الهجاء عند العرب (فن-)
الهجاء عند العرب (فن ـ)
الهجاء: هو الشتم بالشعر، وقيل: الوقيعة
بالأشعار، ولذلك فهو أحد موضوعات الشعر، «يتناول فيه الشاعر بالذم والتشهير عيوبَ
خصمه المعنوية والجسمية، وهو نقيض المدح».
وقد تعددت موضوعات الشعر العربي الأساسية، فكان
منها: المدح، والفخر والحماسة، والهجاء، والغزل، والرثاء، ثم الاعتذار والوصف. وثمة
موضوعات أخرى أقل أهمية وانتشاراً في القصائد مثل: التهديد والوعيد، والاستعطاف،
والشكر والثناء وغيرها.
ويأتي الهجاء ضمن الموضوعات الأساسية في الشعر
العربي، ولعل مرد ذلك يعود إلى طبيعة الحياة العربية الأولى – ولاسيما في العصور
القديمة – التي كانت تقوم على القبلية والعصبية وما ينشأ من ذلك من صراعات
وخلافات، وإلى الكره الذي ينشأ في النفوس مع البغضاء والغضب، وإلى أمور أخرى تطلبت
أن يتناولها الشعراء من خلال معاني الهجاء في أشعارهم.
وإذا كان العربي يُسَر ويبتهج لمعاني المديح فإن
امتعاضه من الهجاء كان أكبر من ذلك، «ويبدو أن خوف العرب من الهجاء كان أظهر من
ارتياحهم للمدح، وأنهم كانوا من ألسنة الشعراء الحداد على حذر، فهم يعايشونهم
ويحاذرونهم كما يعايش سكان المناطق البركانية براكينهم المخوفة». ومن هنا كان
الهجاء أحد الأسلحة الفاعلة في الصراعات التي تنشأ بين القبائل أو الأشخاص، وكان
الناس يتخوفون منه كتخوفهم من السيوف والرماح إن لم يكن أكثر منها، وكان الجميع
يدركون أثر الهجاء في الناس، ولذلك كان الشعراء يهددون ويتوعدون بالهجاء، فالمسيب
بن علس يقول:
فلأهدينَّ مع الرياح قصيدةً
مني مغلغَلةً إلى القعقـاع
ترد المياهَ فما تزال غريبةً
في القوم بين
تَمَثُّل وسماع
وهو يريد أنه سيرسل له قصيدة هجاء تدور بين
القبائل ويتناقلونها فيما بينهم.
ويقول مالك بن فهم الأزدي:
وَكَم علمتُه نظمَ القوافي
فَلما قالَ قافيةً
هجاني
ويخاطب النابغة الذبياني عُيَينة بقوله:
ألِكْني ياعُييـنَ إليـك قولاً
سأهديه إليك إليك
عني
قوافي كالسِّلام إذا استمرت
فليس يرد مذهبَها التظني
بهنَّ أدين من يبغـي أذاتي
مداينـةَ المُداين
فليدنـي
ويرمي جرير style=’font-size:14.0pt;font-family:”Simplified Arabic”‘> خصومه من الشعراء
بقصيدة هجاءٍ أمضى من السيف:
وعاوٍ عوى من غيرِ شيء رميته
بقافيةٍ أنفاذُها
تقطـرُ الدمـا
خروجٍ بأفـواه الرواة كأنهــا
قِرى هندوانيٍّ كلما
هزّ صمما
أما ابن الرومي فهو يدرك أيضاً كغيره من
الشعراء عظيم أثر الهجاء في أعدائه:
هذا لذاك ورُبَّ قافيةٍ
قد قلتُها كالطعنة الخلس
وكذلك أبو الفضل الوليد (إلياس طعمة ت
1941) يهدد بقصائد أقوى من الجيوش:
من كلِّ قافيةٍ تَنْقَضُّ صاعقـةٌ
على الذين استحلّوا حُرمةَ
العرب
فيها خميسٌ وأسطولٌ وأسلِحةٌ
فشمِّروا يا عُـداةَ الحقّ للهَــرَب
وهذا الأثر لم يغب عن مصطفى صادق الرافعي
إذ يقول:
وإني أخشى على عرضِنا
قافيةً كالصارمِ
المرهفِ
وقد كان للهجاء في الجاهلية شعائر محددة كما
تشير الأخبار، فقد كان الشاعر «إذا أراد الهجاء لبس حلة خاصة، …وحلق رأسه وترك له
ذؤابتين، ودهن أحد شقي رأسه، وانتعل نعلاً واحدة»، وكان العرب «يتطيرون منه
ويتشاءمون، ويحاولون التخلص من أذاه ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا». وقد سميت بعض
قصائد الهجاء بأسماء خاصة بها بسبب ما تركته من أثر في المهجوين، مثل «الدامغة»
لجرير، و«مقراض الأعراض» لابن عُنين، و«الفاضحة»، وغيرها.
وفي صدر الإسلام استمر موضوع الهجاء ولاسيما بين
شعراء المشركين وشعراء الإسلام، ووجد الهجاء مكاناً خصباً له في النقائض التي كانت
بداياتها في العصر الجاهلي ، ثم ازدهرت وانتشرت في العصر الأموي ولاسيما عند أبرز
شعرائه (جرير والأخطل والفرزدق).
وقد اشتهر بكثرة الهجاء في صدر الإسلام الشاعر الحطيئة،
حتى ضج الناس منه؛ مما اضطر الخليفة عمر بن الخطاب إلى حبسه، ومن ثم دفع له مبلغاً
من المال حتى لا يهجو أحداً. ومعروف أنه لم يَسلم أحد من لسانه، حتى إنه هجا أمه،
وزوجته، ونفسه، فمما قاله في هجاء أمه:
جزاك اللهُ شراً من عجـوز
ولقّاك العقوقَ من البنينا
تنحَّي فاجلسي عني بعيـداً
أراح اللهُ منكِ العالمينـا
ألم أُظهر لك البغضاءَ مني
ولكن لا إخالك
تعلمينـا
أغربالاً إذا استودعتِ سراً
وكانوناً على المتحدثينـا
حياتُك ما علمتُ حياةُ سوء
وموتُك قد يسرُّ الصالحينا
وهجا زوجته بقوله:
أطوّفُ ما أطوّف ثم آوي
إلى بيت قعيدتُه لَكـاعِ
كما هجا نفسه بقوله:
أرى لي وجهاً شوّه اللهُ خَلقَه
فقُبِّح من وجهٍ
وقُبّح حامله
وفي العصر الأموي ازدهر موضوع الهجاء وتأجج
أواره، ولاسيما من خلال المناقضات التي انتشرت بين الشعراء لأسباب كثيرة، وكان لفن
النقائض أثر كبير في تطور فن الهجاء، وتنوع أساليبه، وقد برز عدد من شعراء النقائض
وفي مقدمتهم جَرير والفرزدق والأخطل التغلبي والراعي النُّميري والبَعِيْث وغيرهم.
ولعل أشهر قصائد النقائض في هذا العصر قصيدة
جرير في هجاء الراعي النميري التي سُميت فيما بعد (الدامغة أو الدماغة) وفيها
يقول:
فَغُضَّ الطَرفَ إِنَّكَ مِن نُمَيرٍ
فَلا كَعبـاً بَلَغتَ
وَلا كِلابـا
فَيا عَجَبي أَتوعِدُني نُمَيــرٌ
بِراعي الإِبلِ يَحتَرِشُ
الضِّبابا
وكان لجرير القدح المعلى في الهجاء من خلال
المناقضات، حتى إنه هاجى نحو ثمانين شاعراً ولما سُئل عن ذلك أجاب «يبدؤونني ولا
أعفو». ومن مشهور شعره بيت هجا فيه ثلاثة شعراء وهو قوله:
لما وضعت على الفرزدق مِيْسَمي
وصغا البعيثُ جدعتُ
أنفَ الأخطل
وفي العصر العباسي استمر موضوع الهجاء بارزاً
بين أغراض الشعر، وتطورت وسائله ووجهاته ومعانيه، فتوجه نحو الولاة والوزراء
وغيرهم، فعلي بن بسام يهجو وزير المستكفي العباس بن الحسن بقوله:
وزارةُ العباس من نحسها
تستقلعُ الدولةَ من
أُسِّها
شبهتُه لمـا أتى مقبـلاً
في حُلل يُخجل من
لبسها
جاريةً رعناءَ قـد قدّرت
ثيابَ مولاها على
نفسها
واستمر فن الهجاء على هذه الحال لدى الشعراء على
مر العصور.