لم يكن علم النحو قبل سيبويه علماً ذا ابواب وفصول وقواعد، وإنما كان عبارة عن مسائل متفرقة ومواد متناثرة ، ولاتجمعها قاعدة ولاتنضوي تحت باب غاية مافي الامر ان تكون المسائل النحوية ممتزجة بغيرها من مسائل اللغة والادب بحيث كانت علوم اللغة بمجملها مسخّرة لخدمة القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة فاستطاع سيبويه أن يجمع القواعد النحوية ويرتبها ويخصص لها ابوابا وعناوين يجمع فيها كل مسألة الى نظائرها فأعتبر بذلك كتابه أول كتاب في تاريخ النحو العربي ، وهو ماجعل علماء اللغة يطلقون عليه ( معجزة النحو ) ، لكونه لم يستطع أحدٌ أن يأتي بمثله واشتهر هذا الكتاب بـ ( قرآن النحو ) لأنه حجة العربية ودستورها . ولذا خصصنا هذه المقالة لتناول هذا الكتاب تسليط الضوء عليه .
عرف كتاب سيبويه من قديم الدهر الى يومنا هذا باسم الكتاب أو كتاب سيبويه ، ومن المقطوع به تاريخياً أن سيبويه لم يسمه باسم معين في حين كان العلماء المعاصرون له يضعون لكتبهم أسماء معينة ، وقد يكون ان سيبويه لم يمهله الموت ليختار عنوانا لكتابه لانه مات شاباً ، ولم يتمكن من معاودة النظر فيه ، فليست للكتاب مقدمة وليست له خاتمة مع جلالة قدره وإحكام بناءه .
قال السيرافي في كتابه اخبار النحويين البصريين ( كان كتاب سيبويه لشهرته وفضله علماً عند النحويين ، فكان يقال بالبصرة : قرأ فلان الكتاب ، فيعلم أنه كتاب سيبويه وقرأ نصف الكتاب ، ولا شك انه كتاب سيبويه ) .
ولقد سماه الناس قديماً ( قرآن النحو ) ومن طريف مايروى ان أحد نحاة الاندلس ، وهو عبد الله بن محمد عيسى ( كان يختم كتاب سيبويه في كل خمسة عشر يوماً ) كأنما يتلوه تلاوة القرآن .
وقد شغل الكتاب منذ ظهوره في القرن الثالث الى القرن التاسع مجموعة كبيرة من العلماء تفرغوا لخدمته فمنهم من شرحه شرحاً مفصلاً ، ومنهم من علق عليه ومنهم من ركز جهوده على شرح شواهده ومنهم من اختصره ومنهم من ألف في الاعتراض عليه ومنهم ألف في الرد على تلك الاعتراضات .
ومن أشهر وأقدم شراح الكتاب هو الاخفش الاوسط تلميذ سيبويه والمازني والجرمي والسيرافي والأعلم والرماني وابن السراج والزمخشري وغيرهم الكثير من العلماء والنحووين على مر العصور .
كان همّ سيبويه الاكبر هو ان يقوم بوضع أسس وضوابط وآليات لحفظ اللغة العربية فكان يجمع تراكيب لغة العرب ، ويستقرئ أساليبها تركيباً وتحليلاً وتأويلاً ويقدر المحذوف ويقارن لهجات العرب ، ويستخلص أفصحها واقربها الى للغة قريش ، متكئاً في خياراته وتصويباته على الذوق السليم متلمساً العلل مستشهداً بالقراءات القرآنية وأشعار العرب واقوالهم فجاء كتابه موسوعة فريدة للغة العرب ، بلغ بعض العلماء في حد الإعجاب به ان وصفه قرآن النحو ومعجزته الخالدة .
كتاب سيبويه هو موسوعة فريدة جمعت حصيلة جهود النحاة خلال قرن من الزمن من أبي الاسود الدؤلي الى الخليل ومن أقوال العلماء فيه :
قال السيرافي في كتابه أخبار النحويين البصريين ( كتاب لم يسبقه الى مثله احد قبله ولم يلحق به من بعده .
وقال ابو عثمان المازني : من أراد أن يعمل كتاباً كبيراً في النحو بعد كتاب سيبويه فليستحي .
وقال ابو الطيب اللغوي عن سيبويه هو أعلم الناس بالنحو بعد الخليل والف كتابه الذي سماه الناس ( قرآن النحو ) وعقد ابوابه بلفظه ولفظ الخليل .
وقال محمد بن يزيد المبرد لم يعمل كتاب في علم من العلوم مثل كتاب سيبويه وذلك ان الكتب المصنفة في العلوم مضطرة الى غيرها وكتاب سيبويه لايحتاج من فهمه الى غيره .
وقال صاعد بن احمد الجياني الاندلسي لا أعرف كتاباً ألف في علم من العلوم قديما وحديثا فاشتمل على جميع ذلك العلم واحاط بأجزاء ذلك الفن غير ثلاثة كتب والثالث كتاب سيبويه النحوي فان كل واحد من هذه لم يشذ عنه من أصول فنه شئ الا ما لا خطر له .
وقد بلغ بالجرمي اعجابه بالكتاب ان قال انه ظل ثلاثين سنة يفتي الناس في الفقه من كتاب سيبويه .
ومنذ ان ظهر الكتاب اصبح لتميزه من ناحية وموسوعيته من ناحية ثانية ولكونه اول كتاب ظهر في النحو محل عناية واهتمام من طرف النحاة واشتغلوا به طيلة قرون من الزمن .
و لا شك أن المسائل البلاغية التى طرقها سيبويه فى كتابه تشكل كثيرا من أبواب البلاغة، و لذلك فان كثيرا من العلماء الذين يعتد بهم فى تاريخ البلاغة قد اغترف من هذا البحر الزاخر دون أن ينضب له معين، و منهم من يعترف بأنه استقى من كتاب سيبويه بعض مسائله البلاغية كعبد القاهر الجرجاني، و منهم من يغفل ذلك اغفالاً تاما كابن المعتز و أبى هلال العسكري، و غير ذلك مما لاينكر أثره و من ثم فان لسيبويه في البلاغة جهدا مشكورا، و بلاء موفورا حيث ألقى بذورا طيبة في أرض خصبة نمت و ترعرعت بمرور الزمان على أيدى العلماء حتى بلغت تمام النضج على يدى عبد القاهر الجرجانى .
لا شك أن بلاد فارس بأدبائها وشعرائها ولغوييها وبلاغييها ساهمت بقسط وافر فـي الأدب كمّاً وكيفاً، وبدأت هذه المساهمة الجادّة منذ القرن الإسلامي الأول، وتوالت عبر القرون، وكانت تدفع بأكثر أدبائها حتى القرن الرابع إلى حواضر العالم الإسلامي الهامة كالكوفة والبصرة وبغداد، ولذلك دُرس هؤلاء الأدباء ضمن دراسة الأدب العربي فـي العراق، غير أن بعض هؤلاء الأدباء ظلّوا فـي ولاياتهم الفارسية الجديدة التي نمت بعد دخول البويهيين بغداد، وهؤلاء الأدباء والشعراء غالباً ما آهملتهم الدراسات الأدبية وكتب تاريخ الأدب العربي، ولم يتصد أحد لجمع دواوين الكثير منهم. السبب فـي ذلك أن الباحثين والمؤلفـين العرب اهتموا بدراسة تاريخ الأدب فـي أصقاعهم، ولم يعر أغلبهم اهتماماً بأدباء نيشابور والري وجرجان وخوارزم وهراة وغزنة وغيرها من حواضر بلاد فارس .
ومن هؤلاء العلماء الذين قدمتهم بلاد فارس وكان له الاثر الكبير في علم النحو وتطويره هو ابو البشر عمرو بن عثمان بن قنبر الذي يلقب بـ ( سيبويه ) والذي وافاه الاجل على ارجح الأقوال عام 180 هجرية .