مازالت المكتبة العربية تفتقر للأدبيات التي تهتم بالعلوم السياسية، ويمكن إحالة ذلك إلى حداثة السياسة في العالم العربي. فالأحزاب العربية، مثلا، نشأت في عشرينيات القرن الماضي، في حين أن الدولة العربية (الوطنية) بدأت بالظهور بعد ذلك بعقد أو اثنين.
الأنكى من هذا وذاك أن البلدان العربية ظلت تعاني من تعثر بناء الدولة، والانتماءات القبلية، ومن مشكلات الشرعية والسلطة والمواطنة، وضمور المجتمع المدني، كما ظلت تعاني من تدني مستوى التعليم وافتقار الجامعات للتخصصات في مجالات العلوم الاجتماعية والسياسية.
ويأتي كتاب “علم الاجتماع السياسي-مقدمات توضيحية”، لمؤلفة شوكت آشتي، ليقدم إضافة هامة للمكتبة العربية في مجاله، علما بأن للمؤلف كتبا سابقة قريبة من هذا المعنى، مثل “السياسة.. تطور المعنى وتنوع المقتربات”، “الأحزاب اللبنانية.. قراءة في التجربة” و”التشكيلات الناصرية في لبنان”.
جاء الكتاب في مقدمة وخمسة أبواب (وكل باب من فصلين)، إضافة إلى خاتمة. أيضا، ثمة سجل بالمراجع التي اعتمدها المؤلف، من الكتب والموسوعات والدوريات المختصة، كما لكل باب مقدمة وخاتمة تلخيصية، بحيث جاء تبويب الكتاب وفق الطريقة الأكاديمية، ليلبي أغراض الدارسين في كليات العلوم السياسية والاجتماعية، وأيضا حاجات المهتمين والناشطين في المجال السياسي، وهذا ما عمل المؤلف على توضيحه في مقدمته.
نشأة علم الاجتماع السياسي
في الباب الأول، وعنوانه “نشأة علم الاجتماع السياسي”، يحاول المؤلف توضيح العلاقة بين علم السياسة وعلم الاجتماع السياسي، وعنده فإن علم السياسة أقدم من علم الاجتماع السياسي، وبينما نشأ الأول مع ظهور الدولة المدينة (أثينا وروما مثلا) فإن الثاني نشأ مع تشكل الدولة الأمة كإطار للاجتماع السياسي مع القرن التاسع عشر.
وثمة عوامل عدة غير مباشرة أسهمت في نشأة علم الاجتماع السياسي، ضمنها ثورة الحداثة، التي قسمها إلى ثلاث ثورات “الثورة الدينية” (أي الإصلاح الديني أو الثورة الأيديولوجية)، والثورة الفرنسية (أي الثورة السياسية والحقوقية)، والثورة الصناعية (الاقتصادية والاجتماعية).
وبرأيه فإن التحول من إطار الدولة الإمبراطورية إلى الدولة الحديثة (منذ سقوط القسطنطينية في القرن الخامس عشر إلى الثورة الفرنسية أواخر القرن الثامن عشر)، جعل مركز الاهتمام ينصب على إعطاء المسوغات الفكرية لعملية التحول، الأمر الذي عكس نفسه على السياسة وقضاياها، حيث بات ينظر إلى القضايا السياسية بمنظار دنيوي، وبات يمكن التأسيس للتداخل بين السياسي والاجتماعي، أو بمعنى آخر فصل الاجتماع السياسي وقضاياه عن المثل أو القيم الدينية أو الفلسفية، إذ لم تعد السلطة في التفكير الجديد تهبط من السماء وإنما باتت تنبثق من الأرض، ما سرع فكرة المشاركة السياسية ورسخ فكرة إرادة الشعب، الأمر الذي جعل السياسة موضوعا اجتماعيا، أي لم تعد محصورة في نطاق الدولة وحدودها.
“ثمة عوامل عدة غير مباشرة أسهمت في نشأة علم الاجتماع السياسي، ضمنها ثورة الحداثة، التي قسمها المؤلف إلى ثلاث ثورات, الثورة الدينية، والثورة الفرنسية, والثورة الصناعية “
وثمة تأكيد هنا على أن الثورة الفرنسية لعبت دورا كبيرا في بلورة مبادئ جديدة للحياة السياسية تمثلت في شعارات الحرية والمساواة والإخاء، وعززت فكرة مشاركة الناس في إدارة شؤونهم وفي ضبط حدود العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وعجلت بظهور المسألة القومية.
أما الثورة الصناعية فأثرة بنقل المجتمعات الأوروبية من مجتمعات فلاحية إقطاعية إلى مجتمعات رأسمالية، حيث المصانع والمدن والتخصص والمجتمع الطبقي، ما عكس نفسه على الفكر السياسي ومؤسسات العمل السياسي، وما رسخ فكرة الديمقراطية والمؤسسات الدستورية.
ويعدد المؤلف إرهاصات علم الاجتماع السياسي كما بدا في نتاجات بعض الفلاسفة والمفكرين من القرن السادس عشر إلى القرن العشرين، مع نيقولا ميكيافيلي (في كتابة “الأمير”) إلى شارل مونتسكيو (في كتابة روح القوانين) وجيوفاني فيكو (في كتابه مبادئ لعلم جديد)، وصولا إلى جان جاك روسو واوغست كونت ودي توكفيل وجون ستيورت مل وسان سيمون وهربرت سبنسر وتوماس هوبز وجون لوك وكارل ماركس واميل دوركايم وماكس فيبر.
وعنده فإن هؤلاء نظروا إلى الظواهر السياسية من منظار بعدها المجتمعي وبالاعتماد على المناهج العلمية، واهتموا بالقواعد الناظمة لعملها، في علاقة الحاكم بالمحكوم والدولة بالمجتمع،
العوامل المباشرة
في الباب الثاني تحدث الكتاب عن العوامل المباشرة لنشوء علم الاجتماع السياسي، حيث ربط ذلك بالثورة الصناعية والتطورات التكنولوجية، وبتطور العلم واعتماد المنهج العلمي في التعاطي مع الظواهر الطبيعية والاجتماعية، ونشوء التخصصات في العلوم الطبيعية والاجتماعية.
وقد انعكس كل ذلك على شكل الاجتماع السياسي، حيث ترسخت الدولة الأمة أو الدولة الدستورية، كما في علاقة الناس ببعضهم، وفي تبلور وعيهم بإدارة أوضاعهم، وبشأن كيفية علاقتهم بالدولة. إزاء كل ذلك باتت الظاهرة السياسية ظاهرة اجتماعية، يمكن دراستها وتعيينها، بحيث بات ثمة تقاطع بين علم الاجتماع العام وعلم الاجتماع السياسي.
هكذا لم تعد الدولة مجال السياسة كما في السابق، فبعد ولادة الدولة الأمة (الدولة القومية) مع ما أفرزته من قضايا اجتماعية واقتصادية وسياسية بات مجال السياسة أوسع كثيرا، أي أنه بات يشمل المجتمع وعلاقة الحاكم بالمحكوم، وشكل نظام الحكم، والتراتبية الطبقية، والانتماءات القبلية والانتماءات الفرعية.
وفي كل ذلك رسخ علم الاجتماع السياسي منهج مقاربة الظواهر السياسية من كل أبعادها، ومن خلال الواقع المعيش، والظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومن خلال تفاعل أفراد المجتمعات، وبالنظر إلى الدولة (أرض وشعب وسلطة) كشكل للاجتماع السياسي، وبالتمييز بين الدولة والدين، وترسيخ قاعدة سيادة مفهوم القانون كناظم للاجتماع السياسي، والتمييز بين الدولة والمجتمع، وبين السياسي والاجتماعي.
العلاقة بين علم السياسة وعلم الاجتماع السياسي
في الباب الثالث حاول المؤلف توضيح العلاقة بين علم السياسة وعلم الاجتماع السياسي، تمايزهما وتماثلهما، وطرح مقاربات مفهومية لعديد من الفلاسفة وعلماء الاجتماع بهذا الأمر، والذين يعدون علم الاجتماع السياسي علم السلطة والحكومة والولاية والقيادة، وعلم الظواهر السياسية والنظم السياسية، بالاستناد للواقع الاجتماعي.
“علم الاجتماع السياسي هو فرع من علم الاجتماع العام ينظر إلى الظواهر السياسية كوقائع اجتماعية، ويدرس القوة والقدرة والنفوذ والسلطة في إطارها الاجتماعي وداخل الجماعات”
ويخلص من ذلك إلى أن علم الاجتماع السياسي هو فرع من علم الاجتماع العام وأنه ينظر إلى الظواهر السياسية وقائع اجتماعية، وأنه دراسة في القوة والقدرة والنفوذ والسلطة في إطارها الاجتماعي، وداخل الجماعات. ويخلص من ذلك أيضا إلى أن علم الاجتماع السياسي هو بمنزلة تقاطع علم الاجتماع العام من جهة مع علم السياسة من جهة أخرى.
أما عن علاقة الاجتماع السياسي بعلم السياسة، فإن المؤلف يأخذنا إلى المدارس المختلفة في هذا الأمر، فثمة من يراهما علمين مستقلين ومتمايزين، وثمة من يرى أنهما علمان مترادفان.
ومثلا فإن علم السياسة التقليدي يركز على النظم السياسية وآليات الحكم والإدارة العامة، في حين أن علم الاجتماع السياسي يدرس العمليات السياسية وارتباطاتها بالبنيات السياسية والاجتماعية ككل والعلاقة المتداخلة بين السياسي والاجتماعي، كما يدرس عمل السلطة وعلاقاتها بطبقات وبأفراد المجتمع.
حتى من الناحية التاريخية يرى المؤلف أن علم السياسة (كعلم) نشأ في بداية تبلور الدولة القومية الدستورية في أوروبا (الدولة الأمة)، في حين نشأ علم الاجتماع السياسي بعد أن ترسخت الدولة الدستورية واستنفدت دورها في العالم الصناعي الغربي، حيث باتت القضايا المطروحة تشمل البعد الاقتصادي والاجتماعي والقانوني للدولة في سلوكها الداخلي والخارجي. وبينما تعد كليات الحقوق موئل علم السياسة فإن كليات علم الاجتماع هي موئل علم الاجتماع السياسي.
ماهية علم الاجتماع السياسي
في الباب الرابع عرض المؤلف لموضوع علم الاجتماع السياسي، الذي انقسمت التصورات بشأنه، فثمة من رأى أنه يختص بالدولة، وثمة من رأى أنه يختص بالسلطة.
فالذين رأوا أن موضوعه الأخص الدولة قرنوا ذلك مع النهج القانوني، باعتبار القانون ناظما للاجتماع السياسي، وباعتباره يوضح خصائص الحياة السياسية وشخصية المواطنين، إلى درجة أن هرقليط رأى أن “على الشعب أن يحارب من أجل القانون كما يحارب من أجل سور المدينة”، ففي عهد المدينة اليونانية لم يكن من الممكن تصور وجود نظام في الدولة المدينة خارج القانون.
أما في العصر الحالي فلا يمكن الحديث عن العلم بالسياسة من دون سيادة الدولة الدستورية، أي دون شرطي السيادة والدستور، وباعتبار الدولة أمّ المؤسسات، حيث لا يمكن النظر إلى مجتمع ما من دون مؤسساته، كما لا يمكن النظر للدولة دون المجتمع، (وهنا تبرز فكرة المجتمع المدني في الدولة الحديثة أي دولة المؤسسات والقانون والمواطنين).
أما من رأوا أن موضوع علم الاجتماع السياسي يهتم بالسلطة، فقد ذهبوا نحو تحرير السياسة كظاهرة عامة والعلم بالسياسة من الحدود الضيقة التي تعزل السياسة والعلم بالسياسة عن البيئة الاجتماعية، من خلال اجتراح مجالات دراسة جديدة، كدراسة صناعة القرار، والوظائف السياسية والسلوك السياسي، والعلاقات السياسية والنظام السياسي ومراكز القوى، فضلا عن أن البحث بالسياسة من باب السلطة أعمق وأوسع من البحث في الدولة،، فضلا عن أنه أقدم منها.
وهنا يمكن ملاحظة تضخم مكانة السلطة، وبروز الأيديولوجيات والتكنولوجيا وسلطة الحزب الواحد.
في الباب الخامس الأخير، يتطرق المؤلف إلى بحث موضوع السلطة عموما والسلطة السياسية خصوصا، فثمة سلطات في المجتمع، ناتجة عن تكوينات أو انتماءات أولية أو فرعية، مثل السلطات العائلية والقبلية والدينية والمهنية والثقافية، وثمة سلطة سياسية.
ويرى أن السلطة السياسية هي أعلى أشكال السلطات، وهي سلطة سيدة ومطلقة، وتفرض القبول على الآخرين في المجتمعات الكلية، أي المجتمعات المندمجة، والمتمايزة عن غيرها.
“السلطة السياسية هي السلطة السيدة في المجتمع ممثلة بالدولة، حيث هي سلطة مستقلة تمتد على مساحة المجتمع الكلي بينما السلطات الأخرى غير سياسية وليس لها خصيصة السلطة السيدة بالنظر لحدودها الضيقة”
ولا يفوت المؤلف أن يتحدث عن الإشكاليات الشرعية والقانونية والعقلانية للسلطة بأنواعها. ويرى أن السلطة السياسية هي السلطة السيدة في المجتمع ممثلة بالدولة، حيث هي سلطة مستقلة تمتد على مساحة المجتمع الكلي بينما السلطات الاخرى غير سياسية وليس لها خصيصة السلطة السيدة بالنظر لحدودها الضيقة.
ويرى أن السلطات السياسية باتت أكثر مؤسسية وارتباطا بالمجتمع لارتباطها بالديمقراطية وحقوق الإنسان، مع التأكيد على أن السلطة السياسية في المجتمع الكلي تطرح مسألة حدود السلطة داخل نطاق المجتمع.
وفي كل مرة كان المؤلف يؤكد أنه مجرد عرض مقدمات توضيحية لعلم الاجتماع السياسي وأن مؤلفه هو محاولة أولية في هذا الطريق وأن كثيرا من المفاهيم بحاجة إلى مزيد من الطرح والمناقشة والمقارنة.
وفي كل الأحوال فإن هذا الكتاب يقدم أطروحة نظرية لعلم الاجتماع السياسي، وجاء تبويب الكتاب بطريقة موفقة، من العام إلى الخاص، ومن المقدمات إلى النتائج، وكتب بطريقة مبسطة وسلسة، وقدم شرحا بانوراميا لعديد من الأفكار والمصطلحات، وعمد إلى مقارنتها، ووضع الملاحظات والاستدراكات عليها.
وكم كان مفيدا لو أن المؤلف عمد إلى تقديم قراءة للواقع العربي على ضوء علم الاجتماع السياسي، وحبذا لو أن هذا الأمر كان موضوعا لكتابه القادم.
لكل ذلك أعتقد أن هذا الكتاب جد مفيد للباحثين في الشؤون السياسية، ولدارسي العلوم السياسية والاجتماعية، كما للعاملين في المجال السياسي، خاصة أن معظم هؤلاء يتعاملون بالسياسة بطريقة مزاجية وعفوية وشعاراتية، وكأن السياسة فهلوة وشطارة، أو كأن المجتمع يحتاج فقط لإشارة منهم للتحرك أو للنهوض أو للتغير.