أسس الكتابة السليمة ؛ السبيل إلى فنّ المقالة
المقالة أحد الأجناس النثرية المهمة ؛ لكنها لم تلق عناية الدارسين والناقدين كالشعر والقصة والمسرحية , وبات الإحساس لدى بعض الكتاب والمتابعين للحركة الثقافية أن اقتحام هذا اللون من الأدب ليس بحاجة إلى إبداع في التناول ؛ لأن الأمر – في نظرهم – لا يكاد يتعدى إيصال المعلومات العامة , أو الحديث عن الأحوال الجارية .
ويبدو أن استئثار الفنون الأدبية السابقة بعناية النقاد قد صرفهم عن المقالة , حتى إننا لا نكاد نجد اتفاقاً فيما بينهم حول مفهومها والمنهج الذي ينبغي أن تسير عليه ؛ ولذلك الأثر الكبير في تلك النظرة لهذا اللون من الفن الأدبي .
وقد لا يعنينا كثيراً التعريفات العديدة للمقالة , وتباين آراء النقاد والباحثين حول ماهيتها ؛ فحسبنا إلقاء نظرات على فن المقالة , متناولين أحد التعريفات , لننطلق من خلاله إلى بلورة مفهومها , وما ينبغي على الناشئة إدراكه ؛ للحاق بالنابهين من كتاب هذا الجنس الأدبي .
فالمقالة فنّ أثير لدى كثير من الأدباء والكتبة , يبثون من خلاله أفكارهم , ويعبرون عن خواطرهم وما يجول في صدورهم من أحاسيس ومشاعر . وبقدر ما يبثّه الكاتب في مقالته من عناصر شخصية يكون نوع المقالة ( ذاتية أو موضوعية ) ؛ ففي المقالة الأدبية – مثلاً – تكون الكتابة فنية يعرض فيها الكاتب خواطره بأسلوب جميل ، مثير ، تبرز من خلاله مشاعره , فتتضح ذاتيتها ,كما أن الموضوعية تصبح واضحة في المقالة العلمية , حينما يعرض الكاتب نظرية من نظريات العلم , أو مشكلة من مشكلاته , عرضاً موضوعيًّا متكئاً على الأدلة والبراهين . غير أننا نجد من المقالات ما جمع أصحابها بين طرفي الذات والموضوع بأسلوب ينبئ عن أن الفصل بين الذات والموضوع ليس بالأمر اليسير , وهذا ما يزيد من الصعوبة في وضع حدود فارقة بين المقالة الذاتية والمقالة الموضوعية في بعض الأحيان ، لكننا يمكن أن نستجلي ذلك بالنظر إلى شخصية الكاتب في مقالته , فإن كانت طاغية ( بارزة ) من خلال أسلوبه فهي مقالة ذاتية ؛ فالمقالة الذاتية إذن تصور موضوعها من خلال اعتقاد الكاتب وما يثيره من انفعال قد تنبثق من خلاله بعض الصور الخيالية , خلافاً للمقالة الموضوعية التي تركز على الموضوع نفسه . والكاتب فيها بمنأى عن الخيال ؛ لأنه حريص على المحافظة على موضوعه مراعياً البناء وما يتطلبه من مقدمة ، وعرض ، ونتيجة .
والمقالة – كما ذكر الأستاذ أحمد الشايب – تطلق (( على الموضوع المكتوب الذي يوضح رأياً خاصًّا ، وفكرة عامة ، أو مسألة علمية أو اقتصادية أو اجتماعية , يشرحها الكاتب ، ويؤيدها بالبراهين . والمقالة من الأدب بمعناه العام أو العلم بمعناه العام تقوم على عنصرين رئيسين : المادة والأسلوب , ولها بعد ذلك خطة أو أسلوب عقلي )) . ( الأسلوب , مكتبة النهضة المصرية , ط 8 , 1988م , ص94).
ويعني الأستاذ الشايب بالمادة ( المضمون ) وما يحويه من أفكار وعاطفة , كما يعني بالأسلوب ( الشكل ) : لغة وصورة وموسيقا . ومن عناصر الشكل أيضاً بناء المقالة , الذي ذكره الأستاذ الشايب في آخر تعريفه , مشيراً إلى أنه الخطة أو الأسلوب العقلي . وقد أراد بالأسلوب العقلي ( الوحدة المنطقية ) , أي أن يكون للمقالة مقدمة وعرض وخاتمة , مبتغياً بذلك أن تصاغ بطريقة تسلسلية , بحيث تصبح كل قضية نتيجة لما قبلها , مقدمة لما بعدها , حتى تنتهي إلى الغاية المقصودة .
والواضح أن الناقد – أعني الأستاذ الشايب – قد أراد أن يكون هذا التعريف شاملاً للمقالة الذاتية والمقالة الموضوعية بمجالاتهما الواسعة , المشتملة على ما في الوجود من حقائق , وآمال , وآلام , وخير , وشر .
والحقيقة أن هذا الكلام قد يكون مواتياً في المقالة الموضوعية التي عادة ما تخاطب العقل أكثر من إثارتها للعاطفة , لكنه قد لا يتحقق في بعض المقالات الذاتية التي هي أقرب ما تكون إلى الخاطرة , أو القصيدة الغنائية التي تنثال من ذهن مبدعها على غير نسق منطقي ( تسلسلي ) ؛ ذلك أن من المقالات ما قد تخضع لنزعات مبدعها وما تمليه عليه موهبته , فيدخل – مثلاً – في موضوعه مباشرة دون مقدمة , ولا يكون في ذلك إخلال ببنائها .
وإذا تبين لك ذلك كله , وكان ثمة رغبة في الكتابة , وشعور قوي بالموضوع , أصبح من الممكن – ما دام الهدف من المقالة واضحاً في ذهنك قبل الشروع في كتابتها – أن تضع الفكرة الرئيسة للمقالة في مستهلها , لتقيم عليها بناء الموضوع ( عرض الفكرة – علاجها ) . وتتجلى مقدرتك في إظهار النواحي التي تثير الاهتمام بموضوعك , وإهمال التفصيلات المملّة التي تطيل المقالة دون أن تضيف جديداً ؛ فالاعتدال في الطول عامل مهم في كسب القارئ , الذي كثيراً ما يُعرض عن المقالات التي يحولها أصحابها إلى ما يشبه البحوث القصيرة . فالمقالة ليست مجالاً للاستطراد المملّ , أو حشد المعلومات ؛ ولذلك لا يشترط فيها أن تشمل كل الحقائق والأفكار المتصلة بموضوعها , بل يكفي اختيار الجوانب المهمة في الموضوع وتسليط الضوء عليها من خلال عرضها بطريقة مشوقة تثير اهتمام المتلقي .
ولا يمكن وضع طول محدّد للمقالة ؛ لأنها تطول وتقصر حسب الموضوع وحالة الكاتب , ولكن الطول التقريبي لها أن تتراوح ما بين صفحة وأربع صفحات , فقد تقلّ المقالة فتكون في صفحة واحدة ( 250كلمة ) , أو تطول حتى تصل إلى أربع صفحات ( 1000كلمة ) , هذا إذا افترضنا أن في السطر الواحد ( 10كلمات ) ، وفي الصفحة الواحدة ( 25سطراً ) , وهي نسبة تقريبية ؛ إذ إن بعض الأسطر قد يحوي – مثلاً – ( 12كلمة ) ، وبعض الصفحات تزيد على ( 25سطراً ) , أو تقلّ , فالغرض من هذا التوضيحُ ؛ لئلا تقلّ المقالة فتشبه الخاطرة , أو تزيد فتصير بحثاً .
ومن عوامل النجاح في كتابة المقالة رهافة الحسّ , وسلامة الذوق , وسعة الزاد الثقافي , والانفتاح على الجديد ؛ ذلك أن توافر هذه الصفات مدعاة لالتقاط الموضوعات المهمة , التي تسترعي انتباه الثقافات المختلفة للقراء . وهذا ليس بالأمر اليسير ؛ لأن فهم نفسية القارئ , واختيار ما يثيره مادةً للمقالة بحاجة إلى ذوق سليم , وإحساس مرهف , وثقافة تقودك إلى التنوع في الطرح , وحسن العرض .
وقديماً قال العرب : (( لكل مقام مقال )) ، وعدّوا بلاغة الكلام أن يناسب الحال التي يقال فيها ؛ من أجل ذلك ينبغي التفريق بين المقالة الذاتية التي يُعبَّر من خلالها عن أحوال النفس وبين ما يُكتب لغايات اجتماعية , فالنوع الأول خطاب للأدباء والمثقفين , ومادام الأمر كذلك فلا بأس أن يكون عليه مسحة من غموض , أما ما يكتب لغايات اجتماعية تهمّ فئات عديدة في المجتمع فيجب أن يكون واضحاً ؛ ليسهل الوصول إلى الهدف الذي من أجله سطرت المقالة .كما أن إعطاء المقام حقه يقضي باستخدام الأسلوب الجزل في مواطن الشدة , والأسلوب الرقيق في مواطن اللين . والمقالة تقدم من يكتبها كما تقدم موضوعَه , وقد نتعرف على شخصية الكاتب من خلال أسلوبه ، فـ ( الأسلوب هو الإنسان نفسه ) كما يقول المفكر الفرنسي ( بوفون ) .
وعنوان المقالة هو الإشارة الأولى الموصلة إلى الشخصية الكاتبة ؛ ذلك أن اختيار العنوان الجيد يحتاج إلى مهارة في انتقاء الألفاظ والإيماءات اللماحة التي تثير اهتمام القارئ , فتحرك جانب التطلع عنده ؛ لكشف ما وراء هذا العنوان . والأولى أن يكون اختيار العنوان بعد الانتهاء من كتابة المقالة , وأن يكون قصيراً , معبراً عن فكرتها الرئيسة , بعيداً عن العناوين التعليمية المباشرة , سواء أكان من إبداعك أم من اختيارك ؛ إذ من الممكن أن تطلّ فكرتك على المتلقّي من خلال حكمة موحية , أو مثل سائر , أو جزء من بيت شعري .
والتحلي بالتؤدة والصبر خير زاد لمن يتطلع إلى الاستقلال بشخصية كتابية مميزة ؛ إذ إن أفكارك قد تنثال على الورق في موقف من المواقف , فتشعر حين قراءتها مرة ثانية – بعد اختمار التجربة – أنك بحاجة إلى استبدال كلمة , أو تغيير عبارة , أو إعادة بنائها , أو حذفها , حينئذ لا تقلق ؛ لأنه أمر طبعيّ , فقد تحتاج إلى مسودة وثانية , بل وثالثة إذا لزم الأمر . ولا تتسرع في النشر إن أردت أن تُسلك في عداد المبرزين في هذا اللون من الأدب ، وهم قلّة ؛ وما ذاك إلا لندرة القادرين على المواءمة بين التجربة والصياغة , أي الذين يملكون مقدرة لغوية توازي عواطفهم المتوهجة .
ولا شكّ أن الوصول إلى ذلك ليس بعزيز المنال على من يمضي في هذه السبيل بعزيمة صادقة , متسلحاً بالقراءة الجادة لكبار المبدعين في أدبنا العربي , مدركاً أن الانفراد عن مواقف الأشباه لا يتحقق إلا من خلال المراس والدربة على اقتحام مجاهل هذا الفنّ .
ومن الأدباء الذين ينبغي أن يكونوا في مقدمة من يُقرأ لهم : طه حسين , عباس محمود العقاد , مصطفى لطفي المنفلوطي , مصطفى صادق الرافعي , أحمد حسن الزيات , أحمد أمين , إبراهيم عبد القادر المازني , جبران خليل جبران , ميخائيل نعيمة , ميّ زيادة ؛ لأن الكتابة الفنية التي تمتاز بالتدفق , والعفوية , والإشراق , ومتانة اللغة , هي الجامع بين هؤلاء ، على الرغم من اختلاف مشاربهم وأنماط أساليبهم .