عندما نتحدث عن هذه المناسبة العظيمة يقف التاريخ إجلالا لها ويسبق حديثنا بخشوعه الجليل أمام ما تعنيه هذه المناسبة الخالدة من قيم ومعاني سامية رسمت الخطوط العريضة الحية للحياة، والتي حددت مسار البشرية نحو العدل والحق والنور والثورة على الباطل بفضل استشهاد سيد شباب أهل الجنة وريحانة الرسول الكريم إمام التقى والهدى وسفينة النجاة الإمام الحسين ابن علي عليهما أفضل الصلاة وأتم التسليم.
هذا الاستشهاد الفريد من نوعه الذي اتسم بكل معاني التضحية والفداء، ونكران الذات والشجاعة والإيثار من أجل إصلاح الأمة وصون رسالة جده المصطفى، وتغيير الانحراف والتجبر نحو الصحيح وتحدي الباطل بسلاح الحق، وسحق الظلام بروح النور، كل هذا جسده الإمام الحسين في مرحلة تاريخية حرجة مرت بها رسالة خاتم الأنبياء (ص) من اجل صونها والحفاظ على الدين الإسلامي الحنيف من الذين كانوا ينوون به سوءا وانحرافا.
هناك الكثير من الذين لا يدركون أهمية هذه الواقعة، واقعة كربلاء الخالدة التي غيرت مجرى التاريخ البشري من مظلم الى مشرق، وهؤلاء كثيرون ومن أديان ومذاهب مختلفة يتساءلون لماذا هذه الاصرار على إحياء الشعائر الحسينية بهذه الطريقة؟ وخاصة في هذه المناسبة أربعينية الإمام الحسين؟ ولماذا هذه الملايين البشرية تزحف مشيا على الأقدام نحو كربلاء المقدسة.
كربلاء التي طهر ثراها بأطهر دم عرفته الإنسانية، لأنه دم ريحانة رسول الله وابن فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين وثمرة الجنة، وابن حيدر الكرار الذي أنقذ بسيفه (ذو الفقار) الرسالة المحمدية من شر الكفار، وأقرب دليل على ذلك عندما خرج حيدرة في معركة الخندق الى عمر ابن ود العامري الذي كان يخشاه المسلمون جميعا، فقال حينها النبي الكريم (خرج الإيمان كله الى الشر كله) لان هذه المعركة حددت مصير الرسالة النبوية الشريفة.
إذن هذا الدم الزكي الذي سال على أرض كربلاء جعلها محط أنظار الزائرين وقبلة المتلهفين الآتين الى ضريح الإمام الحسين (ع)، هذه التساؤلات غير المنصفة والمغرضة، لأنهم يعرفون قيمة وحجم الملحمة التي شهدتها كربلاء المقدسة والتي انتهت باستشهاد الإمام الحسين (ع) وأبنائه وأصحابه وأخيه بطل العلقمي وقمر العشيرة أبا الفضل العباس (ع)، وسبي النساء لكنهم يحاولون الانتقاص منها يائسين ذلك لان أول من عني بإحيائها شيعة الإمام لأنهم عشقوه بصدق وفداء وهم من أخذوا على عاتقهم أنهم لن ينسوا ابن بنت نبيهم ورفعوا شعار (أبد والله ما ننسى حسيناه) على الرغم من حقد الحاقدين وكيد الكائدين.
وما يحصل من إحياء لشعائر الثورة الحسينية بشكل عجيب حير ودوخ وأذهل العالم أجمع، هو ليس بإرادة بشرية بل بإرادة إلهية خالصة، والدليل على ذلك في مجمل إجابتنا على تساؤلات أولئك الذين يعيبونها علينا ببساطة جدا، هي إن التاريخ البشري شهد عظماء كثر في مختلف المجالات من أنبياء وعلماء وثوار وفلاسفة ومحررين مثل غاندي والإغريقي أيوب والسيد المسيح وفيلسوف الصين الكبير والقديس بولس الذي حمل رسالة المسيح بعد أن رفعه الباري عز وجل إليه، بالاضافة الى الدعاة والمصلحين من امثال مانديلا، وكل هؤلاء العظماء أحدثوا تغييرا ملموسا في التاريخ البشري ويذكرهم التاريخ بإجلال واحترام.
ولكن لم تزحف إليهم ملايين بشرية كما في أربعينية الإمام الحسين (ع) ولم تتساقط عليهم الدموع الحارقة كما تساقطت الدموع مثل جري النار على شهيد وغريب كربلاء، ولم يستذكرهم التاريخ كما يستذكر الإمام الحسين على مدى ألف وأربعمائة عام، إذاً هي فعلا إرادة السماء التي هي نفسها بكت على مصاب أبي عبد الله الحسين، وإذا نظرنا الى واقعة كربلاء من زاوية أخرى مقارنة بشهداء كثيرين في التاريخ استشهدوا من أجل القيم السامية والكرامة والمبادئ أيضا لكن لم نجد فيهم من استشهد بالطريقة الدراماتيكية التي استشهد بها الإمام الحسين (ع).
من يستطيع يخبرنا عن واقعة شهدها التاريخ كان فيها أحد طرفي القوة المتقاتلة بعدد 72 شخصا بين رجل وطفل وامرأة وبلا عدة عسكرية، مقابل قوة يفوق عددها ثلاثين ألف مقاتل ومجهزة بكل أنواع عدة الحرب من سيوف ورماح وسهام؟، هذه هي واقعة كربلاء التي أنارت للإنسانية طريقها وكان الثمن هو استشهاد أبي الأحرار هو وجميع أفراد عائلته وسبي نسائه، وقد كتب لها الله تبارك وتعالى أن تبقى حاضرة على واجهة التاريخ مهما كثرت وتفاقمت أحداثه.
علما أن وكل أهالي كربلاء ومحبي الإمام الموالين له، الغيارى والنجباء والكرماء يتكفلوا برعاية وضيافة زوار الإمام الحسين وأخيه العباس عليهما أفضل الصلاة والسلام، وهكذا أصبحت زيارة أربعينية سيد الشهداء حدثا تاريخيا حير وأذهل العالم لما تشهده من طقوس فريدة أولها المشي على الإقدام من جميع محافظات العراق باتجاه كربلاء رغم حر وبرد ومطر الطقس وبأعداد مليونية أرهبت أعداء المذهب والإسلام على حد سواء.
وما تشهده مدينة كربلاء المقدسة من فعاليات قل نظيرها في العالم حيث يجند الكل لخدمة الزوار الوافدين وهم يتلهفون للثم شباك الإمام (ع)، وتوزيع الطعام بمختلف أنواعه مجانا والماء تحت شعار (سبيل يا عطشان، وجاي أبو علي)، الله الله ما أحلى وأجمل هذا الكرم الحسيني البهي، وما أطهر العرق الذي يسيل من جباه خدام الحسين (ع) سبط المصطفى وهم يقدمون جل الخدمات الى هذه الجموع المليونية الزائرة كل حسب قدراته، بل أكثر من قدراته، هذه هي زيارة الأربعين التي أصبحت منارا للعالم، وعلى الرغم من تقادم السنين، إلا أنها تزداد بهاء وإصرارا على البقاء لإحياء ذكرى هذه المناسبة العالمية التي أذهلت الجميع.