حركة الإصلاح البروتستانتي (لوثر ، زونجلي ، كالفن )
شهدت أوروبا في القرن السادس عشر، أعظم ولادة لحركة الإصلاح الديني البروتستانتي في تاريخ أوروبا، تلك الحركة التي انطلقت من ألمانيا بزعامة ( مارتن (لوثر) 1483م ـ 1546م) ثم انتقلت إلى سويسرا بزعامة (أولريخ زونجلي 1484م ـ 1531م ) وإلى فرنسا وجنيف بزعامة (جون كالفن 1509م ـ 1564م).
لقد سبق ولادة حركة الإصلاح الديني البروتستانتي ولادة عدة حركات دينية أسهمت فيها، كـ (حركة الفلدانيين) و (حركة الْهُسيين) في كل من فرنسا وإنكلترا وبوهيميا، فجاءت أفكار (لوثر) و (زونجلي) و (كالفن) بوصفها امتداداً لأفكار (يوحنا هس)، و ( يوحنا ويكلف) و (جيروم)،و (لورد بكهام ـ يوحنا أولدكاسل ـ ) ولا يغيب عنّا الدور الهام لعصر النهضة في إنتاج جملة الشروط الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والفنية التي نجم عنها ولادة حركة الإصلاح الديني في القرن السادس عشر. لقد استفادت حركة الإصلاح الديني من النهضة بحدود معينة، واتخذت مواقف مغايرة لها إزاء عديد من الموضوعات ،كالفنّ والأدب والفلسفة وقضايا تتعلق بالإنسان كقضيتي (الفردية) و (الحرية).
وعليه فقد تميّز الإصلاح الديني في القرن السادس عشر عن النهضة في القرن الخامس عشر بعديد من الميزات، وفي مقدمتها التركيز على إصلاح الدين المسيحي والكنيسة، والانفصال عن روما فنشط الخطاب الديني والقومي، ليصبح العنوان المحبب في عصر الإصلاح الديني البروتستانتي، فلا عجب من رفع شعارات تدعو إلى بناء كنائس دينية وطنية مستقلة عن الكنيسة الكاثوليكية في روما، أو من الدعوة إلى الانفصال عن الإمبراطورية الرومانية ـ إمبراطورية العصور الوسطى ـ .
نتناول هذه الدراسة ولادة حركة الإصلاح الديني البروتستانتي في بعض الولايات الأوروبية كنموذج أبرز للحركة في عموم أوروبا في القرن السادس عشر، ونظراً لخصوصية ولادة الحركة في كل ولاية من الولايات التي تنتمي إليها ، فقـد آثرنا استخدام
أسلوب ربط العرض بالأحداث ربطاً تاريخياً بهدف الوقوف على طبيعة كل مرحلة من مراحل حركة الإصلاح الديني البروتستانتي ،في القرن السادس عشر، ابتداءً بألمانيا فسويسرا ثم فرنسا وجنيف، فضلاً عن أن التغيرات التي مرّت بها حركة الإصلاح تستدعي منا الإحاطة بها إحاطة تمكننا من معرفة أهم جوانبها بغرض الكشف عن طبيعة تلك الحركة وما انطوت عليه من عناصر تتصل بمفهوم الإنسان بأبعاده الدينية والدنيوية والأخلاقية عند أبرز زعيمين من زعمائها وهما (مارتن لوثر) و (جون كالفن) .
بداية الإصلاح:
مهّدت عدة عوامل دينية وسياسية واقتصادية واجتماعية وأخلاقية وفكرية وفنية، السبيل لولادة حركة الإصلاح الديني البروتستانتي في القرن السادس عشر بزعامة (مارتن (لوثر) و (جون كالفن) مروراً بـ (زونجلي)، ففي ألمانيا طلب مجلس (الدايت) في أوجسبورج بضرورة إعادة المبلغ الكبير من المال إلى ألمانيا من روما في اليوبيل عام 1500م، وهو ما كانت تحوّله ألمانيا إلى روما في عهد البابوية آنئذ إذ كان البابا قد سحب من ألمانيا دخلاً يزيد مائة مرّة عما يستطيع هو نفسه أن يجبيه منها حسب تقدير الإمبراطور (ماكسمليان) لذلك، وفي عام 1510م طالب الألمان بضرورة وضع حد لتدفق الأموال الألمانية إلى إيطاليا، وبمعنى أوضح إلى نهضة إيطاليا التي تموّل الشعر والفن بالذهب الوارد إليها من وراء جبال الألب.
وثمة تغيرات ومواقف أدت إلى تعميق التناقض بين الجماهير والكنيسة الكاثوليكية والبابا، والإسراع نحو إشعال فتيل الثورة، فتناقض رجال الدين مع دعوة الجماهير إلى التمرد على البابا، ولّدَ روحاً ثائرة من الكراهية والحقد بين الكنيسة ورجال الدين من جهة، والجماهير من جهة أخرى، في مختلف أرجاء ألمانيا، كما صدرت كتيبات عنيفة اللهجة ضد الكنيسة والكرسي الأسقفي الروماني، ناهيك عن التناقص بين بعض رجال الدين من الرهبان والقساوسة في أبرشياتهم مع كبار رجال الدين بسبب الترف الذي يعيشون فيه، وهكذا فقد كان الوضع مهيئاً للثورة ضد روما وكنائسها الموالية في ألمانيا، فكانت مجموعة من العوامل والأسباب التي سبق ذكرها، تتجمع في إعصار يقذف بأوروبا إلى أعظم فورة لم تشهدها منذ غزو البرابرة لروما، ولعل إفراط الكنيسة الكاثوليكية في الظلم، ونهب أموال الولايات الأوروبية ،وتدخل رجالها في كل شيء إلى حد سمحت فيه الكنيسة لنفسها حتى بالتنقيب عما يعتمل في قلوب الناس التي سترها الله ،وإنزال أشد العقوبات قسوة على من يتهمونها بالخروج عن مبادئ الدين ،الأمر الذي أدى إلى تحريك الشعوب ومفكريها في مواجهة تلك السياسة الظالمة، وليس بخاف أنّ سياسة فرض الضرائب وجباية الإتاوات التي هي من خُلق الجباة العشارون، وليس من أخلاق رجال الدين الأتقياء، فضلاً من منح بعض الأشخاص سلطان الله في مسح الخطايا لما تقدم منها وما تأخر بعد الاعتراف، وطباعة صكوكاً تباع وتشترى لنيل الغفران، قد ولّد حالة تمرد وانفجار تعود بداياتها الأولى إلى مطلع القرن الثالث عشر، القرن الذي وجدت فيه بذرة النهضة الأوروبية اللاحقة. الّتي مثلت نهضة للإرادة الإنسانية ويقظة للعقول، أسهم فيها بنصيب وافر اتصال الغرب بالشرق وما نجم عن ذلك من تمازج ثقافي وتأثّر كبار المفكرين الأوربيين بفكر أساتذة الإسلام ومشاهيره، كـ (الفارابي وابن سينا والغزالي وابن رشد) وغيرهم، وما نتج عن ذلك من اعتقاد الأوروبيين: “بأن لا سلطان لأحد من رجال الدين على القلب وأنّ لا واسطة بين الله والعبد وأن الله قريب ممن يدعوه ويجيب دعوة الداعي إذا دعاه” ( ) ،وبأنه غافر الذنوب وحده، والمجزي والمثيب وحده. وأما المجاهرة بالدعوة للإصلاح الديني منذ القرن الخامس عشر، حتى ولادة حركة الإصلاح البروتستانتي في العقد الثاني من القرن السادس عشر قد ابتدأت بدعوتي (جيروم) و (هس) اللذين أعدما حرقاً بالنار بقرار من (مجمع كونستانس) الذي انعقد من سنة 1414م إلى سنة 1418م، ذلك لأنهما دعيا الكنيسة إلى عدم الأخذ بما يسمى بسر الاعتراف، مبينين أنّ الكنيسة ليس لها سلطان في محو الذنوب والآ ثام أو في تقريرها، وإنما التوبة مع رحمة الله هي التي تمحو الآثام وتطهر النفس من الخطايا، كما كان لدعوة (ويكلف) أثرها في إذكاء روح التمرد والاحتجاج على الكنيسة الكاثوليكية والبابا. فقد كتب كاتب كاثوليكي متعصب يصور موقف (هس) و (جيروم) من المجمع الذي انعقد بشأنهما قائلاً:
“… وكان المجمع قد عرض عليه ـ على هس ـ صورة الرجوع عن (ضلاله) فأبى أن يمضيها وبقي مصراً على غيّه… على عناده ورفيقه جيروم حتى نالا العقاب نفسه” ( ) ،وبعد ذلك ابتدأ رجال الإصلاح بدعوة هادئة لتحقيق الإصلاح،كما فعل (أرازموس 1465م إلى 1536م) إذ دعا الناس إلى قراءة الكتاب المقدس وإلى تهذيب عقولهم وتنمية مداركهم، فجاءت دعوته موجهة إلى الحكام المستنيرين وإلى رجال الكنيسة أنفسهم… نابذاً استخدام العنف سبيلاً لتحقيق الإصلاح،وليس كما فعل (لوثر) في ثورته العنيفة لاحقاً وما أسفرت عنه من مَسٍّ بسلطات الكنيسة الكاثوليكية والنيل منن قداستها.
ولعل دعوة (أرازموس) للقيام بإصلاح سلمي للكنيسة كانت قد رددتها دعوة (توماس مور 1478م ـ1525م) في إنجلترا إذ دعا إلى تحقيق الإصلاح الكنسي بالطريق السلمي فدعا بنفسه إلى وجوب احترام سيادة البابا ،بوصفه السلطان الديني على الجميع، دون أن يتمكن من قطف ثمار تلك الدعوة، لكن انتقال أفكار الإصلاح من المفكرين إلى الشعوب واصطدام الكنيسة بآراء المفكرين الثوريين وبعض الأمراء، جعل انتقادهم للكنيسة عنيفاً، وجعل خطوات الدعاة الجدد للإصلاح (لوثر)، (زونجلي) و (كالفن) أسرع مما يريد أصحاب الاتجاهات السلمية من أمثال (توماس مور ) و (أرازموس).
لقد كانت البلاد الألمانية تعيش في مخاض الثورة السياسية ضد الإقطاع، وضد النظام الاجتماعي الذي كان نظام الحكم الأميري قائماً على أساسه، فسلسلة الأحداث العنيفة التي شهدتها ألمانيا قبيل الإصلاح بنصف قرن، كانت في جوهرها اجتماعية وسياسية مع احتوائها قليلاً أو كثيراً على عناصر دينية، فضلاً عن تجذّر الروح الثورية المترافقة مع النمو الاقتصادي الذي شهدته ألمانيا في أواخر العصر الوسيط من قوة ازدهار الصناعة، واتجاه التجارة نحو رفع الأسعار واحتكار الثروة في أيادي طبقة التجار، خصوصاً الشركات التجارية الكبرى وانعكاس ذلك سلباً على القداسات الدينية في المدينة والبلد(1)، حتى أصبحت فكرة الثورة العظمى على الكنيسة خلال الخمسين سنة السابقة على مجيء (لوثر)، فكرة راسخة في المجتمع، وأصبح الفلاّح أكثر المعنيين مباشرة بتحسين شروط واقعة التعس(2) ناهيك عن أن العلاقة بين الكنيسة والدولة لم تشهد استقراراً طيلة قرون خلت ، وهكذا باتـت الكاثوليكيـة صاحبة المقام السامي تعاني من فقدان سلطتهـا ،
(1)-Vide , Mackinnon ,J . Luther & The Reformation, Vol. III, Longmans, Green Co. London, New
York, Toronto, 1929, P.188
(2)-Ibid. , P.176.
بينما كانت قوة الأمراء قد ازدادت (1) ،حتى أن (لوثر) نفسه دعا إلى تحالف الأمراء والفلاّحين ضد البابا ورجال الدين الموالين له، وكانت الحركات الثورية السابقة على مجيء الإصلاح الديني في القرن السادس عشر،حركات اجتماعية وسياسية في جوهرها مع احتوائها كثيراً أو قليلاً على عناصر دينية،اتخذت في البداية شكل حركة لتحرر القداسات من سيطرة النظام الاجتماعي والإقطاعي ،مقترنة بالطموح من أجل قيام نظام ديمقراطي في الدولة وإلغاء القانون الإقطاعي الذي منح القدرة والامتيازات للطبقات العليا (2).
( مارتن لوثر) والإصلاح البروتستانتي في ألمانيا:
ابتدأت حركة الإصلاح الديني البروتستانتي في ألمانيا مع (لوثر) فقد وجّه تحذيراً شديد اللهجة إلى الأمراء كي يحترسوا من نتيجة سوء سياستهم على عامّة الناس، كما وجّه الدعوة للناس إلى الاستفادة من احتجاج الحكام في إنجلترا وألمانيا وفرنسا وإسبانيا على بيع صكوك الغفران وتحويل الأموال الطائلة إلى روما لبناء كنيسة للقديس بطرس فيها.
لقد جاهر (لوثر) بدعوته للانفصال عن الكنيسة الكاثوليكية وعلى رأسها البابا، والشروع في تشييد كنائس وطنية جديدة في ألمانيا، لم يتمكن ( ويكليف Wyekliffe) و ( هُس Huss ) ومن إشادتها قبل ذلك. ومن جهة ثانية أصرّ جميع المصلحين البروتستانت على أنهم غير مبتدعين للعقيدة، بل هم يستمدونها من يسوع والكنيسة القديمة، وهي الكنيسة الحقيقية، ويؤكدون أن روما هي التي غيرت التقليد المسيحي الصحيح فأفسدته، وعليه فقد أعلنوا بأنّ تقليدهم هو تقليد للمسيح نفسه(3) وفي هذا السياق يجيء رفض (مارتن (لوثر) أستاذ علم اللاهوت، لـ (صكوك الغفران) وفاعليتها ليخلّد اسمه في التاريخ إذ اعترض على القول بأن صك الغفران يمكن أن يمنح لأي روح معينة ويكون له أثر لا يخيـب بمجرد اقتـران الغفران بقطـع النقـود ، بقولـه :” ما أن ترى قطـع
(1)-Bainton, R.H, The Age of the Reformation, Van Noster and Company Inc. Princeton, New
Jersey, Toronto, New York, London, 1965, p.100
(2)-Mackinnon ,J Luther & the Reformation, Vol. III. P.P. 174 , 175.
(3)- أنظر، كريت، برنتون، منشأ الفكر الحديث، ترجمة د.عبد الرحمن مراد، مطبعة مفيد الجديدة، دمشق، د.ت، ص62
النقود في الخزانة، حتى تقفز الروح من نار المطهر ” ( ) وقول (لوثر) المشهور عن صكوك الغفران أنه إذا حدث المستحيل واغتصب رجل أم الرب، فإنّ صك الغفران كفيل بأن يمحو عنه هذا الإثم، وعندما شاهد (لوثر) الشرور الماثلة، الناجمة عن بيع صكوك الغفران التي لم يشك في التبرير الذي تشتمل عليه الصكوك نفسها(2) وإنما على بيعها بالمال، فقد ألّف خمساً وتسعين رسالة أسماها ” بحث في بيان قوة صكوك الغفران، غرضه أن يدحض ادعاءاتها وتصحيح المساوئ التي تنشأ عن توزيعها” إذ أضعفت الصكوك الإحساس بالندم الناشئ عن ارتكاب الإثم، فباتت الخطيئة أمراً تافهاً يمكن تسويته مع بائع الصكوك.
صحيح أن (لوثر) لم ينكر دور السلطة البابوية في غفران الخطايا عن طريق الاعتراف النادم الذي يعفي صاحبه من العقوبات الدنيوية، غير أنه يضيف القول : “إن كل المسيحيين يشاركون آلياً في خزينة الفضائل التي كسبها المسيح والقديسون حتى وإن لم ينص خطاب بابوي بالغفران على منحهم مثل هذا النصيب” (3) وإذا كان الاحتجاج موجوداً قبل مجيء (لوثر)، فإن (لوثر) حارب ضد الظروف الحياتية في الكنيسة التي يصعب علينا تصورها والتي لم يدم وجودها طويلاً (4) فقد ابتُدِئ أول نشاط عملي إصلاحي قام به (لوثر)، عندما ألصق رسائله على باب كنيسة فيتنبرج عام 1517م إذ اشتملت تلك الرسائل على دعوة ودّية تقول: ” بدافع من الحب للعقيدة والرغبة في تسليط الضوء عليها ،سوف نناقش الآراء التالية في فيتنبرج تحت رعاية الأب الموقر مارتن (لوثر) أستاذ الآداب، واللاهوت المقدس، والمحاضر الثّبت لنفس العلم، في ذلك المكان، ولهذا يرجو من هؤلاء الذين لا يستطيعون الحضور والجدال شفوياً أن يفعلوا هذا بخطاب مكتوب” (5) وهكذا تبدو البداية الهادئة للإصلاح من خلال الدعوة لسماع المناقشة التي سيتقدم بها (لوثر) ، ومن خلال ترجمة الرسائل إلى الألمانية وإرسال نسخة منها إلـى
(ألبرخت) كبير الأساقفة في (ماينـز) بجرأة لا نظير لها، ليبتدئ الإصلاح الديني في جوّ من الرّقّة والورع عن قصد( ).
حياة (لوثر) :
جملة عوامل دفعت بـ (لوثر) أن يكون راهباً يلتجأ إلى الدير، فقد أدت التربية القاسية لأبويه إلى التجائه إلى الدير للتخلص منها، فيقول: ” إن الحياة الخشنة القاسية التي عشتها معهما هي التي دفعتني إلى أن ألجأ فيما بعد إلى الدير وأصبح راهباً ” ( ) ،لكن تعرضه لصاعقة مخيفة باغتته بالقرب من (أر فورت) جعلته يقطع نذراً على نفسه بالدخول إلى الدير إن خلّصه الرب من هذه الورطة وقد أوفى النذر حقاً ( )
كذلك أثّرت مفاهيم (لوثر) عن السحر والعفاريت والملائكة في تكوين شبابه وعقيدته الدينية. كما تأثر بالمذهب الاسمي لـ (أوكهام) إذ فطن إلى رأي (أوكهام) الذي يذهب إلى أنّ الباباوات والمجالس الدينية يمكن أن تخطئ، ولم يستحب فلسفة اللاهوت بأي من صورها، بينما تأثر قليلاً ببعض علماء الإنسانيات، على الرغم من تركيز جل اهتمامه للاحتفال بالعالم الآخر، وتعلّم قليلاً من اليونانية والعبرية، وقد قرأ أمهات الكتب الكلاسية باللاتينية.
إن قرار (لوثر) أن يصبح راهباً يعبر عن شيء من التناقض في شخصيته فقد كان قوياً يفيض بالحيوية لحد الانغماس في الشهوات وإشباع غرائزه الطبيعية. ومن ناحية أخرى أفضت المفاهيم التي تلقّنها في البيت والمدرسة عن اقتناع أنّ الإنسان آثم بطبعه، وهذا نتيجة لتشاؤمه الأخلاقي العميق الذي جعله لا يرى في الطّبيعة الإنسانية إلا الفساد والخطيئة ( ) كما نظر إلى نزوات المراهقة على أنها من أعمال الشيطان الذي نذر نفسه للإيقاع بالأرواح في لعنة أبدية لا فكاك منها، ويؤكد أكثر من مرّة : “أنه شاهد الشيطان في مناسبات عديدة وأكّد أنه رجمه يوماً بالجوز” وهناك أسطورة تذهب إلى أنّ (لوثر) قذفه يوماً بزجاجة حبر لكنها أخطأته ،ومما لا شك فيه أنّ (لوثر) تلقّن جملة أفكار عن الله ومريم ويسوع مفادها: أنّ الله لا يكاد يشمل أي عنصر من الحنان ولم يكن،لمريم المواسية موضوع كبير في هذا اللاهوت القائم على الخوف، وكانت صورة المسيح الذي هدد الخاطئين بعذاب جهنم الأبدي وفكره الجحيم قد وضعتا غشاوة على عقله، في الوقت الذي لعبت فيه بعض الحوادث الشخصية التي تعرض لها دوراً هاماً في تكوينه العقلي، فقد أوحت العاصفة الشهيرة التي تعرض لها في يوليو سنة 1505م بأنّ الله قد وجه إنذاراً له لتكريس أفكاره للخلاص، ولم يكن ذلك ممكناً إلا بين أربعة جدران ليقيم حاجزاً بينه وبين العالم والشهوة والشيطان، وقهر نفسه بالانصراف إلى التقشف ونذر عهداً للقديسة “آن” ـ (حنّة) ـ ( ) أنه سوف يصبح راهباً لو نجا من هذه العاصفة، فدخل دير الرهبان الأوغسطينيين كراهب ورع يراعي أحكام الطائفة التي ينتمي إليها بشدة.
ولم تبق مفاهيم (لوثر) على ما هي عليه فقد تأثرت بعدة مفاهيم جديدة، إذ أثر الصوفيون الألمان في تغيير مفاهيمه وبشكل خاص ما قرأه عن (تاولر) الذي أعطاه أملاً في أن يجتاز الثغرة الرهيبة بين روح تنـزع بطبيعتها إلى الخطيئة وبين إله مقسط قادر على كل شيء. أما رسائل (جون هس) فتجيء لتعمق من اضطرابه الروحي فيتساءل: ترى لماذا أُحرق رجل استطاع أن يكتب بمثل هذه الروح المسيحية وبهذه القوة؟ لقد أغلقتُ الكتاب وأشحت بوجهي وقلبي جريح ( ) وهو في موقفه هذا يتجاوز ( كالفن) ويفترق عنه، إزاء موقفه من (سرفيتوس) الذي أمر بإعدامه حياً.
إن حالة الاضطراب والتناقض في مذهب (لوثر) يجسدها مزيج غريب من الصوفية، والفظاظة، ومن النـزعات الرجعية وضروب التجديد الجريئة( )، وحالة الاضطراب الروحي التي مزقت نفس (لوثر) كان لا بد من تغلبه عليها لإيجاد حالة من التوازن والاستقرار الروحي، فَتَوجه إلى الكتاب المقدس لمجابهة ذلك الاضطراب فوقع على ناظريه عبارة ” البار بالإيمان يحيا ” ( ) في رسالة القديس (بولس) إلى الرومان، أي الإيمان المطلق بالمسيح وبتفكيره عن خطايا البشر، ليتخذ من الإيمان بعد ذلك واسطة لخلاص الإنسان وتبريره من الآثام والخطايا.
موقفه من الباباوات ورجال الكهنوت:
اتخذ (لوثر) مواقف لاذعة إزاء الباباوات بوصفه إياهم ” إن الباباوات أسوأ من الأباطرة الوثنيين وأن اثنتي عشرة فتاة عارية كنّ يقُمنَ بخدمة رجال البلاط البابوي وقت العشاء”( ) وبين أعوام 1512م ـ1517م طرأ تغير وتحول في آرائه الدينية ببطء عن المذاهب الرسمية للكنيسة، وبدأ يتحدث عن ” لاهوتنا ” مقابل ما كان يدرس في (أرفورت)، وبات يرى أن فساد العالم يعود إلى رجال الكهنوت الذين غرسوا في أذهان العامة كثيراً من الأمثال والحكايات الخرافية التي هي من إبداع البشر وليست في شيء من الكتب المنـزلة، وأما النعماء والخلاص فيتحققان للمؤمن بمجرد قبوله لفضائل المسيح، هذا ما أثبته عام 1517م، الأمر الذي جعل الدوق ( جورج) صاحب (ألبرت) سكسونيا يتذمر من مثل هذا التشدد في الإيمان لأنه ” سوف يجعل الناس مغرورين ومتمردين فحسب” ( )
التغيّر في الأسلوب:
وجدت رسائل (لوثر) الخمس والتسعين تأييد الطبقة المتعلمة في ألمانيا ووقوف الآلاف ينتظرون هذا الاحتجاج، كذلك لقيت تهليل وترحيب الحركة المضادة لرجال الدين وانفلاتها من عقالها إذ وجدت صوتاً يعبر عنها. وكان من شأن ذلك أن قل الإقبال على شراء صكوك الغفران وفي ذلك إيذان ببدء المعركة جهاراً مع البابا والكنيسة القائمة، فتبدل أسلوب الدعوة للإصلاح الديني من حالة الوداعة والهدوء واللين إلى حالة أكثر تشدداً ستسفر عن إشعال فتيل الانفجار والثورة. فقد رد على الراهب (تيتزل) في عظة حول صكوك الغفران والرحمة اختتمها بقوله في تحد لا نظير له: ” إذا كنت هرطقياً في نظر من تعاني أكياس نقودهم من الحقائق التي أذكرها فأني لا أبالي كثيراً بصيحاتهم لأنه لا يقول هذا إلا من رانت عقولهم غشاوة فلم يعرفوا قط الإنجيل” ( ) هذه العبارات خلقت ردود فعل حادّة من قبل الخصوم من رجال الدين فقد أمطر (جاكوب فان هوجستراتين الكولوني) (لوثر) وابلاً من عبارات التنديد واقترح أن يحرق على السارية، أما (جوهان إيك) فقد أصدر كتيباً في مارس عام 1518م اتهم فيه (لوثر) بنشر “السم البوهيمي” (هرطقات هس) وتقويض النظام الأكليروسي بأسره.
لقد أدرك (لوثر) مخاطر ردود الفعل لدى الخصوم الأمر الذي جعله يظهر تذللاً وخضوعاً غريبين للبابا (ليو العاشر) في محاولة لاستدرار عطفه بقوله: ” أيها الأب المبارك أقدّم تحت أعتاب قداستك تذللي وخضوعي بكل ما أكونه وما أملك. هيا، سارع، واقتل، وادع واستدع، واستحسن، واستهجن، إذا راق ذلك في نظرك، إني سأقرّ بأن صوتك هو صوت المسيح إذ يقيم في جسدك ويتحدث، وإذا كنت استحق الموت فلن
أرفض أن أموت” ( ). يظهر من هذا الخطاب مدى المعاناة والصعاب التي أحاطت بمسيرة (لوثر) والإصلاح الديني، فليس غريباً أن نلحظ تباين فاعلية دعوات الإصلاح وتباين مواقف (لوثر) وتأرجحها بين هبوط وصعود، بين هدوء وخضوع من جهة، وصخب وتمرد من جهة أخرى، تبعاً لجملة الظروف الموضوعية والذاتية التي تحدد شكل الموقف الذي يتعيّن عليه اتخاذه، وبالفعل أدت بعض العوامل الموضوعية إلى القيام بمهمة رائدة في دعم مسيرة الإصلاح الديني و (لوثر) في مواجهة البابوية، وتجذير روح الانفصال والتمرد عنها، فقد رفض المجلس النيابي الإمبراطوري طلب للبابا فرض ضريبة على ألمانيا لتمويل حملة عسكرية جديدة ضد الأتراك، كما سجل المظالم التي كانت تهيئ الدعامة التي قام عليها فكر (لوثر). ووصف أحد النواب هذا القرار بقوله: ” إنّ مثل هذا الرفض الجريء للمطالب البابوية لم يعرف قط في تاريخ ألمانيا” ( ) الأمر الذي أذكى روح الثورة بين الأمراء مما حدا بـ (ماكسمليان) أن يكتب إلى روما، ينصح بالحرص في معاملة (لوثر)، مع إظهار وعده للتعاون مع روما في القضاء على الهرطقة. ومن جهة ثانية كان في تسامح (ليو العاشر) واعتداله تعزيزٌ لانتصار الإصلاح الديني البروتستانتي( ).أما (لوثر) فلم يجد بدّاً من ضرورة تحقيق الإصلاح الديني في عالم البابوية ومؤسساتها الكنسية والزمنية، فبعث بخطاب تاريخي أكثر اعتدالاً إلى الدوق (جورج) طالب فيه بضرورة الإصلاح: ” يجب القيام بإصلاح ديني عام للطبقات الروحية والزمنية”( ) وهذه هي المرة الأولى التي يستخدم فيها الكلمة التي أضفت على ثورته اسمها التاريخي ـ (حركة الإصلاح الديني) ـ ومن النتائج المترتبة على الانتصارات التي حققتها حركة الإصلاح الديني، أن اتخذت الإمبراطورية والبابا مواقف توفيقية من قضية صكوك الغفران ولا أدل على ذلك من المحاولة التوفيقية التي قام بها (ليو) لتفسير صكوك الغفران بقوله: ” إنها لا تمحو الآثام والذنوب ولكنها تعفي فحسب من العقوبات الدنيوية التي فرضتها الكنيسة أما إطلاق سراح الأرواح من المطهر فإنّ سلطة البابا محدودة بصلواته التي يبتهل فيها إلى الله أن يمنح روح الميت البركة الزائدة للمسيح والقديسين” ( ).
لقد كتب (لوثر) إلى البابا رسالة يعلن فيها خضوعه التام، فردّ عليه (ليو) بروح ودية ودعاه للحضور إلى (روما) ليدلي باعترافاته في وقت لم يكن فيه (لوثر) على يقين تام، فيما إذا كان البابا مناهضاً للمسيح أم أنه رسوله، وخلافاً (لميلانكتون) الذي يُؤْثر المسالمة والتراخي، فإن (لوثر) قد آثر الصراع أحياناً، الأمر الذي جعله يؤنب (ملانكتون) أحيانا بقوله: ” أنه حليم أكثر مما يجب”( )، في حين يرى في نفسه أنه خُلِق للحرب والقتال مع الأحزاب والشياطين، وأن كتبه عاصفة، خليقة بمحارب، أما الأستاذ (فيليب شفا رتسرت) ـ ميلانكتون ـ فإنه يسير في رفق وهدوء ( ).
غير أن (لوثر) لم يكن وحيداً في الدعوة إلى الإصلاح الديني، فإلى جانب (ميلانكتون) ثمة أستاذة آخرون في (فيتنبرج) من أساتذة الإصلاح الديني كانوا أكثر شهرة منه، فـ (أندرباس بوندينشتيان) ـ المعروف باسم (كارلشتادت) ،أستاذ كرسي الفلسفة التوماوية واللاهوت كان قد سبق احتجاج (لوثر) التاريخي في 13 إبريل عام 1517م بنشر 152 مقالاً ضد صكوك الغفران وكان في بادئ الأمر معارضاً لـ (لوثر) ولكنه سرعان ما تحول إلى نصير غيور حتى لقد قال عنه الثائر العظيم: ” إنه أشد تحمساً مني للأمر” وأخذ (كارلشتادت) في دفاعه عن رسائل (لوثر) بـ أربعمائة وست قضايا منطقية في إحداها أول بيان محدد بالألمانية عن الإصلاح الديني الألماني وعن سلطة الإنجيل العليا على مراسيم الكنيسة وتقاليدها، وفيما بعد قرر (لوثر) الانضمام إلى (كارلشتادت) في المباراة اللاهوتية في تحدًّ مع (إيك) المناهض للإصلاح الديني البروتستانتي آنذاك، ليقرر أن المجالس المسكونية يمكن أن تخطئ وأنّ كثيراً من آراء (هس) كانت صحيحة، فمهاجمة (إيك) لـ (لوثر) كانت تستند في مبدئها إلى الادعاء بأنه يردد وجهة نظر (هس) التي أدانها مجلس (كونستانس) المنعقد سنة 1415م. فقد تمكّن من الوصول إلى غرضه الحقيقي وهو أن يستدرج (لوثر) إلى أن يرتكب بنفسه ” جريمة هرطقة محددة” فقد تحول الإصلاح الديني من خلاف صغير حول صكوك الغفران إلى تحدّ كبير للسلطة البابوية في العالم المسيحي، وعليه فقد أوصى (إيك) السدّة البابوية بحرمان (لوثر) من غفران الكنيسة وفي الوقت نفسه لم يعدم (لوثر) أنصاراً مدافعين عنه أمثال (جوهان هولتشوهر) و (لازاروس) و (شبينجلر) و (فيليبالد بيركهايمر) و (ديرر) وجميعهم من المثقفين وأنصار الدعوة إلى الإصلاح الديني ،كما أطلق علماء الإنسانيات وابلاً من الكتيبات تطعن في البابوية بكل ما استوعبه العصر من نقد جارح، وهذا (أولريخ فون هوتن) يحيّي (لوثر) كمحرر لألمانيا وشرع قلمه منذ ذلك الوقت للدفاع عن الإصلاح والتحريض على إحياء العصبية القومية والانتقام (لهنري الرابع الذي حكم من 1056م ـ 1106م) في صراعه مع البابا (جريجوري السابع الذي حكم من 1073م ـ1085م) وكان اسمه الكاردينال (هلد براند) في إهداء مقدم إلى الإمبراطور الشاب (شارل الخامس)، إشارة إلى أن ألمانيا تتوقع منه أن ينتقم لإذلال (هنري) وهزيمته، كذلك وضع أولوية تحرير ألمانيا من روما، على الحرب مع الأتراك، فاعتلى صوت التمرّد لديه بوصفه لروما بأنها “دودة ضخمة تمتص الدماء”( ). وصرّح بأن البابا ” زعيم لص وأن عصابته تحمل اسم الكنيسة.. وروما بحر من الدنس وحمأة من القذارة وبالوعة ليس لها قرارا من الظلم. ألا يجدر بنا أن نتقاطر من كل حدب وصوب لنقوم بإزالة هذه اللعنة الشائعة التي حاقت بالبشرية؟
لقد وجدت دعوة المصلح الديني (لوثر) مؤازرة من الأمير المختار (فريدريك) و(هوتن) و (كارلشتادت) وغيرهم الأمر الذي جعل (لوثر) يغير في خطابه الإصلاحي في ربيع عام 1520م فيقابل التطرف بالتطرف، فنصح الأمير (فريدريك) باستيلاء السلطة الزمنية على كل ثروة الأديرة وأوضح الوجوه السامية التي يمكن لألمانيا أن تنفق فيها الأموال التي ترسل سنوياً إلى روما ( ) وكتب يقول موجهاً الحديث للباباوات والكرادلة: ” .. وإذا كنّا نقضي على اللصوص بالمشانق ونضرب أعناق الناهبين بالسيوف ونلقي بالهرطقة في النار فلماذا لا نهاجم أيضاً بالأسلحة أساتذة الدمار هؤلاء، أعني : هؤلاء الكرادلة وهؤلاء الباباوات وكل هذه البالوعة من سدوم الرومانية التي أفسدت كنيسة الرب بلا حدود ونغسل أيدينا في دمائهم” ( ) .
هكذا أخذت تطغى روح التمرّد القومية على كتابات (لوثر) في عدائه للبابا وروما، ففي يونيو عام 1520م. كتب إلى (سبالاتان) وهو لاهوتي ألماني وعضو
( مجمع أوجسبرج ) المنعقد في عام 1530م بين الكاثوليك والبروتستانت، يقول: ( لقد ألقيت النرد… وأنا احتقر الآن غضب الرومان بقدر ما أحتقر رضاهم، ولن أهادنهم إلى الأبد… فليدينوا ويحرقوا كل ما يمت لي بصلة… وأنا في مقابل هذا سوف أفعل لهم الكثير… إني لم أعد اليوم أخشى أحداً وسوف أنشر كتاباً باللغة الألمانية عن الإصلاح المسيحي وهو موجه ضد البابا بلهجة عنيفة، كما لو كنت أوجهها إلى مناهض للمسيحية( ) .
(لوثر) الثائر:
لقد أعلن (لوثر) نهاية عهد التسامح ونشر أول كتيب من الكتيبات التي كوّنت برنامج الثورة الدينية، وتطور أسلوب اللغة لديه، فبات يكتب كوطني ألماني خطاباً باللغة الألمانية مفتوحاً وموجهاً إلى أشراف الأمة الألمانية من المسيحيين، بشأن إصلاح طبقة رجال الدين، وشمل نداءه ” استغاثة بالنبيل الشاب” (شارل الخامس) فقال: ” وأنعم به الله علينا ليكون زعيماً لنا وبهذا ينعش في كثير من الأفئدة آمالاً كباراً في الخير” ( ) ثم هاجم (لوثر) الجدران الثلاثة التي شيّدتها البابوية حول نفسها وهي التمييز بين رجال الأكليروس والمدنيين، وحق تفسير البابا للكتاب المقدس على هواه، وحقه المطلق في دعوة مجلس عام للكنيسة، وطالب (لوثر) بهدم كل هذه الدعاوى، ورأى أن ليس هناك فرق حقيقي بين رجال الأكليروس وبين المدنيين، فكل مسيحي يُنَصَّبُ قساً بالتعميد وعلى الحكام الزمنيين أن يمارسوا سلطاتهم دون عائق بغض النظر إذا كانوا يسيئون إلى البابا أو الأسقف أو القس، كذلك من حق كل مسيحي أن يفسر الكتب المقدسة طبقاً لما يراه، كما يجب اتخاذ الكتاب المقدس طبقاً لما يراه، ويجب اتخاذ الكتاب المقدس مرجعاً أخيراً للعقيدة. كما أنه ليس هناك نص في الكتاب المقدس يخوّل البابا الحق في الدعوة لمجلس كنسي عام، أما إذا كان يستهدف بالحرمان من غفران الكنيسة، أو التحريم، أن يمنع مجلساً فإننا يجب أن نستخف بسلوكه كأنه تصرف رجل مجنون، ونقذفه بحرمان معتمدين في ذلك على الله ونقمته بقدر الإمكان.
ثم يشتد هجوم داعية الإصلاح على البابا فنعته بأنه أكبر لص وسارق ويتساءل لماذا لا نلحق العقاب بالشّره الروماني؟ فيقول: ” إن روما هي أكبر لص وقاطع طريق ظهر على وجه الأرض أو سيظهر، فيا لنا من مساكين نحن الألمان، لقد خدعنا، لأننا خلقنا لنكون أسياداً، فاضطررنا لأن نحني رؤوسنا تحت نير الظالمين، لقد حان الوقت لكي يمتنع الشعب التوتوني العظيم عن أن يكون لعبة بين يدي روما ( ).
إن أفكار (لوثر) اللاهبة كانت بمثابة الفتيل المشتعل للثورة في ألمانيا وأجزاء من أوروبا، ليجد نفسه بعد ذلك يقف على مفترق طرق مع الجماهير الثائرة الغاضبة حول طبيعة الأسلوب المستخدم لتحقيق الحرية والاستقلال، لدرجة جعلته يتراجع عن مواقفه وإدانته المعلنة لاستخدام أساليب العنف، ونبذه للثورة، والعودة بأفكاره نحو المطالبة بتحقيق إصلاح ديني ومدني بالوسائل السلمية بعيداً عن العنف المستخدم من قبل عامة الناس، وهكذا بات ينظر إليه على أنه دفع بالأمور إلى ساحة المعركة بخطاباته وكتاباته اللاهبة فأوقد نار الثورة، ثم تراجع إلى الصفوف الخلفية في الصراع مع أعداء الإصلاح، ليبدي الأسف والندم والشعور بالخطيئة من جراء مشاهدة القتل والتدمير دون طائل.
ولم يكتف وقتذاك بتغيير مواقفه ونبذه للعنف، وإنما وقف إلى جانب الأمراء وآزرهم في القضاء على جموع الفلاحين الثائرة لِيُطرح في نهاية المطاف سؤال هام، أين يمكن تصنيف (لوثر)؟ هل مع الثورة؟ أم مع الأمراء؟ وما هو الأسلوب الأمثل لتحقيق الإصلاح المنشود؟ ستظهر الإجابات على تلك الأسئلة في بحثنا لمواقف (لوثر) في مراحل الصراع المختلفة مع أعداء الإصلاح الديني في ألمانيا وروما.
أفكار (لوثر):
دعا (لوثر) الألمان إلى إنشاء كنيسة قومية تحت زعامة كبير أساقفة (ماينـز) وإلى ضرورة تخلص رجال الدين الألمان من تبعيتهم لروما، ووجوب أن يُسمح للقساوسة بالزواج، وأن لا تؤخذ عهود الرهبنة قبل سن الثلاثين، كذلك يجب أن تلغى التحاريم والحج وشعائر القدّاس على أرواح الموتى، والعطلات، ما عدا أيام الآحاد، بالإضافة إلى دعوة الكنيسة لمصالحة (الهسيين) في (بوهيميا)، أما الهراطقة فيجب أن يتم التغلب عليهم بالكتب لا بالحرق( ) وأما القانون فيجب توحيده بحيث يطبق على رجال الدين والمدنيين على حد سواء، وهذا يعني التخلي عن قوانين الكنيسة في الحكم، ومن المسائل التي دعا إليها الإطاحة بالبابا بقوله:” ثق بأن الله رب السماوات سوف يقوّض عرشك قريباً ويغرقه في هاوية الجحيم… يا سيدي المسيح أطلّ علينا من عليائك ودع يوم قصاصك يشرق ويدمر عش الشيطان في روما” ( ).
لقد نظر الحذرون إلى خطاب (لوثر) على أنه إفراط وتهور، بينما عدّه الكثيرون من بين الأعمال البطولية في تاريخ ألمانيا. وإن نضج الروح القومية الألمانية جعل (لوثر) يزرع بذرة الثورة في أرض خصبة في ألمانيا مثلما فعل (هس) في بوهيميا و (هنري الثامن) في إنجلترا يوم رفض أن يمتد السلطان البابوي إلى إنجلترا. وقد جسد ذلك بيان ثان بعد (خطاب مفتوح) باسم (الأسر البابلي) يذكر فيه أنه كما قاسى اليهود طويلاً من الأسر في بابل فإن الكنيسة كما أنشأها المسيح وكما نص عليها في العهد الجديد قد تعرضت للأسر عما يزيد عن ألف عام تحت حكم البابوية في روما، وخلال تلك الفترة تعرض دين المسيح إلى الفساد في الإيمان والأخلاقيات والشعائر، مما يوجب اتخاذ مواقف صلبة إزاء عديد من الممارسات الدينية الخاطئة فليس هناك قس يملك هذه القدرة الصوفية في استحالة الخبز والنبيذ إلى جسد ودم المسيح.
لقد دفعت الرغبة الشديدة في إصلاح الكنيسة وإصلاح الحكومة، كلاً من (لوثر) و (فر يدرك منتخب سكسونيا) على إصلاح الكنيسة، والحكومة على الرغم من الصعوبات التي تعرضا لها، ومنها أن الإمبراطور والبابا قد اتحدا معاً على مضادة الإصلاح( ) الذي لم يكتف بالدعوة إلى إجراء إصلاح ديني فحسب، وإنما إلى إجراء تغيير سياسي يطال الإمبراطور نفسه.
إسقاط القداس:
في كنيسة (جميع القديسين) في (فيتنبرج) كان يتلى سنوياً تسعة آلاف وتسع مئة قداس وقداس، ويحرق كل سنة خمسة آلاف وتسع مئة وثمانية وعشرون رطلاً وثلث رطل من الشمع، الأمر الذي كان يهيج غيظ (لوثر) فسمى تلك القداسات “هاوية مدنسة” معتقداً أنه لا يوجد إلا ذبيحة واحدة ترفع الخطية عن الناس هي (جسد المسيح ودمه) الذي بذله من أجل الإنسان، وعليه فلا نفع يرتجى من الذبائح التي تقدم في القداسات الدينية بقوله : ” إنه لا يوجد إلا ذبيحة واحدة ترفع الخطية، أي “المسيح” الذي قدم نفسه مرة واحدة عن الجميع، وبتلك الذبيحة نحن شركاء لا بالأعمال ولا بالذبائح ولكن بالإيمان بكلمة الله فقط” ( ).
أما الزواج فليس قرباناً مقدساً وعليه فإن ” زيجات الأقدمين لم تكن تقل قداسة عن زيجاتنا” ودعا إلى إحلال الزواج بين المسيحيين وغير المسيحيين، كما أباح للزوجة مضاجعة رجل غير زوجها إن ظهرت منه العنّة لتنجب طفلاً من غيره ومنحها الحق في طلب الطلاق إن هو رفض الاعتراف بالمولود كابن له، مما أثار سخط الكنيسة ورجال الدين عليه لأنه قد هدم الأسرة بآرائه الإباحية من وجهة نظرهم، التي مثلت خروجاً عن العقيدة المسيحية واستنكاراً واضحاً للتشريعات الكنسية المعمول بها آنذاك، ومنها قوله:” أن الشخص الوثني سواء كان رجلاً أو امرأة خلقه الله، كما خلق القديس بطرس والقديس بولس أو القديسة لوسي”(2) ،لكنّه ما لبث أن تراجع عن هذه الأفكار،فاتفقت نظرته إلى الزواج مع نظرة (القديس بولس) القائلة: بأنه خير للمرء أن يتزوج “فإن التزوج خير من التحرّق “(3)،وصرح بأنّ الجنس أمر فطري وضروري كالطعام، وعليه فقد سمح لواعظ الإنجيل بالزواج لأنه بلسم لذلك الجرح ويجعل الواعظ يعيش بعفة (4)، والزواج ضرورة لأنه “ترتيب الله، بينما العزوبة ترتيب الإنسان”(5) الأمر الذي أثار ضحك الناس وروما منه، فقرر أن يتزوج من الراهبة (كاترينا)، مما شجع المصلحين من بعده إلى الإقدام على الزواج، لأن الأسرة من وجهة نظره مؤسسة إلهية ولأن الإنسال واجب ديني( )، وأما الطّلاق فمأساة لا نهاية لها، ولعل تعدد الزوجات خير منه.(2)
وفيما يتعلق بمحاربة الخرافات والمفاهيم الشائعة المؤلهة للبابا فقد رفضها، وطالب البابا (ليو العاشر) ألا يستمع إلى تلك الأقوال المعسولة التي لا تجعل منه بشراً سوياً وترفعه إلى مصاف الآلهة، فكتب له يقول: ” لا يخدعك هؤلاء الذين يدعون أنك سيد العالم” (3). وإزاء تلك المواقف المعلنة لـ (لوثر) يطالعنا سؤال هام هو: ” هل تكلم الأستاذ (لوثر) عن الشخص البسيط، الذي لم يحظ بفرصة للحديث عن نفسه حتى ذلك الحين؟”( 4).
لقد أعطى (لوثر) الانطباع عن الإنسان الذي انتقد الظلم داخل الكنيسة، بقوة اكثر من أي لاهوتي قبله، وقد وجد الحماية من الأمير المحلي (5)،أما بالنسبة لتحديد رجال اللاهوت الكاثوليك لموقع لوثر من الكنيسة، فيتلخص بأن (لوثر) بنى اعتقاده وقناعاته خارج الكنيسة بالرغم من رغبته لتجنب ذلك، بينما يستحب اللاهوتيون البروتستانت القول بأن (لوثر) حاول إعادة وضع نفسه داخل الكنيسة الحقيقية، التي هي ليست كنيسة البابا، وفجأة وجد نفسه الناطق الرسمي باسم مجموعة من المصالح المختلفة (6).
لقد دافع (أرازموس) عن دعاوى (لوثر) وإن لم يؤيده بجميعها، إذ أكد أمام الأمير (فريدرك) أن هناك عيوباً صارخةً في الكنيسة، يجب عدم قمع الجهود التي تبذل لإصلاحها،أما أخطاء (لوثر) من وجهة نظر (أرازموس) فيمكن حصرها في خطأين اثنين “أنه هاجم البابا في تاجه، والرهبان في بطونهم”(7) ، وبينما كان في السابق يُدان أي شخص من دون محاكمة عادلة، فقد وعد الإمبراطور الأمراء المختارين، كشرط لانتخابه، ألاّ يُدان ألماني من دون محاكمة عادلة في ألمانيا.
لقد تشبّث (مارتن لوثر) بآرائه جميعها، ولم يظهر استعداده لسحب أي منها ما لم تدينه آية من الكتاب المقدس أو الحجة الواضحة، مبدياً رفضه لسلطة الباباوات والمجالس الدينية لأنّ كلاً منها يناقض الآخر، وأن ضميره أسير لكلمة الله، ومخالفة الضمير ليس من الصواب والأمن في شيء.
التهم الموجهة إلى (لوثر):
قدم الإمبراطور للمجلس النيابي المسودة التي أعدها (ألينا در) عن منشور (ورمس) وفيه يتهم (لوثر) بأنه: “دنس الزواج، واستخف بالاعتراف، وأنكر وجود جسد الرب ودمه، ثم إنه يجعل القربان المقدس يتوقف على إيمان من يتناوله، إنه وثني في إنكاره للإرادة الحرة، .. إن هذا الشيطان الذي يرتدي مسوح راهب قد جمع الأخطاء القديمة في بركة آسنة منتنة، بل وابتدع أخطاءً جديدة، أنه ينكر سلطة الرؤساء ويشجع المدنيين على أن يغسلوا أيديهم من دم رجال الدين، وتعاليمه تدعو إلى العصيان والانقسام والحرب والقتل والسرقة والحرق عمداً، وإلى انهيار العالم المسيحي وهو يحيا حياة بهيمية، لقد أحرق المراسيم البابوية، أنه يحتقر الحرمان من غفران الكنيسة والسيف على السواء… أما كتبه فيجب أن تمحى من ذاكرة الإنسان” ( ) .
إن تحدي (لوثر) لرجال الدين في (ورمس) وبقاءه على قيد الحياة جعل أتباعه يتيهون إعجاباً به( ) ، لقد هاجم الطلبة وأصحاب الحرف في (أرفورت) البيوت في الأبرشيات وهدموها وأتلفوا مكتبات ومحفوظات وقتلوا عالماً بالإنسانيات وفي ذلك العام 1521م هجر الرهبان الأوغسطينيون في (أرفورت) الدير وبشروا بالعقيدة اللوثرية ونددوا بالكنيسة الكاثوليكية ( ).
مبادئ اللاهوت البروتستانتي:
طالب (ميلانكتون) في أول عرض منهجي للاهوت البروتستانتي من زميله
(كارلشتادت) رئيس الشمامسة في كنيسة القلعة بأن يتلى القداس باللغة الوطنية، وأن يتم تناول النبيذ والخبز دون أن يسبق اعتراف أو صوم، ويجب أن ترفع الصور الدينية من الكنائس. وأن يتزوج رجال الدين من رهبان وقساوسة، وأن ينجبوا، أما (سابلتان) فقد وقف بصورة تخالف التقاليد إذ كان يسلّم بأن الغريزة الجنسية أمر طبيعي لا يمكن قمعه ويعلن أن عهود الرهبنة من غويات الشيطان وأنها تضاعف الآثام.
وكان من شأن المبادئ البروتستانتية في الإصلاح الديني أن أعادت الاعتبار للحياة الدنيوية للناس فقد تناول (ميلانكتون) القربان المقدس بكلتي الطريقتين الكاثوليكية والبروتستانتية في سبتمبر 1521م. وبذلك تحقق لأنصار الإصلاح الديني المسيحي في بوهيميا، النصر، كما توقفت تلاوة القداس في دير (لوثر)، ثم خرج ثلاثة عشر راهباً من الدير يوم 12 نوفمبر وتقدموا للزواج وسرعان ما خلت قرابة نصف أديرة ألمانيا على أثر خروج مماثل .
أما (كارلشتادت) فقد أقام القداس باللغة الألمانية في عيد الميلاد منذ عام 1521م وهو يرتدي ملابس مدنية ودعا الجميع إلى تناول القربان المقدس بأخذ الخبز في أيديهم والشرب من كأس القداس، كما تخلى عن الثياب الكهنوتية وارتدى معطفاً رمادياً بسيطاً ،واستغنى عن الألقاب وطلب أن يدعى (الأخ إندرياس) ورفض قبول مرتب عن قيامه بالخدمة الدينية، وعمل على كسب عيشه بالمحراث ورفض كل استخدام للعقاقير، وفضّل الصلاة على الدواء، ودافع عن تعدد الزوجات باعتباره أمراً لم يحرّمه الإنجيل، وتبنى وجهة نظر رمزية محضة فيما يختص بالقربان المقدس( )، بينما قام (لوثر) بترجمة الإنجيل إلى الألمانية، ثم نشر العهد القديم بنفس اللغة بعد عمل دائب استمر أكثر من اثني عشر عاماً وسط كفاح دائم في مجال علم اللاهوت، ودافع بشدة عن اللغة الألمانية لغة الشعب الألماني المفضّلة لديه، فجاءت ترجمة الإنجيل باللغات الوطنية لتواكب عصر ولادة الحركة القومية، وليس بخاف للمطلع على لاهوت (لوثر)، أنه كان موجهاً ضد النظام الكاثوليكي وممارساته وطقوسه أكثر منه ضد العقيدة الكاثوليكية، وقد حذا في ثورته حذو (ويكلف) و (هس) ولم ينتهج أي منهج جديد مغاير لنهجيهما.
أما ثورته فتكمن في رفضه للبابوية والمجالس الدينية والمراتب الكهنوتية،أو الاهتداء بشيء أخر للعقيدة غير الكتاب المقدس وقد وصف البابا بأنه مناهض للمسيحية ووجد الحماية في رحاب الدولة من أميره المحلي، ويعد تواصل الفكر من (ويكلف) إلى (هس) إلى (لوثر) الخيط الرئيس للتطور الديني من القرن الرابع عشر إلى القرن السادس عشر، وأما مفهوم الله عند (لوثر) فكان مفهوماً يهودياً فقد آمن بأن الله قد أغرق كل البشر تقريباً في الطوفان وأنه أحرق (سدوم) وأهلك الأراضي والناس والإمبراطوريات بنفثة من غضبه وإشارة من يده، بينما ” قلّة قدر لها أن تنجو وأن كثرة كثيرة لحقتها اللعنة إلى الأبد” ( ) . فقد سلط الله الوحوش المفترسة والديدان والنسوة الخبيثات على الناس عقاباً لهم على خطاياهم.
وأما معرفة الله عند (لوثر) فتنحصر بتعبيره : “نحن لا نعلم شيئاً عن الله إلاّ أنه قوة مدركة كونية موجودة، أما الجنة والجحيم فقضية مسلم بها، وأما الملائكة فعبارة عن أرواح كريمة لا أجساد لها، وأما نهاية العالم فستكون مبكرة ” ( )
استخدام العنف البروتستانتي:
في 3 ديسمبر سنة 1521م دخل بعض الطلبة وسكان المدينة في (فيتنبرج) وهم مسلحون بالمدى (كنيسة الأبرشية)، وطردوا القساوسة من المذابح، ورجموا بعض المصلّين،أمام تمثال (مريم العذراء)، لكن استخدام أسلوب العنف لم يلق تأييداً من (لوثر) فقد دعا إلى نبذه والابتعاد عن العصيان، وتجاوز المحتوى الطبقي للثورة بهدف كسب النبلاء إلى جانبها، وفي ذلك خير لخدمة الإصلاح، بينما العنف يولد العنف ويذهب الإصلاح أدراج الرياح، وعليه فتوجه إلى الفلاحين وجميع الأفراد بالدعوة لتحاشي الالتجاء إلى القوة، فالله منتقم جبار، ومما يبرر رفض اللجوء إلى العصيان أنه ” … غير معقول وهو بصفة عامة يضر الأبرياء أكثر مما يضر الآثمين، لذلك فإن العصيان ليس من الصواب في شيء ولأن الأضرار التي ينتجها تتجاوز قدر ما يتم من الإصلاح، وحتى لا يؤدي إلى الوقوع في ظلم فظيع على يد عبد يتخلص من قيده فلا يميز بين الخبيث والطيب، وفي هذا يلتقي (لوثر) مع (أرازموس) الذي يدعو إلى نبذ العنف وإحلال السلام، في الوقت نفسه عبر (لوثر) عن تعاطفه مع المظلومين بقوله: ” إن عواطفي ستكون دائماً ولسوف تظل مع أولئك الذين يوجّه التمرد ضدهم”( ) في الوقت الذي دعا فيه (جابرييل تسفيلينج) أحد زعماء الطائفة الأوغسطينية مستمعيه إلى إحراق الصور الدينية وهدم المذابح حيثما وجدت.
وانطلق أنصار الإصلاح الديني و (لوثر) من أن المرجعية العقدية لهم هي الإنجيل وحده، وأعلن (منتسر) و (نيكولاس ستورك) والعالِم (ماركوس ستيبز ) ، أنهم وحدهم مؤهلون ليكونوا مفسرين الكتاب المقدس من خلال اقتناعهم بأنّه يوحى إليهم من الروح القدس، التي تأمرهم بأن يؤجّلوا (العماد) إلى حين بلوغ سن الرشد، وبأنّ القربان المقدس لا يكون له أثر إلا بالإيمان وهو أمر لا ينتظر من الأطفال.
أما رأيه في القسس ـ وهو أعظم مادة ثورية في لاهوت (لوثر) ـ فيستند إلى ضرورة تجريد القس من منصبه وإباحته للقساوسة الحصول على راتب لا بصفتهم موزعين لا غنى عنهم للقربان المقدس،أو باعتبارهم وسطاء بين الله والناس،ولكن بصفتهم خادمين للوفاء بحاجات الأبرشية الروحية، ومن ثم إباحة زواج القساوسة وأن عليهم أن يكدحوا مع الآخرين في الحياة اليومية،فالرجل الذي يجرّ المحراث، والمرأة التي تشتغل في المطبخ يعبدان الله خيراً مما يفعله الراهب وهو يتمتم بصلوات غير مفهومة في تكرار يجلب النعاس( ).
الداعية الثوري:
في كتابه ضد النظام الديني، الذي أطلق عليه اسم (النظام الروحي للبابا والأساقفة) دمغ البطاركة ووصفهم بأنهم (أكبر الذئاب) جميعاً وناشد الألمان الصالحين أن يطردوهم بالقوة. وإنّ لجوء (لوثر) إلى تبني منطق الثورة والعنف إنما جاء كمحصلة لتطور الأحداث ومحاولة الخصوم إسكاته بمختلف الأساليب فكتب يقول: ” كان من الخير أن يقتل كل أسقف وأن تقتلع جذور كل مؤسسة أو دير، فما فائدة هؤلاء الذين يعيشون غارقين في الشهوات ويتغذون بعرق الآخرين وكدحهم؟ فماذا يستحقون غير ثورة عارمة تكتسحهم من فوق الأرض؟ إن كلّ من يتبرع بالجسد أو بالمتاع أو الشرف للقضاء على حكم الأساقفة هم أطفال الله الأعزاء ومسيحيون صادقون” ( ).
لعل (لوثر) كان محافظاً كما تبين في السياسة والدين، حيث أراد أن يعود بالناس إلى المعتقدات والرسائل الأولى، وكان يدّعي أنه ممن يردّون الأشياء إلى أصولها وأنه ليس مبتدعاً، وقد حرّم الرّبا فاتفق مع الكنيسة على إدانة الرّبا، اعتقاداً منه بأنه من عمل الشيطان لما ينطوي عليه من استغلال الدائن للمدين.
أما التجارة فمهنة مرذولة، وعليه فقد أظهر أسفه لنمو التجارة الخارجية واحتقر الأسلوب التجاري للأشخاص الذين يشترون السلعة بثمن رخيص ويبيعونها بثمن غال، كما ندد بالمحتكرين الذين يتآمرون لرفع الأسعار ووصفهم بأنهم “لصوص ظاهرون للعيان” وتمنى على السلطات أن تصادر ما يملكون وتطردهم من البلاد، وكتب رسالة عاصفة عن “التجارة والربا” عام 1524م. واتهم فيها الأمراء بالشراكة مع التجار والمحتكرين مردداً القول “لقد أصبح الأمراء رفاقاً للصوص” وأنهم ليشنقوا اللصوص الذين سرقوا (جولدن) ولكنهم يتاجرون مع من يسلبون العالم بأسره، وهكذا يشنق اللصوص الكبار صغارهم. أما عقوبتهم الأخروية فيجسدها القول:” أمراء وتجار، لص مع أخر، لسوف يصهرهم الله معاً كما يصهر الرصاص والنحاس أو كما تحترق مدينة” ( ) الأمر الذي أدى إلى سخط الأمراء عليه،واتهموه بأنه يقف وراء تمرّدات الفلاحين ضدهم.
نهوض الثورة:
ترقب (الفرسان) الفرصة المواتية للثورة على الأمراء والبطاركة والممولين، في وقت كانت فيه أراضي الكنيسة مباحة يمكن الاستيلاء عليها بسهولة، ثم جاءت دعوة (هوتن) مترافقة مع دعوة (لوثر) الشعب الألماني إلى الثورة، وتطهير الأرض من مضطهديه، غير أن الثورة قد فشلت وخضع الفرسان للأمراء، بينما استمر نجم (لوثر) في الصعود، وإقبال الرهبان والقساوسة بكثرة على الزواج، ثم تردّدت كلمة “الله” في كنيستي (لورنز) و(زيبالدوس)بـ(نورمبرج)وهي العبارة التي أطلقها المصلحون على عقيدة الكتاب المقدس.
أما دور الوُعّاظ الإنجيليون فقد تحدد في تشييد مقابر جديدة والاستيلاء على المقابر القديمة، وباتوا يندّدون بالسادة الزمنيين باعتبارهم مبتدعين ظالمين، مما أدى إلى ازدياد أتباع (لوثر) من قبل العديد من السادة الزمنيين حتى أن (إيزابيلا) شقيقة الإمبراطور كانت من أتباع (لوثر) أما المجلس النيابي فقد بعث برد على مندوب البابا ( كلمنت السابع ) (الكاردينال لورزو كامبيجيو ) الذي كلّف بنقل طلب القبض على (لوثر) في يناير 1524م. بأن أي محاولة لقمع الحركة اللوثرية بالقوة سوف تنتهي بـ ” ثورة وعصيان ومذبحة ودمار شامل” ( ) .
وبعد أن أخفقت الثورة وكان (لوثر) وقتها يناصر الأمراء ضـد استخدام الفلاحين للعنف. عاد من جديد إلى مناصرة الفلاحين، فندد بمواقف الأمراء والسادة الإقطاعيين من الإنجيل وظلم الناس ،وبالتالي فإنهم يستحقون أن يهزموا من قبل الله، وإذا تمكن الفلاحون أن يكونوا حملة ضمير جيد، فسوف يقف الله معهم، حتى إذا تعرضوا لمعاناة الهزيمة والموت لفترة من الزمن فسوف يفوزون بالنصر في النهاية، “فالضمير الحي قبل التوجه إلى الله يعتبر الشيء الرئيس ” (2) ـ للإنسان ـ.
إن الشدائد والمظالم التي تعرض لها الفلاحون جعلتهم يقومون باثنتي عشرة ثورة مما خلف اضطراباً محموماً في أذهان ونفوس الفلاحين، وازداد شدة بتحدي (لوثر) للبابا والكنيسة والأمراء، وجعْلهِ من كل إنسان قساً وإعلانه حرية الإنسان المسيحي، وشكلت طباعة الكتاب المقدس “العهد الجديد” بالألمانية تحدياً لرجال الدين عندما كشف عن شيوعية الرسل وعطف المسيح على الفقراء والمضطهدين، وعلى ذلك فقد كانت هزيمة رجال الدين شرطاً لانتصار الثورة البروتستانتية، كذلك وجد الفلاحون والكادحون في الكتاب المقدس ضماناً إلهياً مقدساً لإلغاء الملكية الخاصة وتوريث الفقراء الأرض، وعلى الرغم من الدور الذي لعبه (لوثر) في إذكاء روح الثورة لدى الفلاحين إلا أن الأسباب الحقيقية لقيام الثورة تكمن في المظالم التي حاقت بطبقة الفلاحين أساساً، وبفضل إنجيل (لوثر) ـ أي الترجمة الألمانية التي قام بها (لوثر) للإنجيل ـ وأتباعه من المتطرفين، فقد تحول استياء المضطهدين إلى نزعات طوباوية وإلى عنف وانتقام شديد.
وفي خضم هذا الصراع وجدت بعض النظريات التي تدعوا إلى العدالة الاجتماعية، بل وحتى الشيوعية، طريقها إلى الظهور، (فتوماس منتسر) أحد واعظي (الشتدت) يرى: “أنّ كل شيء على المشاع ويجب أن يوزع حسب ما تقضي به الحاجة وطبقاً للاحتياجات العديدة للمجتمع، وكل كُنت أو بارون، يرغب عن قبول هذه الحقيقة بعد تذكيره بها في حزم يجب أن تقطع رأسه أو يشنق” ( ) وفي عام 1524م شكل (هانز ميلر) أحد قادة ثورة الفلاحين في ألمانيا عام 1525م. رابطة “الأخوة الإنجيلية” وعلى رأسها (منتسر) بناء على إيحاء وتعهد بتحرير المزارعين في أرجاء ألمانيا، ورفعت شعارات ترفض الضرائب التي تفرضها الدولة، وضرائب العشور الكنسية، والضرائب الإقطاعية، متخذين من أسلوب الكفاح الإيجابي منهجاً نظرياً وعملياً لهم بآن معاً، فقد أقسموا على الحرية أو الموت وكانت الصيحة التي أطلقها (منتسر) بين رجاله هي ” إلى الأمام والحديد لا يزال ساخناً واجعلوا سيوفكم دائماً ساخنة بالدماء” ( ).
المبادئ الاثني عشرة :
أشهر الفلاحون اثني عشر مبدأً منحوا لأنفسهم بموجبها حرية انتخاب رعاتهم وإبطال العشور والرق والغرامة على الإرث وحق الصيد براً وبحراً، وقطع الحطب وكانت كل طلبة مقرونة بآية من الكتاب المقدس” ( ).
صيغت المبادئ الاثني عشر، في مارس 1525م فأشعلت لهيب الثورة في ألمانيا ومن هذه المبادئ: القوة والسلطان والسلطة والسياسة للزعيم المختار من الجماعة وحقها في عزله ـ وفي ذلك إرساء لأساس هام من أسس الديمقراطية. أما ضريبة العشور فيجب دفعها بطريقة صحيحة، وتوكل مهمة جمعها إلى رئيس الكنيسة الذي تعينه الجماعة ويمنح منها الراعي مرتباً متواضعاً وكافياً لمعيشته وأسرته وأن يوزع الباقي على الفقراء والمحتاجين الذين يعيشون في القرية نفسها، أما ضريبة العشر الصغيرة مثل الماشية فلن تدفع على الإطلاق، وإنّ ما يتفق وتعاليم الكتاب المقدس هو أن نكون أحراراً ولسوف نكون أحراراً هكذا. أما الخضوع للحكام فيجب أن يكون عن طواعية والحكام المختارون والمعيّنون بمشيئة الله في جميع الأمور المسيحية، ولا ريب أنهم سوف يعملون على تحريرنا من نير العبودية أو يرونا في الإنجيل أننا أرقّاء، كذلك الشكوى من تزايد الخدمات من يوم إلى آخر، وفحص الأراضي المستأجرة من قبل أناس من الشرفاء وتحديد الإيجار العادل، لأن كل عامل يستحق أجره، كذلك ملكية المراعي يجب أن تكون كما كانت عليه يوماً ملكاً للجماعة… بالإضافة إلى العمل على إلغاء الضرائب المفروضة على الفقراء إلغاءً تاماً ولن نتحملها ولن يسمح بنهب أموال الأرامل والأيتام على هذا النحو المخجل، وأخيراً التراجع عن أي خطأ في هذه البنود إذ أيدت لنا أياً من أدلة الكتاب المقدس بطلانه( ).
الموقف المضاد من الثورة:
طرأت تبدّلات جذرية على مواقف (لوثر)، فمن داعية ثوري إلى داعية إصلاحي
ثم إلى مُعارض لاستخدام العنف سبيلاً لتحقيق مطالب الفلاحين، فقد تمثل موقف (لوثر)
بكتيب نشر في إبريل عام 1525م، وعنوانه:”تنبيه إلى السلام” وفيه يثني على عرض الفلاحين الخضوع لأي قصاص، ينص عليه الكتاب المقدس، وفيه دفاع ضد التهم الموجهة إليه بأنه أشعل نار الثورة فأنكر مسؤوليته عنها، فقال: إنه كان يحث الناس على الخضوع للسلطة الدينية ولكنه لم يسحب نقده للطبقة الحاكمة. وأن الإصلاحية في فكره تستمد مبادئها من الكتاب المقدس، ثم توجه بالنصح إلى الأمراء والسادة الإقطاعيين لكي يعترفوا بعدالة كثير من بنود المبادئ الاثني عشر، وحثهم على اتباع سياسة تتسم بالرأفة، في وقت توسل فيه إلى الفلاحين كي يحجموا من استخدام العنف وعن الانتقام، لأن العنف سيجعل الفلاحين في وضع أسوأ مما كانوا عليه من قبل، وتنبأ بأن أي ثورة سوف تَصِم بالعار حركة الإصلاح الديني، وأنه سوف يُلام على كل شيء، لأن حرية الإنسان المسيحي هي حرية روحية لا تتعارض مع العبودية ولا الرق.
في حين اتخذ (ميلانكتون) موقفاً سلبياً من مطالب الفلاحين فقال: ” إن الفلاحين – مذنبون – وهو يدعو ضدهم جميع الشرائع الإلهية والبشرية… وإذا كانت المعاملة اللينة لا تفيد، فيجب على الولاة أن يلقوا القبض عليهم كأنهم لصوص وقتله… ولكن فليشفقوا على اليتامى عندما يصلون إلى القتل” ( )،أما المساواة بين الناس جميعاً كما نصّ عليها البند الثالث من مبادئ الثورة، فأمر مستحيل لأن مملكة دنيوية لا تستطيع أن تقف على قدميها ما لم تكن هناك درجات متفاوتة بين الأشخاص بحيث يكون البعض منهم أحراراً والبعض مسجونين والبعض سادة والآخرون رعايا.
الحل الوسط:
أما حل المشكلات فيمكن أن يتحقق من خلال تبني الدعوة إلى الحل الوسط لحسم جميع الأمور بطريقة ودية بمشاركة بعض الأشراف والكونتات واللوردات، ولتحقيق هذا الغرض فقد توجه (لوثر) إلى السادة الحكام بالدعوة للتخلي عن عنادهم وأن يقلعوا قليلاً عن طغيانهم واضطهادهم حتى يتنفس الفقراء ويجدوا متسعاً للعيش، وكان قد حذّر الأمراء ليحرصوا من الآثار الناجمة عن سوء الحكم على عموم الناس( 1) فقال مخاطباً الأمراء والأساقفة:”إنّكم أنتم علّة هذا العصيان فإنّ صراخكم ضد الإنجيل وظلمكم الأثيم للفقراء هما اللذان أوقعا الشعب في اليأس، فليس الفلاحون يا سادتي الأعزاء هم الذين يقومون ضدكم، بل الله نفسه هو الذي يقاوم جنونكم، وإنما الفلاحون بيده آلة لإذلالكم” (2) ،في المقابل على الفلاحين أن يعلّموا أنفسهم ويتخلوا عن بعض المطالب التي ترتفع عن مستوى فهمهم وإدراكهم(3)، ورأى أنه لأجل تقوية الإصلاح لا بد من تهذيب الفتيان وتحسين المدارس وإذاعة المعرفة الضرورية لدرس الكتب المقدسة بتعمق في كل العالم المسيحي(4) ،ومثل هذه المواقف وما سيليها تفسر مدى قرب (لوثر) من الأمراء وابتعاده عن الفلاحين الذين طالما وقف إلى جانبهم، ومحاولة تكريسه لسلطة الحكام وعدم الإطاحة بهم، ثم دعوة الفلاحين للخضوع والامتثال لسلطة الأمراء، ناعتاً إياهم بالقصور والسلبية، وغياب الوعي الصحيح لديهم.
وبناءً عليه فقد رفض في البدء العصيان وتوجه بمخاطبة الفلاحين من قمة (الوارتبرج) بالمواعظ النصوحة لعلها تسكن عقولهم المضطربة فقال: “إن العصيان لا يحدث التحسين الذي نرغبه وهو مشجوب من الله” (5).
ثم تجذّر موقف (لوثر) المعارض لممارسات الفلاحين العنفيّة، ففي منتصف مايو 1525م. وضع كتيباً عنوانه: ” معارضة لجموع الفلاحين التي تقوم بالسلب والقتل” ينتقد فيه ممارسات الفلاحين الذين وعدوا أن يسلكوا الطريق المستقيم وأن يتعلموا، لكنهم تصرفوا كالكلاب المسعورة فنهبوا وسلبوا… فيجب وضع خطاياهم أمام أعينهم وعلى الحكام أن يتعلموا كيف يسوسون أنفسهم.
(1)-Mackinnon,J. Luther & the Reformation, Vol. III. P.176 .
(2)-دوبينياه، ميرل، تاريخ الإصلاح في القرن السادس عشر، ص66 (3)- Mackinnon,J Luther & the Reformation, Vol. III. P. 244 . (4)-دوبينياه، ميرل، تاريخ الإصلاح في القرن السادس عشر، ص55
(5)- المرجع نفسه، ص61
وكان (لوثر) يجزم بإمكان تحقيق الإصلاح دون اللجوء إلى الثورة المسلحة، لأن الثورة تأتي معها بأرض مليئة بالقتل وسفك الدماء، وترمّل النساء وتيتّم الأطفال، وتقلب كل شيء رأساً على عقب، فيخاطب الفلاحين : “ضعوا نصب أعينكم أنه لا شيء أكثر فتكاً أو ضرراً أو خبثاً من الثورة ” ( )، ولعل أصول موقف (لوثر) مستمدة من أحداث ورد ذكرها في الكتاب المقدس لتبرير إدانته للعنف وضرورة التسامح، مثلما تصرف “المسيح” يوم شهر أحد تلامذته السيف وقطع أذن أحد المكلّفين بالقبض عليه فوبخه راجياً له المغفرة وأعاد أذنه إلى رأسه ،إيماناً منه بأنّ ما يؤخذ بالسيّف بالسّيف يؤخذ .
ردود الفلاحين:
استهجن الفلاحون موقف (لوثر) وأحزنهم هذا التحول وعدّوه خائناً واستمروا في الثورة، فصعّدوا من وتيرة نشاطهم في وجه السلطات الدينية والزمنية، واقترحوا العمل على تصفية أملاك الكنيسة للوفاء بالحاجات الدنيوية، وإلغاء كل الرسوم للنقل والرسوم الجمركية، وألاّ يُستخدم في كل أنحاء أوروبا إلا نوع واحد من السكّة، ونظام واحد من الأوزان والمكاييل.
وفي ربيع عام 1525م اشتعلت الثورة، وتم الاستيلاء على السلطات الإدارية وطرد القساوسة من بعض الكاتدرائيات وتحطيم التماثيل الدينية، فتخلّت المدن الخاضعة للسيادة الإقطاعية عن ولائها لهم، ونادت المدن الخاضعة للأساقفة بإنهاء امتيازات رجال الدين، الأمر الذي حدا بعدد ليس بقليل من السادة والأساقفة ورجال الدين من الرتب الدنيا الذين كانوا يمقتون السلطة الكهنوتية إلى الانضمام للثورة، في وقت رحّبت فيه معظم المدن قلبياً بثورات أهالي الريف.
فشل الثورة:
لم يُقَدّر لثورة الفلاحين النجاح أمام زحف جيوش الخصوم التي تفوقهم عدداً وتنظيماً وتسامحاً، كذلك كان معظم الرجال في قوات الدوقات من الجنود المدربين بينما لم يكن الفلاحون منظمين، ولم يكن بحوزتهم إلا الأسلحة البسيطة، بالإضافة إلى تفشي الاضطراب في صفوفهم، وأعدم (بفيفر) ـ أحد قادة الثورة ـ وباقي القواد، وأُعفي عن الجنود مقابل دفع فدية، وأصبح هواء المدن تشيع فيه رائحة الموت( )- نظراً لشدة آلاف القتلى، بينما استمرت الثورة في النمسا عام 1526م لمدة عام بزعامة (ميكائيل جاسماير) الذي قدم أعظم البرامج الثورية ضد الكفرة من غير البروتستانت.
لقد هلكت ثورة الفلاحين حيث هلك نحو 130.000 منهم و تم تنفيذ حكم الإعدام في 10.000 رجل تحت حكم ( السوابية (،وعلى الرغم من إخفاق الثورة، إلا أنها تألقت بألوان وأفكار بروتستانتية، وأصبحت التطلعات الاقتصادية تغلّف بعبارات أضفى عليها (لوثر) مسحة من القداسة، أما الشيوعية فلم تكن إلا مجرد عودة إلى الإنجيل، وبالرغم من إدانة (لوثر) لاستخدام أساليب العنف من جانب الفلاحين، فإن (شارل الخامس) يفسر “الثورة” بأنها “حركة لوثرية” أما المحافظون فقد نظروا إلى نزع البروتستانت ملكية رجال الدين بمثابة أعمال ثورية، مثل نهب الفلاحين للأديرة، وفي هذه الأثناء أُطلقت عبارات السخرية والتهكم والتصغير على (لوثر) فقد نعته البعض
بـ ” الدكتور الكذاب” و ” المنافق صنيعة الأمراء”( ) وظل سنوات بعد الثورة لا يحظى بأي شعبية فكتب يقول: “هاهم السادة والقساوسة والفلاحون يتجمّعون كلهم ضدي ويتوعدونني بالموت” ( ) . وقد أقسم من بقي من حزب (منتسر) بإعدام حياته، أما الأمراء الذين قدّر لهم أن يحموه فقد تركوه. فـ (شارل الخامس) نفسه عقد بحقه مجمعاً جديداً قاصداً من ورائه أن يضرب الإصلاح ضربة مميتة. تلك الحروب الداخلية جعلته يتنهد ويئن، فكيف يقاوم كل هؤلاء الأعداء الكثيرين؟ ( ) .
إن المواقف الوسطية لـ (لوثر) هي التي جعلت كلاً من الأمراء والفلاحين يسخطون عليه، غير أن المواقف المتطرفة التي تعرض لها من الفلاحين جعلته يتخذ أشد المواقف تطرفاً في مواجهتهم، فقد أجاز قتل الفلاحين الثائرين وانقلب إلى خصم لهم في 30 مايو عام 1525م، كما أجاز استخدام الأمراء للعنف، في مواجهتهم بوصفهم ينفذون مشيئة الله حسب الكتاب المقدس، ألم يأثم (شاؤول) ( )بإبداء الرحمة لـ (عماليق) عندما فشل في تنفيذ غضب الله كما أمر؟ وكتب يقول: ” في رأيي أنه من الخير أن يقتل الفلاحون جميعاً ولا يهلك الأمراء والحكام لأن أهل الريف امتشقوا السيف دون أن يعتصموا بسلطان إلهي”( ).
إن هذا التبرير في تأييده للحكام هو شبيه بالتبرير لثورة الفلاحين في مراحل معينة عندما اعتبرهم ينفذون مشيئة الله في حربهم ضد الأمراء. وفي خطاب مفتوح ضد الفلاحين يقول: ” إن الفلاحين لن يصيخوا السمع، ففي آذانهم وقر ويجب أن تفتح بطلقات الرصاص حتى تقفز رؤوسهم من فوق أكتافهم، إنّ من لا يستمع إلى كلمة الله عندما ترتّل برفق، يجب أن يستمع إلى الجلاد عندما يأتي ومعه الفأس.. وأنتم يا من ترفعون عقيدتكم مطالبين بالرحمة.. لماذا لم تُبدوا الرحمة للأمراء والسادة الذين أرادوا أن يقضوا عليهم قضاءً مبرماً ؟ ” ( )
إن دعوة (لوثر) الإصلاحية تكشف عن نفسها بجلاء، في خطابه الموجه إلى أحد الشخصيات الهامة في زمانه: “إن الشيطان يظهر غيظه والأحبار المنافقون يتآمرون ونحن مهددون بالحرب، فحث الشعب لكي يحاربوا بشجاعة أمام عرش الرب بالإيمان والصلاة، حتى إذا اضمحل أعداؤنا بروح الله يلجئهم الحال إلى السلام، فإن أعظم احتياجاتنا وأعظم
أتعابنا هي الصلاة فدع الناس يعرفون أنهم الآن معرضون لحد السيف وحنق الشيطان ولنحثهم على الصلاة” ( ) كذلك اتجه إصلاح (لوثر) جوهرياً إلى مضادة العنصر اليهودي، فاضطر أن يجاهد لَمّا قام راهب البابا ليتجر في خلاص النفوس، ذلك أن العنصر اليهودي والعنصر الوثني اليوناني الذي قاومه (زونجلي) في سويسرا، قد أثرا في المذهب البابوي الروماني، الأمر الذي جعل الإصلاح ينصبّ على تنقية الكنيسة البابوية من العنصر الوثني الذي جعل من القديسين والقساوسة أنصاف آلهة:” فالعنصر اليهودي إذا كان قد تغلب على الخصوص في ذلك الجزء من التعليم المسيحي الذي يتعلق بالإنسان، فإن المذهب البابوي كان قد قَبِل من المذهب اليهودي الأفكار (الفريسية)في تبرير الإنسان نفسه والخلاص بواسطة القوة والأعمال البشرية” ( ).
لقد أراد (لوثر) إصلاحاً تاماً بينما أراد (أرازموس) أن “لا يموت الذئب ولا يفنى الغنم”فاجتهد في نوال مصالحة الرياسة والشعب، وكان لتقلبات (أرازموس) بعزم ومناقضته لنفسه، أن أغاضت (لوثر) فقال: ” إنك ترغب أن تمشي على البيض من دون أن تكسره، وعلى الزجاج من دون أن تسحقه”( ) وبناء عليه، فقد آثر (أرازموس) أن يبقى ضمن الكنيسة الكاثوليكية بعد تحررها وإصلاحها في حين عمد (لوثر) بين 1520م ـ 1528م إلى تنظيم كنيسة (ساكس) البروتستانتية، فجاء تنظيمها نموذجاً نسجت على منواله الكنائس الإنجيلية الأخرى التي قامت في مقاطعات، (هس) و (بروسيا) و (أسوج) و(الدنمارك)،إذ رأى أن السلطة ـ سلطة الكنيسة ـ هي رسالة إلهية “تقوم على خدمة الله وعلى المسيحي أن يخضع لهذه السلطة” ( ) .
موقف (لوثر) من العلم والفلسفة:
بعكس تصور (أرازموس) لـ (شيشرون) وكأنه شخص ملهم من الله. وقوله:
– أرازموس – ” تغلبت على نفسي بكل صعوبة لأمنعها من أن تنطلق بالصراخ: [يا قديس (سقراط)، صلّ لأجلنا] فإن (لوثر) قد حكم بالهلاك الأبدي على (سقراط)، كما أنه سفّه العقول الكبيرة التي لمعت في عهد الوثنية بعد أن رأى في فضائلها سفاهات، وفي أعمالها الخيرة الصالحة خطايا لأنها عطّلت الله ـ في نظره ـ من القدرة على أن يؤمّن لوحده خلاصنا. “فقد انحدروا إلى أدنى دركات الحقارة وانحطوا إلى أقصى درجات البغضاء في بلوغ فضائلهم الذروة من التسامي، لأنهم نزعوا على أبشع صورة من السرقة والاختلاس، مجد الله ليتباهوا هم به”( ).
ويمضي إلى القول: “..إن الحركة الشافية في الكنيسة لا تصدر مطلقاً عن رايات فلسفية ولا أفكار بشرية محضة.. فإن التحقيق والفلسفة والتاريخ، قد تعدّ الطريق للإيمان الحقيقي ولكنها لا تغني عنه، فباطلاً تعزل مجاري المياه وتصلح الآبار ما دام المطر لا ينـزل من السماء، فكل العلم البشري من دون إيمان إنما هو كقناة من دون ماء” ( ).
ولم يكتف (لوثر) بهذا الموقف، فقد عمل على إبطال المقياس الإنساني لمبدأ (أرازموس) وإحلال المقياس الإلهي محله والازدراء بالعقل ووصفه إياه بـ “هذا العاهر”( )، وازدراء الحكمة الإنسانية التي هي غير نافعة، وغير ناجعة على حد سواء.
كذلك فقد كان يعد رجل المصير المكتوب والعبودية المتطرفة، فقال بالحرية المستعبدة عام 1525م. خلافاً لما ذهب إليه (أرازموس) إذ يقول: “إما أن تكون عبداً للخطيئة، وإما أن تكون خادماً لله”( ) .
وهكذا فطريق الإصلاح رهن باستئصال القوانين والمراسيم والفلسفة والمنطق من جذورها في سبيل إحلال أمور أخرى محلها، فاليقين والاطمئنان اللذان يبلغهما العقل خادعان، والله لا يهمّه أن يعرفه العقل فهو القدرة الكلية، فحتى يتمكن المرء من سماع نداء الله الذي هو نداء شخصي تماماً ينبغي له أن يشعر بضيقه المطلق وعدمه. فما يميز الإيمان اللوثري، هو رغبته في تملك الله، فالله من أجل الإنسان، يقول (لوثر) ” لو أن الله كان جالساً وحده مثل حطبة في السماء لما كان الله” ( ) .
إن صورة العلاقة بين الإنسان والله يحددها (لوثر) على نحو أن الإنسان إذا كان عدماً أمام الله، فالله خلافاً لذلك لا يمكن أن يكون الله من دون الإنسان، كما أن السيد ليس سيداً من دون خدمه، ولا الأب أباً من دون أولاده( ).
أولريخ زونجلي والإصلاح البروتستانتي في سويسرا :
شهدت سويسرا-المكونة من ثلاث عشرة مقاطعة-في القرن السادس عشر مجموعة من الشخصيـات تدعـو إلى إجـراء إصـلاح ديـني وسياسـي عـام فـي معظم أرجـاء سويسرا ، ومـن أبـرز تلك الشخصيـات (زونـجلي) ، (هالـر) *
(أزوالد ميكونيوس) (أكولامبديوس) ( ليوجودا) و (كابيتو) وقد كان زونجلي واحداً من أهم هؤلاء المصلحين الذين تتلمذوا في دراستهم لعلم اللاهوت على يدي اللاهوتي السويسري (توماس وتنباخ) الذي لم يكن يخفي عن تلاميذه أخطاء كنيسة روما مبشّراً بالإصلاح من خلال دعوته بالعودة إلى الإنجيل والإيمان بوحدانية التضحية التي جسدها المسيح بنفسه عندما تعرض للموت على خشبة الصليب،بقوله:” إن الساعة لا بد آتية وهي ليست بعيدة، فيها يطرح علم اللاهوت المدرسي جانباً، وتنهض من جديد تعاليم الكنيسة الأولى” وأن موت المسيح هو الفدية الوحيدة عن الإنسان ( )،هذه الأقوال وغيرها، أسهمت في تعميق الوعي بضرورة قيام إصلاح ديني عام في الكنيسة الكاثوليكية، والعمل من أجل إنشاء كنيسة المسيح الأولى التي لا تتبع لأحد سوى المسيح نفسه، وقد عزز هذا الوعي مشاهدة (زونجلي) لنتائج السياسة العميقة والعادة الذميمة التي تدفع بجيوش المواطنين السويسريين لخوض غمار معارك لحساب ممالك أخرى، ولفض منازعات بين روما وخصومها لا مصلحة لسويسرا بها، فبأمّ عينيه رأى كثيراً من مواطنيه الشجعان يذبحون ويجندلون صرعى فيما وراء الألب، في سبيل الدفاع عن بابا جشع طماع عديـم الإيمان، وقد أثّر في نفسه رؤية هذه المشاهد، وملأته بالغيظ والسخط الشديد، فارتفع صوته للتنديد بهذه العادة وقد أفلح في جعل كثير من المقاطعات في التخلي عنها، وكان ما قد رآه في إيطاليا – هو نفس ما رآه (لوثر) من قبل –( ) من كبرياء وأُبهة الأساقفة وجشع وجهل القساوسة واستباحة الرهبان للمحرمات أن عزز الإيمان لديه بضرورة محاربة مفاسد روما وبلاطها البابوي على السواء، فاعتلى المنبر و دعى بعزم وتصميم إلى العمل ضد تلك المفاسد، وإلى تخليص الكنيسة من المساوئ التي ألمت بها والانطلاق من الكتاب المقدس في محاكمة جميع الأمور والقضايا الدينية ولكن بطريقة هادئة نسبياً إذا ما قورنت بطريقة (لوثر)( ) .
صحيح أن التركيز على إصلاح مؤسسة الدين المسيحي كان من القضايا الجوهرية في خطاب (زونجلي) في سويسرا، لكنّ نمو الروح القومية لدى السويسريين، بخاصة بعد نجاح المقاطعات السويسرية في صدّ الهجوم الذي قام به (شارل الجسور) عام 1477م قد
أزداد إلى حد شجع على مقاومة المحاولة التي قام بها (مكسمليان) لإخضاعها اسماً وفعلاً للإمبراطورية الرومانية المقدسة ( ).
وعليه فقد اجتمعت إرادة الانفصال السياسي والديني عن روما مع إرادة إصلاح الدين المسيحي وتخليصه من المفاسد التي ألمت به من جراء الهيمنة البابوية عليه، تلك الهيمنة التي اتسمت بالانحلال والفساد طيلة قرون من الزمن .
الآراء الإصلاحية لزونجلي:
ما هي أوجه الاتفاق والاختلاف بين (زونجلي ولوثر وكالفن)؟
اتخذ الإصلاح الديني في سويسرا مظهراً يختلف نوعياً عن مظهره في ألمانيا
ـ بزعامة (لوثر) ـ فبينما عارض (لوثر) كسر الأيقونات في (كنائس فيتمبرج)،كانت الأصنام تتساقط في هياكل (زيورخ)( ) في حضرة (زوينكلي) وبينما آثر (لوثر) أن يبقى متحداً مع كنيسة الإعصار السابقة وأن ينقّيها من كل ما هو مضاد لكلام الله، فإن (زونجلي) تجاوز ذلك فرجع إلى الأزمان الرسولية واجتهد في أن يرد الكنيسة إلى حالتها الأصلية محدثاً تغييراً تاماً فيها ( ).
وبينما توجه (لوثر) في إصلاحه إلى محاربة العنصر اليهودي في العقيدة، فإن (زونجلي) ركز جهده على محاربة العنصر الوثني الذي جعل من القديسين أنصاف آلهة نتيجة القول بإله غير متناه ، ويتفق (زونجلي) مع (لوثر) في قبول اللاهوت الأساسي للكنيسة، القائم على أساس التسليم بوجود إله ثلاثي التوحّد والقول بهبوط (آدم وحواء) من الجنة وتجسد الأقنوم الثاني، بصورة إنسان، وولادة العذراء والتكفير، ولكنه فسر (الخطيئة الأصلية) ليست على أنها إثم ورثناه من (آبائنا الأوائل) “ولكن على أنها نزعة غير اجتماعية تكمن في طبيعة الإنسان” ( ) خلافاً لفهم (لوثر) و (كالفن) الذي تكون الخطيئة الأصلية بمقتضاه استمراراً لخطيئة (آدم وحواء) حتى أخر إنسان يولد.
أما ما يتعلق بالخلاص فقد أظهر (زونجلي) اتفاقاً في الرأي مع (لوثر) بأن الإنسان لن يستطيع أبداً أن يحصل على الخلاص بالأعمال الصّالحات فقط، بل يجب أن يؤمن بالقدرة التكفيرية لموت المسيح المقترن بالتضحية ( ). وعلى أساس هذا الفهم فقد
أعلن – كما أعلن (لوثر) – عن الخلاص المجّاني القائم على الإيمان بالمسيح بدون أي استحقاق لأي حج أو نذر أو تقشف أو صك غفران، مركزاً على أن الله مصدر الخلاص وأن الله هو، هو، في كل مكان بقوله: “لا تتصوروا أن الله موجود في هذا المعبد أكثر من وجوده في أي مكان آخر في الخليقة، إنه مستعد أن يسمع صلواتكم وأنتم في بيوتكم كما وأنتم في ( أينسدلن ) ـ وهي مدينة سويسرية ـ هل تستطيع سفرات الحج الطويلة أو التقدِمات أو الصور أو التشفّع بالعذراء أو القديسين، أن تحصل لكم على نعمة الله؟ ماذا تعني أو تفيد الكلمات التي نصوغها في صلواتنا؟. أية قيمة أو كفاية يمكن أن تكون لقلنسوة لامعة أو رأس محلوقة ناعمة، أو رداء فضفاض طويل، أو حذاء مطرّز مذهّب…؟ الله ينظر إلى القلب ولكن، و أسفاه قلوبنا بعيدة عنه” ( ) وعليه فقد أخذ (زونجلي) مواقف ضد مزاعم بائع صكوك الغفران (شمشون) وضد أخلاقه الشخصية الأمر الذي قضى على مهمة (شمشون) بالفشل مما دفع به إلى الرحيل بعد أن كُلّف (زونجلي) مع آخرين بطرده من الكنائس( ) التي يتردد عليها
لقد وجد الإصلاح الديني في (زيوريخ وجنيف) سبيله إلى الحياة قبل ظهور أفكار (لوثر) ببضع سنين وقد ساعد في ذلك سيادة السلطة الزمنية على السلطة الدينية، مما جعل الطريق ممهداً أمام ظهور دعوة (زونجلي) ووضع الأسس المختلفة التي تزيل الخلاف بين الكنيسة والدولة، وتجدر الإشارة إلى أن (زونجلي) قد تمكن مع والده من أن يكوّن نزعة إنسانية وأفقاً متسعاً ـ أسهم فيهما (أرازموس) رائد النـزعة الإنسانية في أوروبا في القرن السادس عشر وأستاذه (توماس فتنباخ)، تميز بهما بجلاء عن كل من (لوثر) و(كالفن)، وليس بخاف مدى الأثر القوي لثورة (لوثر) ورسائله ورسالة (هس) عن الكنيسة، في نفس (زونجلي)، فقد هاجم الرهبانية والمطهر، والتوسل بالقديسين، وبرهن على أن دفع ضرائب العشور للكنيسة يجب أن يكون بمحض الاختيار لا بالإكراه وفقاً لتعاليم الكتاب المقدس( )
ومن شأن نظرة فاحصة أن تظهر حقيقة آراء (زونجلي) الإصلاحية التي يمكن إجمالها في منح الإنجيل أهمية قصوى بوصفه المرجع الأوحد والأخير للعقيدة المسيحية ،بغض النظر عن رضا الكنيسة أم لا، فهو مصدر الحقيقة بأكملها في وضوح وجلاء، ذلك أن (المسيح) هو الكاهن الأعظم الوحيد الخالد، وعليه فلا قيمة ترتجى من الكنيسة إذا ما قورنت بالإنجيل نفسه، يقول زونجلي: ” إن الإنجيل هو دستور الإيمان الوحيد وإنّ الزّعم بأنه يتوقف على موافقة كنيسة روما هو زعم خاطئ، إن المسيح هو رأس الكنيسة الوحيد والتقاليد جميعها يجب أن ترفض” ( )، وهذا الفهم ينطوي على انكسار للسلطة المقدسة للبابا، الذي جعلت منه الكنيسة الكاثوليكية وريثاً وحيداً للمسيح، أما التقاليد فهي من وجهة نظر (زونجلي) بدع دخيلة على الدين المسيحي يجب رفضها، ومنها القداسات وتناول القرابين المقدسة فيها، فالعشاء الرباني ليس ذبيحة بل هو فقط تذكار لذبيحة المسيح، وأن الأطعمة لا قيمة لها ( )، وعليه يمكن تناول الطعام في جميع الأوقات، مما جعل الكنيسة الكاثوليكية في روما والبابا ينظران إلى هذه المواقف وغيرها على أنها هرطقة يجب معاقبة (زونجلي) عليها بأشد العقوبات قسوة، و(زونجلي) بموقفه هذا يمثل افتراقاً عن موقف كل من (لوثر) و (كالفن) اللذين يقولان بوجود نوع من الشراكة بين العناصر المادية للخبز والنبيذ والعنصر الروحي المتمثل بحلول روح السيد المسيح فيهما فترة مراسم القداس، حلولاً سرياً غير ظاهر للعيان، في حين تؤكد العقيدة الكاثوليكية باستحالة العناصر المادية للقربان المقدم إلى جسد ودم المسيح نفسه استحالة كاملة، وهو ما يجعل منه قرباناً مقدساً.
أما الموقف من وسائل التكفير والغفرانات التي تفرض على الناس فهي عند (زونجلي) اختراع بشري لا قيمة له البتة في الحصول على الخلاص( )، وهذا إنكار صريح لطقس آخر من طقوس الكاثوليكية، التي أجازت لكاهنها البابوي سلطان مسح الخطايا وقبول الغفران، وبعد التفكير بواسطة الاعتراف والندم والتوبة. أن الله غافر الذنوب وحده، فلا قيمة للاعتراف السري من وجهة نظر (زونجلي) أما جهنم فهي حق والمطهر خرافة وهو مهنة مربحة لمن ابتدعوه، و (زونجلي) برفضه منح القرابين والكهنة سلطان الله في غفر الذنوب والخطايا، لم ينكر نفع القرابين المقدسة بوصفها رموز نافعة للتقرب من رحمة الله، وليست كمعجزة، وعليه فقد حافظ على القربان المقدس باعتباره جزءاً من الصلاة التي يقرّها الإصلاح الديني وناول القربان بالخبز والنبيذ معاً ولكنه لم يناوله إلاّ أربع مرات في العام، واستبدل به العظة الدينية في باقي السنة” ( )
أما الزواج، فإن الله لم يحرّمه على أي طبقة من المسيحيين، وبالتبعية فمن الخطأ تحريمه على القُسس الذين أصبحت عزوبتهم سبباً للاستباحة والأخلاق المنحطة ( ) وعليه فإن الزواج مباح لكل الناس، لأنه من مبيحات الله وأنه لا أساس للسلطة الروحية المسماة بـ (الكنيسة) في الكتب المقدسة وفي تعاليم المسيح.
أما السلطة الزمنية فتؤيدها تعاليم المسيح وسنّتَه، وتحريم الزواج الشرعي على القساوسة هو أعظم فرية ( ) وهو بهذا يلتقي مع (لوثر) و (كالفن)، أما الخلاص، فمصدره الإيمان بالله، لأن الله وحده المخلص والمنجي، وهو وحده يستطيع أن يغفر الخطايا ولا الخطايا ولا تتكلم كلمة الله عن شيء اسمه المطهر( ) وهذا إنكار آخر لمبدأ من مبادئ العقيدة الكاثوليكية التي ابتدعتها الكنيسة، وعليه يتوجب على جميع الرؤساء الروحيين أن يبادروا بالتوبة، وأن ينصبوا صليب المسيح وحده وإلا هلكوا ( )
أما ما يتعلق في حرية الرأي، فليس من الجائز اضطهاد أي شخص لأنه عَبّر عن آرائه الخاصة، بالمقابل يحق للحكومة أن تمنع نشر الآراء التي من شأنها إزعاج الأمن والسلام العام ( ) .
وبمقتضى ذلك يمكن لجمهور المؤمنين أن يقرروا بأنفسهم تفسير الآية وكيفية فهمها، أما الكنيسة فليست سوى مؤسسة ديمقراطية تذوب في الدولة الديمقراطية( )، وبذا أرسى مبدأ أساسياً من مبادئ الديمقراطية القائمة على احترام حرية الرأي والتعبير والفردية،وبذا فهو يلتقي مع (لوثر) الذي وقف ضد إعدام الهراطقة بمجرد اختلافهم في الرأي مع الكنيسة،وطالب بالتسامح معهم ومعاقبتهم بذات الوسيلة من خلال الكتاب والقلم. ويفترق عن (كالفن) الذي يُخضع الفرد خضوعاً تاماً لمراقبة سلطة رجال الدين وعدم السماح له بإشاعة أفكار تتناقض مع الكنيسة مما جعله يسهم في استصدار قرار بإعدام المفكر اللاهوتي (ميشيل سرفيتوس) .
ومما ينسب إلى (زونجلي) تشكيل هيئة من العلماء ورجال الدين لإعداد نسخة بالألمانية من الكتاب المقدس، كذلك إصدار الأوامر بالعودة إلى العهد القديم، الأمر الذي يعني عودة المسيحية البروتستانتية إلى تقاليدها اليهودية الأولى، وقد أمر مجلس مدينة (زيورخ) برفع كل الصور الدينية من كنائس المدينة امتثالاً للوصية القائلة: “لا تصنع
لك منحوتاً ولا صورة شيء مما في السماء من فوق ولا مما في الأرض من أسفل ولا مما في المياه من تحت الأرض” ( ) وهكذا تركز جهد (زونجلي) على محاربة العنصر الوثني في العقيدة الذي جعل من القديسين أنصاف آلهة بينما توجه إصلاح (لوثر) إلى محاربة العنصر اليهودي خلافاً له، ومضى (زونجلي) إلى أبعد من ذلك، حيث اقتصرت العبادات لديه في كثير من الأحيان على قراءة التوراة أو الموعظة الدينية )( )، لكن موقفه من تحطيم التماثيل تغير اقتناعاً منه بأنّ حجب التماثيل أو تحطيمها يعني فيما يعني اعترافاً ضمنياً بما تتلبسه التماثيل من قوة خارقة، قد يقود التطرف في التعامل معها إلى تشجيع الاتجاهات الوثنية لدى فئة كثيرة من الناس، فيتوجهون إلى التبرّك بها وعبادتها بعد نزع القداسة عليها. لذلك سمح للكنائس القروية في المقاطعات بأن تحتفظ بتماثيلها إذا كانت هذه رغبة جموع المصلّين، كونها في النهاية أعمالاً لا تضر و لا تنفع، من ناحية ثانية شكل مجلساً خاصاً في (زيورخ) عام 1524م. يتكون من ستة أعضاء لفض المشاكل العاجلة و الدقيقة التي تعاني منها الحكومة ( ).
وعلى غراره سيشكل(كالفن) مجلساً مصغراً من مجموعة أعضاء يطلق عليها اسم (الأعضاء المبجلين) أو (الجماعة الموقرة). للبتّ في أمور العقيدة و الحياة ولا يسعنا في اختتام الحديث عن (زونجلي) سوى القول بأنه كان رجلاً مفكراً نذر نفسه في سبيل المبادئ التي دعا إليها، فقتل من بين 500 رجل من أهل (زيورخ) سنة 1531م. وهو في السابعة و الأربعين من عمره ( ).
(جون كالفن) والإصلاح البروتستانتي في فرنسا و جنييف:
خلال السنوات الثمانية والعشرين، الواقعة بين وصوله الأول إلى جنيف في عام 1536م. وموته في عام 1564م عالج (كالفن) مسائل لا تحصى بوصفه بطل الإصلاح وداعيته في الخلاف مع الخصوم الكاثوليك الرومان وكمتأمل في النـّزاعات الداخلية، ومناصرتها في ألمانيا وسويسرا ،وكملهب ومشرف عام على النشاط التبشيري في موطنه الأصلي وأراضٍ غربية أخرى، وكدبلوماسي فعال للسياسات الدولية لفترة طويلة قبيل وفاته عام 1564م.فلم تعد (جنيف) مجرد مدينة للجوء الكثير من المضطهدين من الأصقاع المختلفة ، لكنها أضحت مركزاً لرئاسة الحركة البروتستانتية المشتبكة في حرب
بهذه الأراضي مع الكنائس في روما (1)،وهكذا بات في مقدورنا منذ عام 1529م تسمية حركة الإصلاح الديني الأوروبي باسم ( الحركة البروتستانتية) التي لم تتوقف عن التطور والتحول، فقد أصدر ملك إنجلترا (هنري الثامن) (قانون السلطة العليا) ووضع بذلك الأسس التي قامت عليها كنيسة قومية وطنية في إنكلترا، هي (الكنيسة الإنجليكانية)، الملك فيها هو الرئيس الأعلى للكنيسة مع كل ما يستتبع ذلك من سلطة روحية، أما الفرنسيون البروتستانت فقد وضعوا وثيقتين بروتستانتيتين هما “الأهاجي *التي ظهرت عام 1534م. و”المؤسسة المسيحية ” *
التي هي من وضع (كالفن) نفسه عام 1536م، فقد كان الفرنسيون البروتستانت قد لجأوا إلى مدينة (نيوشاثل) في سويسرا التي تلتزم بتعاليم (زونجلي) ونظرياته، بينما كان (كالفن) قد أثار من جديد مطالب الإصلاح البروتستانتي، مضيفاً إليها نظريات جديدة بعد تمكنه من تجنب ” المثالب التي وقع فيها كل من لوثير وزونكلي” (1).
فلسفته ونظامه الديني:
جعل (كالفن) جلّى همه ” الحفاظ على سلطان الله وسيادته” وهو بوصفه من أتباع الفلسفة الاسمية، يجزم أن الله تتعذر معرفته. هذه اللاعرفانية ترى أنّه يستحيل على العقل البشري تفهمه وإدراكه حتى ولو بالمجاز، فالصور التي نقيمها له وننحتها عنه في ضمائرنا هي حماقة لا أكثر ولا أقل فالكتاب المقدس وحده يوحي لنا على قدر ما نستطيع أن نفهم ونستوعب وفيه ما يكفي لإثارة الخوف والمحبة فينا… وبواسطة الكتاب المقدس وحده نتعرف إلى الله عن طريق يسوع المسيح وبيسوع المسيح مرآة الله، ولكن أنى لنا أن نعرف الله نفسه معرفة حقيقية، ولنفهم الكتاب المقدس حق الفهم يجب الاستعانة بالروح القدس لأنه يجعل الكتاب المقدس سهل التناول” (2). وعليه يصبح الكتاب المقدس المرجع الأعلى في الحياة كما هو الحال عند (لوثر). مع فارق جوهري بينهما يتمثل في إيلاء (لوثر) الأهمية للإنجيل على التوراة، بينما يرفض (كالفن) إيلاء التوراة منـزلة أقل شأناً من الإنجيل وإنما يساوي بينهما مساواة تجعل منهما كتاباً واحداً، ودرس (كالفن) القانون بغبطة شديدة ورأى أن القانون وليس الفلسفة أو الأدب هو أبرز نتاج فكري حققته البشرية ،وأنه يصوغ نوازع الإنسان الفوضوية ويحولها إلى نظام وسلام.
في ميدان اللاهوت:
نشر (كالفن) في ميدان اللاهوت “مبادئ الدين المسيحي” باللغة اللاتينية سنة 1536م وأعاد نشره معدلاً سنة 1539م، ثم ترجمه إلى الفرنسية عام 1541م، ويعد من أعظم ما أنتجته القرائـح تأثيراً في النـثر الفرنسي ، ومن خلاله حاول استمـالة الملك
(1)- موسنييه، رولان، تاريخ الحضارات العام،( القرنان السادس والسابع عشر )، ص 96
(2)-المرجع نفسه،ص97
(فرانسيس) ـ ملك فرنسا آنذاك ـ حيث استهلت الطبعة الأولى من الكتاب
بـ ” مقدمة إلى أعظم ملك مسيحي لفرنسا” (1)، وهي مقدمة تفيض بالمشاعر وبأسلوب رصين، وكان الأمر الملكي الصادر عام 1535م. ضد الفرنسيين البروتستانت ودعوته (لميلانكتون) و(بوسر) ـ وهما من كبار رجال الإصلاح الديني في ألمانيا ـ للحضور إلى فرنسا لترتيب تحالف بين الأمراء اللوثريين ضد (شارل الخامس) مع الملكية الفرنسية، أن هيأ لـ (كالفن) ظروف حوار جادة ـ مع الملك(فرانسيس) ـ ، يقول كالفن: ” لقد عرضت اعترافي عليك لكي تعلم طبيعة تلك العقيدة التي يستهدفها هذا الغضب … وإني لأعلم جيداً الدسائس الأثيمة التي ملأوا بها أذنيك لكي تبدو قضيتنا بغيضة جداً في نظرك… وأنت يا مولاي تستطيع أن تتبين الوشايا الزائفة وهي تفتضح كل يوم… نحن الذين لم يسمعنا أحد نفوه بكلمة واحدة تثير الفتنة، نحن الذين عرفنا طوال حياتنا أن نعيش حياة هادئة مستقيمة عندما كنا نعيش تحت حكمك ولم نكفّ عن الصلاة لك بالنجاح، ولمملكتك بالرخاء، وإني لأدعو الرب ملك الملوك أن يوطد عرشك بالعدل والتقوى، وأن يعم في مملكتك القسط والإنصاف ” (2) .
لقد كان كالفن رجلاً هائماً في حب الله، وكان يغلبه شعور بضآلة الإنسان وعظمة الله، أما الكتاب المقدس، فهو كلمة الله، وقد أظهر الله نفسه فيه، رأفة بعقل الإنسان، وعليه فالمرجع النظري الكالفاني هو التوراة، بوصفها السلطة السامية المعصومة عن الخطأ في جميع الأمور،أمّا موقفه من العقل فيتّضح من خلال وصفه له بـ “الزندقة، والانحراف والفجور ويصدر عنه ما هو فاسد وخبيث… إن العقل يظل دائماً متورطاً في النفاق والخداع، والقلب يظل عبداً لانحراف الباطني” (3 ) ويسلّم (كالفن) بأنّ حتمية القدر تتنافى مع العقل، وعليه فإنّ أي محاولة لتقصّي الأمور التي قرر الرب أن يخفيها عنا من جانب البعض لن تفلت من العقاب .
(1)-Calvin, John, Institutes Of The Christian Religion, Translated by Henry Bevridge, WM.B. Eerdmans, Publishing Company, Grand Rapids, Michigan, 1995, P. 3 .
(2)-Vide, Ibid., P.P.19 – 20 .
(3)-Calvin, John, Institutes Of The Christian Religion, Book 1, Chapter V.19
الكنيسة والدولة:
أما الكنيسة والدولة فهما مقدستان من وجهة نظر (كالفن) لأن الله خلقهما لكي يعملا في انسجام كالروح والجسد لمجتمع مسيحي واحد، ووظيفة الكنيسة تتحدد في وضع القواعد التي تنظم كل التفاصيل الخاصة بالعقيدة والعبادة والأخلاق وعلى الدولة أن تدعم هذه القواعد( ) باعتبارها ذراع الكنيسة الطبيعي… وأن الكلمة الطاهرة هي الوحيدة التي يجب أن يتعلمها ويتلقاها الناس( ) ، بينما الحكومة المثالية هي حكومة رجال الدين ويجب أن تعترف بالكنيسة التي تؤمن بالإصلاح الديني باعتبارها صوت الله.
إن مهمة الكنيسة يجب أن تنحصر في تدريب المؤمنين على القداسة والصّلاح لفئة أرستقراطية تتمتع بالحكمة لتفهم إرادة الله المسيطرة، أما الأساقفة فليسوا إلا رهبان حكموا بقوة سحرية يمتلكونها بأيديهم، بل بتفوقهم بالقداسة والمعرفة ( كطبقة مثقفة)، وعدم الصلاح على نحو ما يراه المصلح الديني يكمن في خطأ تأويل التوراة والإنجيل، وخلافاً للرؤية السابقة للكنيسة يؤكّد (كالفن) فهمه الخاص بها بالقول :” إننا على طرفي نقيض، نقرّ أن الكنيسة ربما تتشكل من صورة غير منظورة، وإنّ تلك الصورة لم تندرج في المظهر الخارجي الفخم الخاص بها …. لكنها ذات دلالة أبعد، أعني التعليم الخاص لكلمة الله والخدمة الصحيحة للأسرار المقدسة” (3) .
أما الدولة فيخضعها (كالفن) لسيادة الكنيسة، على أن تُشكَّل كنائس وطنية مستقلة، فقطع الصلة بالكنيسة الواحدة الجامعة، مما أدى إلى تقوية سلطة الدولة القومية على أساس طاعة أساقفة الكنيسة، والكنيسة هبة من الله، فقد أعطى الله في تحننه للبشر، الكنيسة، والكنيسة الحقيقية لا تقع تحت البصر” (4) فهي شركة كل الذين يعمل المسيح في وسطهم والذي يُجري فيهم روح القدس نعمته، إنّها شركة المعدّين منذ الأزل، أمّا الكنيسة المنظورة فتتمثل في اجتماع المسيحيين في مكان معين، الذين يؤلفون رغبة واحدة تحت إدارة القس أو الواعظ، ومن المهام المناطة بوجود الكنيسة، الحيلولة، دون عمل الهراطقة والخارجين عليها وتأثيرهم على المؤمنين، وتمنع انتشار الأخلاق الرديئة ووظائفها الرئيسة أربع وظائف، (أعمال المحبة، الوعظ وخدمة الأسرار، التعليم، والمحافظة على النظام) ،و خلافاً لتعاليم (زونكلي) حافظ (كالفن) على الأسرار ليس كمجرد ذكرى بل كشهادة حق على نعمة الله، والسر لا يعمل من ذاته حسب التعاليم الكاثوليكية، وإنما يعمل بتدخل مباشر من الله، فالله له كل سلطان وسيادة “والحق أن كنيسة السيد المسيح قد عاشت وسوف تعيش طويلاً مثلما سيتولى السيد المسيح أمر العالم باليد اليمنى للآب”(1). إنّ التجربة الأساسية لـ (كالفن) والمجددين من البروتستانت ترتكز على الحس الدقيق بإرادة الله المسيطر وسلطته، فالله هو الحاكم العظيم وكلّي القدرة والخلاص بين يديه، وأن الغاية من خلق الإنسان هي تمجيد الله والتمتّع بحضرته إلى الأبد. في المقابل يشجع (كالفن) تعميق الشعور القومي فالفرح الأسمى هو التضحية بالحياة والضمير في سبيل مجد البلاد، ومفهوم الحياة المسيحية عند (كالفن) يتلخّص في أن الله أعد الناس للخلاص والقداسة وخضوع شديد لأوامره، وما الحياة الصالحة إلا حافز من أجل تقدم الحياة الأخلاقية أما المتتبع لنظام (كالفن) فسيجده يبتدئ بالحكم الديني وينتهي إلى مفهوم الحرية المدنية، بل والديمقراطية في جانب منها، والحرية المسيحية هي أن يتحرر الإنسان من أوامر الإنسان،وفي وجوب الخضوع التام حرفياً لقانون الله، لقد تأثر (كالفن) بعقيدة التبرير والاختيار بالإيمان اللوثرية، وتأثر (بزونجلي) وبنظريته عن القربان المقدس، وأخذ عن (بوسر) الثنائيات المتضادة التي ينسبها لمشيئة الله باعتبارها سبباً لكل ما يحدث، وأنكر الإصلاح الديني الكالفاني من جديد ” النهضة” بأبعادها الفنية والأدبية، كما نجح في تحول آراء الناس من جديد إلى العالم الآخر ورفض انشغال علماء الإنسانيات بأفضلية الدنيا ،يقول: ” إذا كانت السماء وطننا فماذا بمقدور الأرض أن تكون سوى منفى؟ ألا تكون الدنيا لحداً، إذا كان الرحيل عن هذا العالم معبراً إلى الحياة” (2 ). وليس بخاف أن البروتستانتية تدين بالكثير من أفكارها إلى العهـد القديم بصفة عامة، ولعـل (كالفن) في
(1)- Robinson, J. H., Reading In European History, Vol. II,P.125.
(2)- Calvin, John, Institutes Of The Christian Religion, Book III,IX, P. 28
فكرته عن اختيار الله لبعض الناس أن يكون مديناً بها إلى الصيغة اليهودية في العقيدة ـ التي تقول بشعب الله المختار ـ فركز على الصفوة لأنه سواء كانت الصفوة معدمة أم لا، أرستقراطية أو وراثية، فأبناء الصفوة يصبحون بمشيئة الله من الصفوة بطريقة آلية.
إنجازاته :
تنحصر أهم إنجازات (كالفن) في إعادة تنظيم الكنيسة فقد عين المجلس الصغير القائم على شؤونها لجنة من خمسة من رجال الدين وستة من أعضاء المجلس يرأسهم (كالفن) لصياغة قانون كنسي جديد، ثم قسّم الخدمة الدينية بين كهان أبرشيات ومعلمين وشيوخ كنيسة من المدنيين والشمامسة.
كما عمل على تعميق دور الحياة الروحية وسيادة السلطة الدينية على السلطة المدنية، ثم عمل على تنظيم عملية الوعظ بموافقة من الجماعة المبجلة – المجلس الصغير – وموافقة مجلس المدينة وجماعة المصلّين والتأكيد على حظر الرسامات الأسقفية وتنصيب القساوسة، في الوقت الذي أصبح فيه القساوسة الجدد تحت رئاسة (كالفن) أقوى منهم في أي نظام للقساوسة عرف منذ القدم، وأصبح قانون الدولة المسيحية الحقيقي عند المصلح الديني هو الكتاب المقدس – بعهديه القديم والجديد – والمفسرون الحقيقيون لذلك القانون هم القساوسة، وعلى الحكومات المدنية الخضوع لهذا القانون ودعمه على نحو تفسير رجال الدين له، وعليه فالسيطرة والسلطة لرجال الدين على السلطات المدنية.
ويظهر من تعاليم (كالفن) وممارستها التشدد الكبير في التنفيذ إذ ادّعى لنفسه الحق في تنظيم العبادة الدينية وفرض السلوك الأخلاقي على كل ساكن، وإرسال قسيس أو شيخ للكنيسة لكي يزورا سنوياً كل بيت وكل أسرة، وحقهم في استدعاء أي شخص للمثول أمامهم، وزجر الآثمين أو حرمانهم من غفران الكنيسة، وكان حكمه المطلق حتى وفاته في عام 1564م يعتمد على الإرادة والخلق والإيمان وبهذه السياسة انتصرت الكنيسة على الدولة، لكن الإنسان الفرد كان ضحية لتلك السياسات بحيث ألغى فرديته وقاوم كل محاولة تصدر عن أي فرد من أفراد المجتمع للتعبير عن أفكاره ومعتقداته على نحو يخالف الكنيسة والتفسيرات المعمول بها.
سلطات رجال الدين:
تنحصر سلطات رجال الدين على النحو الذي رسمه (كالفن) في تنظيم العبادات وضرورة حضور جميع أفراد الأسرة باستثناء من يبقى لرعاية الأطفال وتربية الماشية، جميع عظات يوم الأحد، وعلى من يستطيع الحضور أن يحضر عظات باقي الأسبوع وتوجيه الإنذارات لمن يأتي متأخراً عن بدء العظة وإذا تكرر ذلك ” يدفع غرامة قدرها ثلاثة فلسات ” (1) وليس لأحد أن يُعفى من أداء الصلوات البروتستانتية، وإذا غنّى أحد أو رقص… يجب أن يوضع في السجن ثلاثة أيام وبعدها يرسل إلى المجلس(2). كذلك رفض الفردية في العقيدة وقاومها بشدة، كما حدث مع (سرفيتوس) الذي أمر (كالفن) بمعاقبته حتى الموت لإعلانه عن أفكاره في مسائل تختص بالعقيدة، أما عقوبة الهرطقة والسحر لمن تثبت عليه فالإعدام، لأنها إهانة للرب وخيانة للدولة، كما أصبحت الكاثوليكية هرطقة أيضاً،أما التميز بين الدين والأخلاق فأصبح ضعيفاً لأن حسن السلوك هو الهدف من العقيدة الصحيحة، وبات (كالفن) يحلم بمجتمع يدين بنظام صارم تسوده الفضائل وتحرسه وتجلل بالعار الكاثوليكية التي أثمرت حياة الترف والانحلال في روما، أما العمود الفقري للشخصية فهو النظام الذي يمكّن الفرد من الرقي بنفسه وتعاليه عن الشهوات وقهرها وجعل سلوكه مستقيماً، ورجال الدين يجب أن يكونوا قدوة لغيرهم بسلوكهم، ولهم أن يتزوجوا وأن ينجبوا وعليهم أن يمتنعوا عن الصيد والمقامرة واللهو وضروب التسلية الزمنية، ولتنظيم سلوك الجماهير، أقيم نظام يعتمد على الزيارات المنـزلية وقيام رؤساء القساوسة بجولات تفتيشية سنوية لتقصي أخلاق السكان.
ونصت النظم السلوكية والأخلاقية لـ (كالفن) على تحريم المقامرة ولعب الورق والتجديف والسكر والتردد على الحانات.
أما الفائدة فقد حددها (كالفن) نظرياً وسمح بتقاضيها على القروض بنسبة 5% في الوقت الذي حث فيه على منح قروض بلا فائدة إلى الأفراد المعوزين أو الدولة. بينما حدد مجمع الكرادلة أسعار الطعام والملابس وأجور العمليات الجراحية ومعاقبة الغشّاشين من التجار والبائعين. في مقابل ذلك ينادي (كالفن) باشتراكية الدولة،المتمثلة في تعميم الملكية
(1)-Robinson, J. H., Reading in European History, Vol. II, P.134.
(2)-Vide, Ibid., P.134.
الجماعية، وفي تأسيس الجماعة الموقّرة – المجلس الصغير – مصرفاً . وإدارتها لبعض الصناعات، وفيما بعد سمح بتقاضي فائدة قدرها 10% وأوصى بمنح قروض للدولة، لتمويل صناعة خاصة كصناعة النسيج وإنتاج الحرير، وقد اهتم مذهب (كالفن) بالطبقة الوسطى ونما بنموها، كما أثرت المفاهيم الاقتصادية الكالفانية على توسع المذهب البروتستانتي في المدن التجارية مثل (أنتورب، أمسردام، ولندن) .
الموقف من الفردية والنهضة:
من أبرز المبادئ التي يقوم عليها نظام (كالفن) اللاهوتي محاربته المطلقة لحرية الرأي الفردي في الدين وأمور العقيدة ،ومادته المرجعية في محاكمة كل من يتهم بالهرطقة أو التجديف هي العهد القديم – التوراة- وليس العهد الجديد-الإنجيل- .. ذلك أنّ أحكام التوراة تجيز استخدام أشد أنواع العقوبات قسوة بما فيها القتل، بينما أحكام الإنجيل تنطلق من روح الإنجيل ذاته بوصفه رسالة سلام ومحبة تنهى عن القتل أو أذى الإنسان لأخيه الإنسان.
لقد رفض (كالفن) المبدأ الذي يقول بأن رسالة الإنجيل قد نسخت رسالة التوراة في التعامل مع الأحكام المتعلقة بالإنسان، وعليه فقد أعلن رفضه اللجوء إلى الوسيلة البولْسية (نسبة إلى القديس بولس) التي تعلن أن القانون الجديد يحل محل القانون القديم( ). لذلك فإنه استشهد في بيانه المتعلق بالدفاع عن أخطاء (ميكائيل سرفيتوس) الفظيعة
ـ من وجهة نظره ـ بسنن سفر التثنية القاسية [13 : 5 ـ15] و [17 : 2 ـ5] وسفر اللاويين أو الأحبار [24: 16 ] وناقش بها ببلاغة ملتهبة
حقاً ( ) وعليه فسلب الإنسان حريته في العقيدة هو أمرٌ مُسَلّمٌ به في عقيدة (كالفن) بينما الأمر مختلف تماماً عند مصلحين آخرين مثل (لوثر) و (زونجلي) فـ (لوثر) دافع ـ كما رأينا ـ دفاعاً قوياً عن حرية الفرد في العقيدة إذ نصّب من كل فرد كاهناً لنفسه بمنحه الحق من تفسير نصوص الكتاب المقدس حسب ما يراه مناسباً، ورفض إحراق الذين يُتهمون بالهرطقة، انطلاقاً من روح الإنجيل الذي ينبذ العنف وسفك الدماء ويدعو الناس أن يحسنوا إلى مبغضيهم ويباركوا لاعنيهم ويصلوا لأجل الذين يسيئون إليهم ( ) وهذا اختلاف ظاهر بين البروتستانتية اللوثرية التي جعلت من الإنجيل مرجعاً أعلى في العقيدة والسلوك، والبروتستانتية الكالفانية التي جعلت من التوراة مرجعاً مساوياً للإنجيل وأزالت الفوارق بينهما، فيما يتعلق بالتعامل مع النصوص واستنباط الأحكام وسن التشريعات والقوانين الدينية على المواطنين، وهذا هو بالضبط ما يحمله القول بتهويد البروتستانت للمسيحية، من معنى ، بينما يتبنى (زونجلي) موقفاً أكثر وضوحاً يقربه من (لوثر) ويبعده عن (كالفن). فيعلن بجلاء أن السلطة الوحيدة في حياة الإنسان يجب أن تكون للإنجيل وحده بقوله: “إن الإنجيل هو دستور الإيمان الوحيد” ( ) وعليه فإنه ” ليس من الجائز اضطهاد أي شخص لأنه عبر عن آرائه الخاصة” ( ).
لقد حققت الفردية في بعدها العقدي الديني إنجازاً فذاً عند كل من (لوثر) و (زونجلي) بينما تعرضت لانتكاسة وهزيمة وعبودية شبه مطلقة عند (كالفن)الذي أمروا أتباعه بإخراج جثّة(دافيد جوريس البازيلي)لاحتجاجه على إعدام(سرفيتوس)وحرقها علناً بعد أن تم التأكد بأنه هو صاحب الاحتجاج الذي استخدم اسما مستعاراً. إنّ عمل (كالفن) بنصوص العهد القديم، جعله يناصب العداء لفن عصر النهضة برسومه وتماثيله وصوره إيماناً منه بأن تمثيل صور مخلوقات الله بواسطة النقش أو الرسم أو التصوير ينطوي على مخالفة صريحة لأوامر الله، القائلة: “لا تصنع لك منحوتاً ولا صورة شيء مما في
السماء من فوق ولا ممّا في الأرض من أسفل ولا ممّا في المياه من تحت الأرض” ( ). الأمر الذي يوجب إتلافها وتحريم الاشتغال بها، في حين أظهر (لوثر) و (زونجلي) نوعاً من التسامح( ) إزاء هذه المسألة، والتعامل معها على أساس أنها فنون إنسانية لا تهدد العقيدة الدينية لأنها لا تضرّ ولا تنفع، أما موقفه من الأدب فتمثل في عدم اكتراثه بنصوص الأدب التي تفسح مجالاً للتعبير عن نوازع النفس وشهواتها، وتصوير المشاهد الحسية التي تمس العفة والطهارة، وضروب العبادة المختلفة، مما يؤدي إلى صرف الإنسان عن التفرغ للعبادة والعمل الاقتصادي المنتج.
بقي أن نشير إلى موقف (كالفن) من الفردية الأخلاقية الذي يتلخص في فرضه نظاماً أخلاقياً صارماً على سلوك الفرد ابتداءً من سلوكه داخل المنـزل وانتهاءً بسلوكه في المجتمع مجيزاً إنزال العقوبة على من لا يروق سلوكه الأخلاقي له وللمجتمع وللجماعة المبجّلة، وفي مقابل ذلك كان كل من (لوثر) و (زونجلي) يميل إلى التركيز على البعد التقوي الداخلي للإنسان بمعونة الإنسان ذاته، فقد أجاز (لوثر) بعض ضروب التسلية والترفيه عن الإنسان كما أن (زونجلي) نفسه لهى في فترة (شبابه) من خلال علاقات ربطته ببعض نساء مترخّصات قبل زواجه.
أما موقف (كالفن) من الفردية الاقتصادية فيتمثل في فرضه نظاماً اقتصادياً صارماً على الأفراد يحدد فيه عدد ساعات النوم، والتفرغ معظم الوقت إلى العمل بدعوى أنه عبادة، وتحديد وجبات الطعام التي يتعين على الفرد تناولها ومقاومة البذخ والإسراف والدعوة إلى استثمار الثروة وتقاضي الفائدة على المبالغ المقترضة وتحديد نسبتها تحديداً معلناً، الأمر الذي أضفى على العمل قيماً من القداسة، فكان له أثر هام في جمع الثروة وتكوين رؤوس الأموال وإقامة المشاريع الاستثمارية في مختلف الميادين الاقتصادية، وعليه فإنه يتعين على الإنسان أن يمجد قيم العبادة والعمل، باعتبارها أسمى القيم وأجدرها في حياته، أما (لوثر) فقد كان له موقف مختلف من هذه المسألة، فقد نهى عن تقاضي الفائدة على القروض، ولم يبح الاستغلال والغش والاحتكار، إلى جانب ذلك كله دعى إلى الاهتمام بالعمل والعبادة والالتفات إلى أمور الحياة الشخصية وما يتصل بها من نيل المتعة وتحقيق نوع من التوازن بين احتياجات الإنسان الضرورية وطبيعة الإنسان من جهة، ومتطلبات الإيمان المسيحي القائم على المحبة وقيم الخير والجمال والقانون المدني الذي يكفل الحقوق المختلفة للأفراد من جهة ثانية.
الخاتمة:
يتبين مما تقدم أنّ ولادة حركة الإصلاح الديني البروتستانتي بزعامة (لوثر) و (كالفن) مروراً بـ (زونجلي) شكّلت منعطفاً تاريخياً هاماً في حياة أوروبا الناهضة فقد أفلحت في تعميم فكر الإصلاح على عدد من البلاد الأوروبية، ووضع أسس الانفصال عن الإمبراطورية الرومانية وكنيستها البابوية ،وإنشاء كنائس وطنية إنجيلية في معظم البلاد الأوروبية.
لقد كشفت حركة الإصلاح الديني البروتستانتي في جانب من جوانبها عن الضعف المتزايد للكنيسة الكاثوليكية والبابا، كما جسّدت في جوانب أخرى، ولادة الروح القومية الناهضة في عديد من الأقاليم الأوروبية، وعلى رأسها ألمانيا، إنجلترا، سويسرا، بوهيميا، فضلاً عن كونها حركة دينية تدعو ـ فيما تزعم ـ إلى التمرّد والخروج على التعاليم الدخيلة على الدين المسيحي ونبذها، مقابل إعلانها التمسك بالكتاب المقدس بدلاً من الكنيسة، ولقد كانت ولادة حركة الإصلاح الديني في القرن السادس عشر حصيلة عدّة عوامل دينية وسياسية واقتصادية واجتماعية وأخلاقية وفكرية وفنيّة، ولم تكن ولادة هذه الحركة ولادة سهلة، يشهد على ذلك ضخامة الاضطرابات والتمرّدات التي سقط فيها آلاف من الفلاحين الثائرين والمصلحين الدينيين أمام أعداء الإصلاح ورموز النظام الإمبراطوري والبابوي في روما، إذ حدثت حرب لا هوادة فيها بين عقيدتين مختلفتين العقيدة الكاثوليكية والعقيدة البروتستانتية الوليدة ،آخذين بعين الاعتبار الفوارق المذهبية في العقيدة البروتستانتية تبعاً للفهم الخاص لكل مصلح ديني، الأمر الذي نجم عنه وجود عدة مذاهب بروتستانتية أكسبتها ألواناً مختلفة مردّها حرية الاجتهاد والتفسير.وانعكاس ذلك على مفهوم الإنسان لدى كل مصلح من المصلحين البروتستانت.
إن ولادة حركة الإصلاح الديني البروتستانتي لم تكن حدثاً عابراً في التاريخ الأوروبي إنما كانت حدثاً تاريخياً بالمعنى الدّقيق للكلمة، إذ أن آثارها المعاصرة في عالم اليوم هي أقوى منها في أي وقت مضى، يشهد على ذلك انتساب قطاعات كبيرة من سادة النظام العالمي الجديد إلى الكنائس البروتستانتية المختلفة.
فالمسيحية الأكثر تأثيراً في عالم اليوم هي المسيحية البروتستانتية على العكس مما كان عليه الحال في القرون الوسطى ـ أعني المسيحية الكاثوليكية ـ على الرغم من أن بابا روما لا يزال يحتفظ بمكانة، دينية وأدبية على قطاعات واسعة، من جمهور المؤمنين والكاثوليك في شتى أصقاع العالم.