منذ ان نشأة الجغرافية بجابنها الاكاديمي – العلمي على يد العلماء الالمان ” كارل ريتر وفون هامبلوت ” في نهاية القرن التاسع عشر , ومختصوا هذا الفرع من العلوم يعانون تحديات اثبات الذات مابين التخصصات الاكاديمية الاخرى . وتاتي حتمية مثل هذا التحدي في ظل التطورات التي تشهدها الحياة بشكل عام بين فترة واخرى , وهو ماقاد واحداً من كبار الجغرافيين في العالم ” السير هالفورد ماكندر ” الى التاكيد بان لكل قرن جيوبولتيكيته , اي ان لكل فترة زمنية تحدياتها التي تفرض على الجغرافي تطوير ذاته واثبات جدوى تخصصه في ظل مايطرأ على العالم من تطورات تجعل منها السمة البارزة التي تصف بها الفترات الزمنية التي يمر بها هذا العالم . الامر الذي جعل الجمعيات الجغرافية والمؤتمرات الاكاديمية التي يعقدها الجغرافيون , تتناول بالبحث والتحليل مثل هذه التحديات , وهي الخطوة التي اقدم عليها الجغرافيون بجرأة منذ اول مؤتمر علمي يعقد لهم في بلجيكا في العام 1817م . الا ان ذلك لا يعني بالمطلق التوصل الى اجابات كافية عن كثير من الاسئلة التي تدور في خُلد الجغرافين وغيرهم , ناهيك عن حجم الانتقادات الهائلة التي لازالت توجه الى الجغرافيين بمناسبة وبغير مناسبة , والسبب في ذلك يعود الى عدم التوغل من جهة في اعماق مشكلات المجتمع والى عدم مواكبة التطورات المعاصرة التي لابد وان تتجدد معها روح الجغرافية كعلم تطبيقي من جهة اخرى .
لقد شهدت الجغرافيا في مسار النقد الموجه لها العديد من الانعطافات التي كانت بمجملها تصب في زاوية التقليل من شانها وشان المختصين بها في مواكبة التطورات المعاصرة في العالم . وهو مايعود بنا الى السجال الشهير الذي دار بين دوركايم وفيدال دي لابلاش حيث نوجز بعض من رؤى دوركايم في هذا الصدد من خلال مقولته التي اكد فيها ” ان الجغرافيا لا يمكن لها ان تكون علماً انسانياً او اجتماعياً , وتناولها للشؤون الاجتماعية ماهو الا تطفلاً على علم الاجتماع ” , وهو ماجعل من البعض يستمر في التشكيك بجدوى الجغرافيا من خلال التاكيد على انها تخصص متطفل على غيره من التخصصات ينتظر ماتجود به العلوم المختلفة دون ان يتمكن من ان يصل الى انتاج البحوث العلمية الخلاقة – الاصيلة . وهو مادفع بالجغرافي البارز ” جمال حمدان ” الى التحذير من هذه القضية بالقول ” حتى تثبت الجغرافيا نفسها وتؤمن حضورها لا يجوز ان تكون علم من كل بستان زهرة , ولايجوز ان يكون الجغرافي حاشد محتطب بليل ” . مما يعني بان الجغرافي ملزم في عمله بتحقيق نوع من التجديد والابتكار الذي يتيح من خلاله تحقيق الاضافة الى العلوم الاخرى ويجبر مختصيها على الاخذ مما ينتجه الجغرافي من ابحاث ورؤى تجدد هذا العلم وتطور فكر المشتغلين فيه .
بالمقابل ساهمت الدراسات التي اشترك بها الجغرافيون في نقاش الجوانب الطبيعية كالجيولوجيا والجيومورفولوجيا والمُناخ , في الدعوة الى الغاء الجغرافيا والحاقها بالاختصاصات العلمية مثل اقسام الجيولوجيا والانواء الجوية . وهو ماجعل البعض يتسائل هل الجغرافية ضمن العلوم الانسانية ام العلمية ؟ . وهو ايضا ما رافقه الدعوة ” حتى من قبل بعض الجغرافيين ” الى تغيير اسم هذا العلم تارة الى الكورولوجيا واخرى الى علم الارض او المكان وغيرها من التسميات , التي اريد لها ان تقلل من مكانة هذا العلم .
لقد وقع الجغرافيون انفسهم في شرك اخطاء كثيرة لابد من الاعتراف بها , فتلك الاخطاء اسهمت بشكل سلبي في عدم مواكبة التطورات التي شهدها العالم وفي تشتيت مكانة هذا العلم وضياع هويته . وهي مشكلات تقع في صميم منهج الجغرافية وتعريفها الذي لم يتم الاتفاق عليه بعد حتى بين الجغرافيين انفسهم . هذا ناهيك عن مشكلات استخدام الجانب الكمي والتقني , التي بدات تطغى على البحث الجغرافي . وهي مشكلة عانى منها الجغرافيون في اوربا بشكل خاص خلال الستينيات من القرن الماضي , في حين نعاني منها اليوم بحدة في جامعات العالم العربي , بفعل طغيان الجانب الكمي والتقني ممثلا بشكل خاص باستخدام تقنية نظم المعلومات الجغرافية وكأنها غاية الجغرافي واساس عمله , حتى بات البعض يتفنن باستخدام عناوين يقحم فيها عبارة لGIS ويتصور البعض انها موضوع جغرافي , دون ان يدركوا بانها تقنية يستخدمها الجغرافي وغيره , ليبقى امام الجغرافي ” في العالم العربي خصوصاً ” تحدٍ جوهري في كيفية استخدام المنهج الجغرافي والتقنية بما يخدم التحليل المكاني – الجغرافي وبما لايضيع هدف الجغرافيا ومغزاها وبالشكل الذي يطوع التقنية في خدمة الجغرافيا وليس العكس .
لقد نادى البعض , في ظل التطورات التي يشهدها العالم وبالتالي مشكلاته , الى ضرورة تجديد الفكر الجغرافي واضفاء قيم هذا التجديد في الابحاث التي يكتبها الجغرافيون , كي يضيفوا من خلالها بصماتهم المميزة في مجال البحث العلمي , وبما يضمن الاحتفاظ بهويتهم . لذا وجدنا من بين هذه الدعوات من يؤكد ضرورة التحول عن الجغرافيا الكلاسيكية نحو جغرافيا معاصرة تطبيقية تتماشى مع التغيرات العديدة التي تجري من حولنا في العالم , فالجغرافي باحث بارع عندما يتعلق الامر بنقاش مشكلات البيئة وبالذات منها الانحباس الحراري , وهو باحث بارع عندما يتعلق الامر بتخطيط المدن ومناقشة مشكلاتها المعاصرة التي قادت واحدا من بين ابرز الجغرافين في الولايات المتحدة الامريكية ” ديفيد هارفي ” الى ابراز التجدد في علمية الجغرافية حين ناقش مشكلات المدينة في عالم مابعد الحداثة وتوصل الى مفهوم جديد اسماه ” الحق في المدينة ” , والجغرافي بارع كذلك في نقاش الاستراتيجيات العالمية وتحليل الصراعات الدولية بهدف فك عناصر الارتباط المكاني التي تقود الى الصراع , وهو بذلك انما ينشد المشاركة بعلمية مع التخصصات الاخرى في ابراز مكانة الجغرافيا في ادارة الازمات وتحقيق السلام , وهو ماقاد الجغرافي بيتر تايلور الى اصدار مؤلفه الرائع ” الجغرافيا السياسية لعالمنا المعاصر ” , والجغرافي بارع ايضا في التعاطي مع المستقبل من خلال مؤشرات الجغرافية الحالية في اي مكان يهتم بدراسته على سطح الارض .
في ظل ما تقدم فان هذا المقال يدعو الى ضرورة معرفة الانتقادات التي وجهت للجغرافيا في ظل الاخطاء التي وقع فيها الجغرافيون في تعاطيهم مع المشكلات الخاصة بميدان عملهم . فضلا عن معرفة اهم التطورات العالمية المعاصرة التي تحتم على الجغرافيين التجديد في فكرهم ومضمون علمهم وبما يتماشى واثبات قدرتهم على التعاطي مع هذه التطورات . وهو ما يجعلنا نتسائل هل بامكان الجغرافيا ان تساهم في فهم التطورات العالمية المعاصرة والرد من خلال ذلك على الانتقادات الموجهة لها ؟ . وقبل ذلك ماهي هذه التطورات التي تشكل مُدخلا للتجديد في الجغرافيا ؟ وكيف اسهم ذلك في بروز الجغرافيا التطبيقية لا كفرع علمي منفرد في الجغرافيا , وانما كمدلول جامع لكل ما يمكن للجغرافيا ان تسهم به في مجال الوصف والتوزيع والتعليل او التفسير لمثل هذه التطورات والمشكلات التي نجمت عنها في الوقت الحاضر وكيفية المساهمة مع الاخرين في ايجاد الحلول لها ؟ .
صدرت الطبعة العربية المترجمة لكتاب ( الجغرافيا السياسية لعالمنا المعاصر ) عن سلسلة عالم المعرفة , المجلس الوطني للثقافة والاداب في الكويت ضمن العدد 283 بجزئين في العام 2002 وقام بالتعريب الدكتور عبد السلام رضوان واسحق عبيد.
دياري صالح مجيد
المحور: العولمة وتطورات العالم المعاصر