تعريف الجغرافيا الاجتماعية
لما كانت الجغرافيا علما يدرس الانسان والطبيعة وعلاقاتهما ببعض ، وهما محورا جميع العلوم ، لذا بديهي ان تشترك الجغرافيا مع معظم ان لم يكن جميع العلوم في الكثير من الاهتمامات والتداخلات البحثية و التقنيات ، مما جعلها تبدو هلامية غير واضحة المعالم والحدود عند الكثيرين ، بما فيهم الجغرافيون (عن سوء فهم لها او اكثر اندفاعا نحو الجديد والابتعاد عن الفكر الجغرافي الرصين) . فالجغرافيا تتداخل اهتماماتها مع علوم الارض (الجيولوجيا) والتاريخ والاقتصاد والاجناس والاجتماع والسياسة والتخطيط و غيرها . وقد ادى هذا التداخل الواسع مع مختلف العلوم صعوبة اضافة الجغرافيا كعلم الى التخصصات العلمية الرئيسة : علوم الارض ، العلوم الانسانية ن العلوم الاجتماعية ، علوم البيئة . وتكون المشكلة اكثر حدة مع فروع الجغرافيا الحديثة التكوين (الهجينة) التي لم تتضح بعد معالمها و حدود بحثها ومجالها .وبديهي ان يكون هناك تداخل واشتراك في الاهتمامات والمجالات بين الجغرافيا الاجتماعية وعلم الاجتماع (في مختلف تخصصاته الدقيقة) وان تكون نظريات وافتراضات الفرع الجديد مشتقة من نظريات علم الاجتماع ، اضافة الى نظريات التحليل المكاني و النظريات الجغرافية الاخرى . ولما كان هذا الفرع غضا طريا لم يتبلور شكله ومضمونه بعد ، لذا فقد تباينت تعريفات رواده له واختلف جغرافيو المجتمع Social geographers حول صياغة تعريف موحد له .
تعكس التعاريف اهتمامات واضعيها و خلفياتهم العلمية وتوجهاتهم المستقبلية في البحث والتقصي . انها تمثل تصور كل منهم لمضمون الفرع الجديد ومجاله والمرحلة الزمنية التي كتب بها التعريف . فواتسن يعرف الجغرافيا الاجتماعية بانها تحديد الاقاليم الموجودة على سطح الارض استنادا على الاشتراك في ظاهرة اجتماعية معينة (Watson 1957) . لقد ركز واتسن على الانماط المكانية ، التوزيعات الجغرافية للظواهر الاجتماعية كمعيار رئيس لتحديد الاقاليم الجغرافية . فهي الخطوة الاولى لرسم حدود مناطق المشاكل ، التي تعتمد في التحليل المكاني والمفسرة للانماط وتبايناتها مكانيا وزمنيا لاحقا . وعرفها باهل بانها تدرس الانماط والمعالجات (العمليات) التي تساعد في فهم السكان المعرفين اجتماعيا في مواقعهم المكانية (Pahl 1965) . لقد أخذ باهل منحى علم الاجتماع حيث اعتمد الموقع المكاني كجزء من هيكل التحليل وليس محورا اساسيا له ، وهذه هي نقطة الاختلاف بينه و واتسن . فالهدف عند باهل هو فهم واستيعاب المجاميع الاجتماعية مكانيا . اما بوتيمر فقد نظرت للجغرافيا الاجتماعية كدراسة للانماط المكانية والعلاقات الوظيفية للمجاميع الاجتماعية ضمن بيئاتها المحلية ، ودراسة التركيب الداخلي والخارجي للعلاقات في مواقع تشكل عقدا Nodes للنشاطات الاجتماعية وايضاح مختلف قنوات الاتصالات الاجتماعية (Buttimer 1968) . في هذا التعريف ركز على الاقليم الوظيفي والعلاقات الوظيفية ، كما تم الاهتمام بالمجاميع الاجتماعية كمحور للتصنيف الاقليمي . يوجه هذا التعريف الانتباه الى ضرورة تحديد معنى البيئة الاجتماعية (اقاليم الامان مثلا) بالنسبة للمجاميع الاجتماعية المختلفة .
ويرى ايليز الجغرافيا الاجتماعية كتحليل للانماط والمعالجات الاجتماعية الناجمة عن توزيع الموارد النادرة وتباين امكانات الوصول اليها والحصول عليها (Eyles 1974) . لقد ربط بين العامل الاقتصادي والتنظيم الاداري لاستثمار الموارد ، وفسر التباينات الاجتماعية على ضوء ذلك . بالمقابل ، يعتقد جونز بان الجغرافيا الاجتماعية هي فهم للانماط الناجمة عن استخدام المجاميع الاجتماعية للحيز (الفضاء ، المجال Space) كما يروه ، واستيعاب للمعالجات التي شكلت هذه الانماط وتعمل على تغييرها (Jones 1975) .تركيز جونز منصب على الادراك الذاتي للحيز والتعامل معه استنادا على ذلك . الاختلاف الاخر بين الاخيرين مرده الى ان جونز قد ركز على المجموعات الاجتماعية وادراكها واستثمارها للحيز الذي تعيش فيه وتنشط ، بينما اهتم ايليز بالمعالجات الاجتماعية – المكانية الناتجة عن ندرة الموارد وسوء توزيعها (السلع والخدمات والمنافع العامة والتسهيلات الضرورية للحياة) . يرفض واتسن ان تكون الجغرافيا علما للتوزيعات وذلك لانها ستفقد قيمتها كعلم ، لذلك ليست الجغرافيا الاجتماعية في نظره مجرد اطار مكاني لعلم الاجتماع . فهي ليست دراسة منهجية للمجتمع ونسبته الى البيئة ، انها تحليل للاسباب في الاختلاف الاجتماعي ، وعلاقاتها بالعوامل الجغرافية الاخرى . بهذا المعنى ، لا تهمل الجغرافيا الاجتماعية المعالجات الاجتماعية ولكنها لا تكون موضوعها الرئيس او محورها الاساسي . فالجغرافيا الاجتماعية تدرس المجتمع في الاقليم وتمزج بين الوظيفة و الشكل الاجتماعي لتؤشر حدود الاقليم الوظيفي . بعبارة ادق ، التعرف على الاقاليم المختلفة على سطح الارض تبعا لمجموعة مترابطة من الظواهر الاجتماعية التي تنسب الى البيئات المحلية . وتمثل عملية التعرف هذه هدفا و وسيلة في الوقت نفسه . هدفا في المرحلة الاولى لاستكشاف المجتمع جغرافيا ودراسته ، و وسيلة في الدراسات التتبعية او لرسم ساسات اجتماعية علاجية و وقائية .
من هذا العرض الموجز لبعض التعاريف يستدل على ان الجغرافيا الاجتماعية هي امتداد جغرافي يربط المكان بمعطياته مع المشكلات الاجتماعية قصد تفسيرها في ضوء البيئة المكانية المحلية . بمعنى آخر ، تكملة النقص الحاصل عند دراسة المشكلات الاجتماعية بعيدا عن اثر المكان عليها . انها لا تكتفي بدراسة التوزيع الجغرافي للظواهر والمشكلات الاجتماعية (انماطها المكانية) ، بل تحلل علاقاتها المكانية (المعالجات) وتؤشر مساراتها زمنيا ومكانيا .