونها على الأرض، تقوّضون جميع المواضع التي كانت الأُمم التي ترثونها تعبد فيها آلهتها: على الجبال الشامخة، والتلال، وتحت كلّ شجرة وارفة، وتُهدّمون مذابحهم، وتكسّرون أنصابهم، وتحرّقون غاباتهم بالنار، وتحطّمون زخارفهم لآلهتهم، وتمحون أسماءهم من ذلك الموضع، حتى لا تصنعوا هكذا نحو الرب إلهكم. بل الموضع الذي يختاره الربّ إلهكم من جميع أسباطكم، ليحلّ فيه اسمه ويسكن فيه، فتؤمونه، وإلى هناك تسيرون، حاملين إليه محرقاتكم وذبائحكم وأعشاركم وتقدمات أيديكم ونذوركم ونوافلكم وبكور بقركم وغنمكم. وتأكلون هناك أمام الرب إلهكم وتفرحون بجميع ما تمتد إليه أيديكم أنتم وبيوتكم، مما بارككم فيه الرب إلهكم»(2).
ولم ينصّ الرب – لا هنا ولا في أي نصّ من كتابهم – على هذا الموضع! أمّا «أورشليم» فلم يكن اسمها قد أُطلق عليها بعد، بل كانت تحمل اسم «سالم» الفلسطيني، ثمّ سميت «يبوس» باسم العشيرة الفلسطينية التي كانت تسكنها، أما «أُورشليم» فقد بدأ بناءَها داودُ وأتمّها سليمان، كلّ ذلك بعد موسى بخمسمائة سنة، وهما عند اليهود من الملوك وليسا من الأنبياء، ولا الكهنة!
وكان اليهود – أو بنو إسرائيل – يجعلون من الأشجار والجبال والتلال وعيون الماء والآبار مزارات يحجّون إليها ويتبرّكون بها، ويبنون عندها معابدهم(3).
ولا يفوتنا أن نذكر «بئر الحيّ الرائي» بالقرب من الخليل، وقبالة سنديانة قمراً، وكثير من اليهود يحجّون إليها حتى اليوم، لما جاء في التوراة: «وكان بعد موت إبراهيم أنّ الله بارك إسحق ابنه، وأقام إسحق عند بئر الحيّ الرائي …»(4).
كما سبق ذكر التبرك بهذه البئر، إذ تزوج عندها إسحق من رفقة، قبل موت أبويه إبراهيم وسارة(5). أما معبد «بيت إيل» الذي أقامه يعقوب في أرض كنعان بالقرب من نابلس، فقد كان المكان الأول الذي يحج إليه بنو إسرائيل حتى بعد أن شيّد سليمان الهيكل في القدس، ولم يفقد منزلته هذه إلاّ بعد انشطار مملكة سليمان نصفين بعد وفاته: السامرة شمالا وكانت مملكة معادية لأُسرة داود وسليمان في الجنوب، وتسمّي نفسها إسرائيل! واستمرّت في الحجّ إلى «بيت إيل». أمّا أُسرة يهوذا المنحدرة من داود وسليمان فكانت تحج إلى «الهيكل» في أُورشليم، وهو الاسم الذي اشتهرت به منذ سليمان.
الحج قبل الإسلام وبعده:
تعدُّ أيام الحج وما بعدها أعياداً تقام بها الأفراح لإدخال السرور إلى قلب الأرباب. ويكون الحج بالدعاء وبمخاطبة الآلهة، غير أنّ بعض الجاهليين كان يحجّ صامتا أي من دون كلام. وقد تميّز الشهر الذي يقع فيه الحج عن الأشهر الأُخرى بتسميته بشهر ذي الحجة وكانت «مُذْحِج» تحج إلى «يَغوث» كما كانت «طَي» تعبد «الغَلَس» وتهدي إليه. وكانت «ثقيف» تعبد «اللاّت» في الطائف.
وحجَّ الجاهليون إلى بيوت أُخرى مثل «بيت نجران» و «بيت ذي الخِلْصة» و «بيت مناة» و «بيت جَهار» و «سُواع شمس» و «مَحرِق» و«مَرحَب» و «ذُريح»(6).
ولم تكن طقوس الحج إلى مكة واحدة عند كلّ القبائل، بل كانوا يختلفون ويصنّفهم المؤرخون في صنفين عامين هما «الحُمْس» أو (الأحماس» و «الحُلّة» ويضيف البعض صنفاً ثالثاً هم «الطُلْس» أو (الأطلاس).
و«الحُمْس» من العرب، وهم قريش كلّها و «خُزاعة» لنزولها مكة، وكلّ من ولدت قريش من العرب، وكل من نزل مكة من قبائل العرب. أمّا «الطُلْس» فهم سائر أهل «اليمن» وأهل «حضرموت» و «عك أياد». أمّا «الحُلّة» فالمفروض أنهم بقية القبائل.
والإخباريون يذكرون أنّ الطائفين بالبيت كان صنف منهم يطوف عرياناً، وصنف يطوف في ثيابه، ويعرف من يطوف بالبيت عرياناً ب- «الحَلّة». أمّا الذين يطوفون بثيابهم فيعرفون بـ «الحُمْس».
وكان «الطُلْس» لا يتعرّون حول الكعبة ولا يستعيرون ثياباً، ويدخلون البيوت من أبوابها ولا يئدون بناتهم. وكان «الحَلّة» يقصدون من نزع الثياب طرح ذنوبهم معها ويقولون: إنّهم لا يطوفون في الثياب التي فارقوا فيها الذنوب، ولا يعبدون الله في ثياب أذنبوا بها. وذكر أنّ «الحُلّة» إذا أتمّوا طوافهم تركوا ملابسهم عند الباب ولبسوا ملابس جديدة(7).
وقد منع الإسلام طواف العري في أي وقت، وحتّم على جميع قريش وغيرهم لبس الإحرام. والإحرام قديم عرف عند غير العرب أيضاً.
ويظهر أنّ أهل مكة وقريشاً كانوا يلبسون الإحرام أو يعيرونه لغيرهم من العرب إنْ كانوا من حلفائهم.
ومن المحتمل أن «المَعينيين» و«السَبيئيين» و«القَتْبانيين» و«الحَضْرميين» كانوا يطوفون حول معابدهم على نحو ما كان يفعله أهل الحجاز؛ لأنّ الطواف حول بيوت الأصنام من السنن الشائعة بين العرب وعند بني «أرم» و «النبط». وكان الطواف حول البيت الحرام بمكة سبعة أشواط(8).
ومن مناسك الحج: التلبية وهي إجابة الملبّي ربّه وقولهم: لبّيك اللّهمّ لبّيك معناه: إجابتي لك يا رب. وكان الجاهليون يلبّون تلبيات مختلفة، فتلبية قريش كانت: «لبيك اللهم لبيك. لبيك لا شريك لك إلاّ شريك هو لك تملكه وما ملك».
وتلبية من نسك للعزّى كانت: «لبيك اللهم لبيك، لبيك وسعديك ما أحبنا إليك». وتلبية من عبد اللاّت كانت: «لبيك اللهم لبيك كفى ببيتنا بنيه ليس بمهجور ولا بلية، لكنه من تربة زكية أربابه من صالحي البرية».
وكانت تلبية من عبد «هبل»: «لبيك اللهم لبيك إننا لقاح حرمتنا على أسنّة الرماح يحسدنا الناس على النجاح».
والتلبية هي من الشعائر الدينية التي أبقاها الإسلام ولكنّه غيّر صيغها القديمة بما يتّفق مع عقيدة التوحيد، فصارت على هذا النحو: «لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك. إنّ الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك لبيك».
كما جعلها جزءاً من حجّ مكة بعد أن كانت تتم خارج مكة، إذْ كانت كلّ قبيلة تقف عند صنمها وتصلّي عنده ثمّ تلبّي قبل أنْ تأتي إلى مكة، وذلك بالنسبة لمن كان يحج مكة فأبطل ذلك الإسلام(9).
ومن مناسك الحج السعي بين الصفا والمروة وكان بهما صنمان هما ل- «أساف» و «نائلة» وطواف الحجاج بهما قدر طوافهم بالكعبة أي سبعة أشواط وكانت قريش تقوم بذلك. أمّا غيرهم فلم يطوفوا بهما. وبين «الصفا» و«المروة» يكون المسعى وكان «أساف» بالصفا و «نائلة» بالمروة. وكان أهل مكة يطوفون ب- «أساف» أولا ويلمسونه كلّ شوط ثم ينتهون ب- «نائلة» ويلبّون لها. وذُكر أنّ قوماً من المسلمين قالوا: يا رسولَ الله! لا نطوف بين «الصفا» و «المروة»، فإنه شرك كنّا نصنعه في الجاهلية، ولما جاء الإسلام وكسرت الأصنام كره المسلمون الطواف بينهما لأجل الصنمين، فأنزل الله في كتابه الكريم: (إنّ الصفا والمروة من شعائر الله)(10).
ويتّضح من الأخبار أن الذين كانوا يطوفون بالصنمين ويسعون بينهما هم قريش خاصة؛ لأنها كانت تعبد الصنمين، وليس كلّ من كان يحج من العرب. وقد استبدل الإسلام الطواف بالسعي بين الموضعين. وذُكر أنّ السعي بين «الصفا» و «المروة» شعار قديم من عهد هاجر أُمِّ إسماعيل(11).
ومن مناسك حج أهل الجاهلية الوقوف ب- «عرفة» ويكون ذلك في اليوم التاسع من ذي الحجة ويسمى ذلك اليوم «يوم عرفة». ومن «عرفة» تكون الإفاضة إلى «المزدلفة» ومن «المزدلفة» إلى «منى».
وكان الجاهليون من غير قريش يفيضون في «عرفة» عند غروب الشمس وفي «المزدلفة» عند شروقها. ولم يكن «الحَمس» يحضرون «عرفة» وإنّما كانوا يقفون «بالمزدلفة»، وقد بدّلَ الإسلام ذلك وأخضع الجميع للوقوف ب- «عرفة». قال تعالى: (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إنّ الله غفور رحيم)(12)، يعني من «عرفة».
و«عرفة» موضع على مسافة غير بعيدة عن «مكة»، ولابدّ من أنه كان من المواضع التي قدّسها الجاهليون، وربما كان له ارتباط بصنم من الأصنام.
ويقف الحجاج المسلمون موقف «عرفة» من الظهر إلى وقت الغروب. وقد يكون وقوف الجاهليين في «عرفة» وقت الغروب له علاقة بعبادة الشمس، فإذا غربت الشمس اتّجه الناس إلى «المزدلفة» وهي على منتصف الطريق بين «عرفة» و «منى».
وفيها يبيت الحجاج ليلة العاشر من ذي الحجة، وقد وصفت في القرآن الكريم بالمشعر الحرام. وكانت الإفاضة منها عند شروق الشمس إلى «منى». ومن المحتمل أنّ «المزدلفة» كانت من مواضع الجاهلية المقدّسة التي لها صلة بالأصنام(13).
وذُكر جبل ب- «المزدلفة» اسمه «قُزَح»، وهناك صنم يقال له: «قُزَح» وقد تكون له صلة بهذا الموضع. ويذكر أنه كانت على قُزَح اسطوانة من حجارة مدوّرة محيطها (24) ذراعاً وارتفاعها (12) ذراعاً كانت توقد عليها النيران منذ زمن قصيّ ليلة الجمعة.
وعند طلوع شمس اليوم العاشر من ذي الحجة كان الحجاج في الجاهلية يفيضون من «المزدلفة» إلى منى لرمي الجمرات ولنحر العتائر(14)، وإفاضة الجاهليين عند طلوع الشمس له دلالة على عبادة الشمس عندهم.
ورمي الجمرات بمنى من مناسك الحج، وهو من شعائر الحج المعروفة في المحجات الأُخرى في جزيرة العرب، وكان معروفاً عند غير العرب أيضاً.
ويرجع أهل الأخبار مبدأ رمي الجمرات إلى «عمرو بن لحي». وترمى الجمرات على مكان عرف بموضع الجمار بمنى، تتجمع وتتكوّم عنده الحصى، وهي جمرات ثلاث: الجمرة الأولى، والجمرة الوسطى وجمرة العقبة. ويرمي المسلمون كلاًّ منها بسبع حصي(15).
ومن الشعائر المتعلقة بمنى نحر الذبائح وهي «العتائر» في الجاهلية، والأضاحي أو الهدْي في الإسلام ولذلك عرف هذا العيد بعيد الأضحى.
وكان الجاهليون يقلّدون «عتائرهم» بقلادة أو بنعلين يعلّقان على رقبة الحيوان إشعاراً للناس بأنه للذبح. ولا يحلّ للحجاج في الجاهلية حلق شعرهم أو تقصيره طيلة حجّهم وإلاّ بطل حجّهم.
ويلاحظ أنّ غير العرب من «الجزيريين» كانوا يفعلون ذلك في المناسبات الدينية. وكانت القبائل لا تحلق شعرها إلاّ عند أصنامها وذلك بعد النحر مباشرة ولا يجوز أن يتمّ قبله. ولا يقتصر ذلك على الحجّ إلى مكة، بل يمتد إلى بقية الآلهة فكان الأوس يحلقون شعرهم عند مناة، وكانت «قضاعة» و «لخم» و «جذام» تقصّ شعرها عند «الأُقيصر». ويجوز للحجاج مغادرة «منى» في اليوم العاشر من ذي الحجة، أي في اليوم الأول من العيد، ففي هذا اليوم يكمل الحجاج حجهم، ولكن فيهم من يبقى في هذا المكان حتى اليوم الثالث عشر وذلك ابتهاجاً بأيام العيد(16).
والجدير بالذكر أنّ الإسلام خطا بالضمير الإنساني شوطاً بعيداً في جميع هذه المناسك والعبادات. فالمسلم لا يحج إلى الكعبة ليعزّز فيها سلطان الكهّان أو ليقدّم إليهم القرابين والإتاوات، وإنّما هي فريضة «عبادية – سياسية» للأُمة وفي مصلحة الأُمة، وعلى شريعة المساواة بين أبناء الأُمة، وهي بهذه المثابة فريضة اجتماعية تعلن فيها الأُمم الإسلامية وحدتها، والمساواة بين الكبير والصغير أمام الله وعند بيت الله. وليس المقصود بالضحية في الإسلام أنها طعام للكهان، أو طعام للإله، ولكنها سخاء من النفس في سبيل العبادة، يشير بها الإنسان إلى واجب التضحية بشيء من الدنيا في سبيل الدين، متجشماً لذلك مشقة الرحلة وتكاليفها جهد المستطيع.
ويمتاز الحج في الإسلام بدلالته الروحية التي تناسب مقصدها الأسمى من تحقيق الرابطة بين الأُمم، التي تدين بعقيدة واحدة في أرجاء الكرة الأرضية على تباعد مواقعها واختلاف أجوائها وفصولها، فهو رابطة من روابط السماء تؤمن بها أُمم وحّدتها العقيدةُ السماوية، وإن فرّقت بينها شتّى المطارح والبقاع. فالحجّ الإسلامي في عصرنا هذا هو الفريضة الوحيدة الباقية من قبيلها في جميع الأديان الكتابية، فهيكل بيت المقدس قد تهدّم منذ القرن الأول للميلاد، ولم يرد في الأناجيل المسيحية نصّ على مكان مقدس مفروض على المسيحيين أن يحجوا إليه، وكلّ ما عرف بعد القرون الأُولى فإنما اتّبع فيه الخَلْق سُنّة الملكة «هيلانة» أُمّ الإمبراطور قسطنطين التي قيل: إنها وجدت الصليب الأصيل في فلسطين عندما توجّهت إليها لزيارة آثار السيد المسيح، وهي قصة يكفي للدلالة على قيمتها التاريخية أنّ رواتها جميعاً نقلوها بعد عصر الملكة «هيلانة» وأنّ مؤرخ العصر الأكبر يوسيبيوس Eusebius لم يشر إليها بكثير أو قليل على شدّة اهتمامه باستقصاء الأخبار التي لا تذكر بالقياس إلى هذا الخبر العظيم.
ثم تتابعت القرون والدول – المنتسبة إلى المسيحية – وهي تتذرع بالأماكن المقدسة لترويج مطامعها السياسية، فروسيا القيصرية تدّعي حمايتها على مذهب الكنيسة الشرقية، وملوك فرنسا يدّعون حمايتها على مذهب الكنيسة الغربية. ولما ذهب هؤلاء الملوك وتبعتهم دولة الجمهورية «اللاتينية» كانت الغيرة على الحج في عهدها على أشدّها وأقواها، ونشأت في أيامها صحيفة الحاج Pelerin التي بلغ المطبوع من أعدادها مئات الأُلوف، وامتلأت صفحاتها بأنباء المعجزات والكرامات التي تشاهد في أرض الميلاد، وتظافرت الدولة والكنيسة على ترويجها خدمة لمطامع الاستعمار.
ثمّ تقلّبت الأيام حتى رأينا دعاة الاستعمار يسلّمون الأماكن المقدّسة إلى أيدي الصهيونيين! أما فريضة الحج الإسلامي فقد بقيت لها رسالتها التي لا عبث فيها ولا موضع للمكر والدسيسة من ورائها، وإن رسالتها اليوم في العالم الإسلامي لأعظم وألزم من رسالاتها في جميع الأزمنة؛ لأنها العهد المجدّد في كل عام بين شعوب الإسلام إلى الوفاق والوئام.
الهوامش:
(1) التوراة، سفر التكوين 14: 18-20.
(2) سفر التثنية 12: 1-7.
(3) سفر التكوين 18: 1-14.
(4) التكوين 25: 11.
(5) التكوين 24: 62.
(6) د. جواد علي، مفصل تاريخ العرب قبل الإسلام 6: 190.
(7) المصدر نفسه 6: 198.
(8) المصدر نفسه.
(9) د. جواد علي، مفصل تاريخ العرب قبل الإسلام 6: 201.
(10) البقرة: 158.
(11) د. صالح العلي، محاضرات في تاريخ العرب 1: 75.
(12) البقرة: 199.
(13) د. صالح العلي، محاضرات في تاريخ العرب 1: 80-81.