لم يعرف الإنسان فناً أمتع من القراءة، متعة لا يعرفها ويقدر قيمتها إلا القرّاء أنفسهم. مَن لا يقرأ لا يعرف ماذا فاته، تماماً كالذين لم يختبروا الأمومة أو الأبوّة مهما حدثتهم عنها وحاولت أن تنقل اليهم شغفها ومشاعرها وأسرارها فإنهم لن يدركوا عمق الحالة لأنهم لم يعيشوها. هكذا هي القراءة حالة روحية وذهنية ونفسية تأخذ صاحبها الى عوالم من دهشة الاكتشاف ومتعة المعرفة التي لا تضاهيها متعة، وهي تغدو فناً خالصاً لمن يملك مفاتيحها وأسرارها ويجيد طقوسها.
ليست القراءة شرفة أو نافذة نطل منها على العالم، بل هي دخول في قلب العالم، عالم ما نقرأ. وبهذا المعنى تغدو القراءة منجماً متعددَ الوظائف، متنوع اللقيّات، بحيث يجد كل باحث فيه ما يبحث عنه. ولعل أجمل ما في القراءة أنها لا تعترف بما نعرفه من قوانين الفيزياء، ففي إمكان كتاب ما إعادتنا قروناً الى الوراء وجعلنا نعيش لسويعات ما عاشه أسلافنا واختبروه، وفي إمكان كتاب آخر أن يرمي بِنَا في أعماق المستقبل وما يمكن أن تصير إليه الحياة لاحقاً، وليس غريباً أن كثيراً مما تخيله الأدباء في الماضي صار واقعاً وحقائق ملموسة، علماً أننا لا نتحدث فقط عن قراءة الكتب الأدبية، بل عن القراءة في مختلف أوجهها واتجاهاتها.
لعل أفضل وصفة لتشجيع أنفسنا على القراءة هو ألا نقرأ بداعي الواجب بل بداعي الحُبّ، وألا نقرأ بهدف التثقف بل بهدف الاستمتاع، حينها تلقائياً، بعد فترة من القراءات المتتالية، ستكون المحصلة زاداً معرفياً لا يضاهيه أي زاد آخر. وحدها المعرفة لا تنضب بمرور الوقت ولا تجف أو تشيب وتيبس، بل على العكس تماماً، كلما تقدمنا في العمر والتجارب كلما ازداد مخزوننا المعرفي، سواء كانت روافده الكتب أو الحياة نفسها، فلا الكتاب وحده يكفي بلا الحياة وتجاربها، ولا الحياة ممكنة بلا كتاب. ليس عبثاً أن الديانات السماوية جاءت بالكتاب لا بسواه.
قراءة ما نحب تسهّل علينا التعود على القراءة، اذ ليس المطلوب أن نبدأ رحلتنا مع القراءة بكتب الفكر والفلسفة والنظريات المحتاجة تفكيكاً لشيفراتها، بل يمكننا البدء (ولا عمرَ محدداً للبدايات، البداية ممكنة كل لحظة) بما نحب وبما هو سهل علينا، قصص عاطفية أو بوليسية، سير ذاتية أو روايات تاريخية ودينية، كتب رياضية أو فنية وفق هواية كل واحد منا. ما من كتاب رديء، مهما كان فحواه. الكتاب الرديء الوحيد هو الذي لا نقرأه، و «رداءته» هنا مسؤوليتنا نحن، بمعنى أننا حرمنا أنفسنا من معرفة ما يحتويه ويتضمنه. كلُّ ما نقرأه لا يعود رديئاً حتى لو كان كذلك بالفعل، لأن الجهل بالشيء لا يتيح للمرء تجاوزه، أما المعرفة فتزودنا بالمقدرة على التمييز بين الغثّ والسمين. حين نقرأ في البداية ما نحب ونهوى يسهل علينا توطيد علاقتنا بالقراءة رويداً رويداً لنجد أنفسنا قد أصبحنا مدمني قراءة، وما أجمله من إدمان. إدمان القراءة هو الوحيد الذي لا نرجو منه شفاء.
كتبنا الأسبوع الماضي عن الكتاب وأهميته، وأشرنا عرضاً الى الحظ الجيد للأجيال الجديدة كونها قادرة على الوصول بسهولة الى الكتاب مقارنةً بما كانت الأجيال السابقة تعانيه في سبيل هذا العنوان أو ذاك، وبالفعل فإن آلاف الكتب متاحة اليوم مجاناً على شبكة النت، وحبذا لو ندرك أهمية القراءة وضرورتها لفتح كوى ضوء ونوافذ أمل في سبيل الخروج من النفق المظلم الذي لا يلوح في نهايته بصيص. إذ لو كانت أمة اقرأ تقرأ حقاً لما كنّا على ما نحن عليه الآن. مقارنة بسيطة بين نسب القراءة لدى شعوب الأرض ومثيلتها لدى العرب تكشف الحال الكارثية التي نعيشها، وتبين بعض أسباب الجهل الذي يمثل أرضاً خصبة لتيارات الإرهاب والتكفير والعنف والتطرف. بكل أسى ولوعة، تفيد الإحصاءات بأن كل 20 مواطناً عربياً يقرؤون كتاباً واحداً فقط في السنة، بينما يقرأ كل مواطن بريطاني 7 كتب، أي 140 ضعف ما يقرأه المواطن العربي، أما المواطن الأميركي، فيقرأ 11 كتاباً في السنة، أي 220 ضعف ما يقرأه المواطن العربي. ثم نسأل لماذا تقدَّموا وتخلفْنا؟ والأنكى أولئك الجهلة الذين يستخفون بالقراءة وبالكتاب ويظنون أننا نغالي في ما نذهب إليه.
ليست الأمية اليوم وقفاً على عدم إجادة القراءة والكتابة بالمعنى الحرفي أو المدرسي. الأمية أيضاً في الانصراف عن القراءة حتى لو كنّا نجيدها، اذ مثلما هناك أمية تكنولوجية يوصف بها أولئك غير القادرين على التفاعل مع مستجدات ثورة المعلوماتية، ثمة أمية ثقافية ومعرفية هي الأخطر لأنها تتيح استشراء الجهل وما يولده من مآزق لا خلاص منها بغير العلم والمعرفة.
حبذا لو تقرأ أمة اقرأ.