علي مراد العبادي
مركز الدراسات الاستراتيجية / قسم إدارة الأزمات
تموز/يوليو 2016
المتتبع لطبيعة تركيبة الدولة التركية ولا سيما بعد تولي (مصطفى كمال اتاتورك) وإعلانه للدولة العلمانية، يستنبط الدور الريادي للجيش التركي في جميع مفاصل الدولة ومدى تدخل العسكر في الحياة المدنية والسياسية. وقد شهدت تركيا انقلاباً عسكرياً عام 1960. وعقب الانقلاب الأول بـ 11 عاماً، جرى تنفيذ انقلاب عسكري ثانٍ في 12/آذار 1971 عُرف باسم “انقلاب المذكرة”، وهي مذكرة عسكرية أرسلها الجيش بدلاً من إرساله للدبابات. ثم حصل انقلاب “كنعان إيفرين” في 12 سبتمبر/أيلول عام 1980، وأعقبته حالة قمع سياسي غير مسبوقة، وهو من أشهر الانقلابات في التاريخ التركي؛ لما تبعه من قمع ودموية أشد من سابقيه. وفي الدستور الذي قدم للاستفتاء الشعبي في 7 نوفمبر/تشرين الثاني 1982، أصبح “إيفرين” رسميا الرئيس السابع للجمهورية التركية في التاسع من نوفمبر/تشرين الثاني من العام ذاته. وفي عام 1997، حدث ما سمي بـ “الانقلاب الأبيض” على حكومة “نجم الدين أربكان” أو ما عرف بـ “انقلاب ما بعد الحداثة”، وذلك بعد وصول حزب الرفاه إلى السلطة سنة 1995، فضلا عن انقلابات عدة باءت بالفشل. لذلك بعد تولي حزب العدالة والتنمية للسلطة في تركيا، عمل الحزب بكل قواه على تقليص وإبعاد نفوذ العسكر عبر عزل كبار القادة غير الموالين، وكذلك سنّ قانونا يسمح بمحاكمة العسكريين أمام المحاكم المدنية، وغيرها من القرارات التي تحد من نفوذ الجيش وتبعده عن التدخل في الشؤون السياسية. وبعد أن قبض رجب طيب أردوغان على السلطة، عزز من نفوذه وزجّ بمواليه في مفاصل الجيش ودعم حزب العدالة والتنمية وتغلغل في مرافق الدولة المختلفة. كما ودعا أردوغان إلى انتقال البلاد إلى النظام الرئاسي وتوسيع صلاحية الرئيس، وعزل مؤخراً بطريقة ذكية (زعيم حزب العدالة والتنمية داوود أوغلو من رئاسة الحزب والحكومة، ومكن ابن علي يلدريم من تولي زعامة الحزب والحكومة، وهو أكثر مولاة له)، وكذلك قوى من نفوذ الأجهزة الأمنية والمخابراتية والقوات الخاصة وعدد من قادة الجيش، وعمل على عزل العديد من القضاة.
وعلى الرغم من كل تلك الإجراءات والتشديدات، فقد حدثت محاولة انقلاب في 15/تموز الجاري بعدما قام مجموعة من الضباط والجنود بمحاصرة عدد من المؤسسات الرئيسة في العاصمة ومحافظات عدة وأعلنوا تسلم الحكم وإذاعة بيان رقم واحد عبر القناة الرسمية. إلا أن تلك المحاولة قد أجهضت بسرعة فائقة بعد ليلة كاملة من المواجهات، ولأسباب عدة من أبرزها:
1- ضعف التنسيق ما بين الانقلابيين أنفسهم، إذ تشير المصادر إلى أن قرابة الـ 3000 بين ضابط وجندي هم من أقدموا على تلك المحاولة دون التنسيق مع مجمل المؤسسة العسكرية، وهذا ما أضعف المحاولة.
2- غموض المحاولة، وعدم تصدر أو تبني قائد لها، وبقاء الأمر طي الكتمان ولا سيما في الساعات الأولى لها.
3- عدم توجه الانقلابيين مباشرةً إلى المقرات الحكومية الرئيسة كالقصر الجمهوري ومبنى الحكومة وعزل أو اعتقال الرئيس ورئيس الحكومة، وهذا يعد من أكثر أسباب فشل الانقلاب.
4- تناقض الأخبار وبقاء وسائل الإعلام المساندة للحكومة مستمرة في البث فضلاً عن مواقع التواصل الاجتماعي، وكلها عوامل ساعدت من رفع الروح المعنوية للحكومة.
5- إدارة أردوغان للأزمة بصورة حرفية وتعامله بخبرة مع الأحداث ولا سيما بعد ظهوره بتسجيل مصور يدعو أنصاره فيه للنزول إلى الشارع، وهذا ما أعطى دفعة معنوية لأنصاره في الخروج، كما أنه أوصل رسالة لكبار الضباط الموالين له بالتصدي لتلك المحاولة.
6- نزول الكثير من فئات الشعب التركي والوقوف بالضد من المحاولة بواسطة منع الآليات العسكرية من التوغل ومواجهة ذلك.
7- توحد الأحزاب التركية وحتى المعارضة منها برفض الانقلاب منذ اللحظات الأولى للمحاولة.
8- التصدي الكبير الذي أبدته الشرطة والمخابرات والقوات الخاصة في مواجهة عناصر الجيش واعتقالهم.
9- انعدام الإسناد الدولي وعدم التنسيق ما بين قادة الانقلاب وأي من الدول المؤثرة.
وعلى الرغم من الأسباب أعلاه، إلا أن البعض ذهب لاعتبار أن محاولة الانقلاب ربما تكون مدبرة من أردوغان ذاته، أو أنه قد غض النظر عنها حتى بدئها؛ لتتيح له فرصة القضاء على خصومه السياسيين وتنحية كبار الضباط غير الموالين ومحاسبة القضاة من المعرقلين لتفرده، وهذا ما حدث فعلاً. فما أن انتهت المحاولة حتى شرعت القوات باعتقال جميع المعارضين وتنحية كبار القادة العسكريين فضلا عن إعلان الحكومة نيتها سنّ قانون يجيز تنفيذ أحكام الإعدام حتى تتمكن من إعدام من اسمتهم بـ “الخونة”. أما البعض الآخر، فقد فند تلك النظرية (أي نظرية المؤامرة) وأوضح أن هناك أسابا عدة دفعت بهؤلاء لتنفيذ تلك المحاولة، ومن أبرز تلك الأسباب:
1- نية أردوغان تحويل النظام إلى رئاسي ، والقبض على السلطة على حد تعبير معارضيه (مما يعني مزيداً من التفرد).
2- انحراف مسار الدولة العلمانية وصعود الإسلام السياسي بقيادة أردوغان وزيادة نفوذ حزب العدالة والتنمية الأخواني بمختلف مؤسسات الدولة.
3- تخبط السياسة الخارجية التركية وتورطها بملفات عدة من دعم وإسناد فصائل إسلامية في كل من سوريا والعراق فضلاً عن التدخل في الشؤون الداخلية لدول عدة وخلق أزمات دولية مع روسيا ومصر والعراق وسوريا وغيرها.
4- التناقض بالتعامل مع الأزمة الكردية.
من جانب آخر، فإنه لو نجح الانقلاب وتولى العسكر السلطة لحدثت أمور عدة منها: –
1- ظهور ملفات خطيرة تتعلق بدعم تنظيم “داعش” وبعض التنظيمات المتطرفة كجبهة النصرة وما سواها.
2- قطع الدعم الخليجي للفصائل السورية التي تقاتل النظام بمختلف مسمياتها. فكما هو معروف أن تركيا هي الممر الرئيس لتدفق الأسلحة والأموال والمقاتلين.
3- إدخال تركيا بنوع من الفوضى؛ لأن أنصار حزب العدالة والتنمية متغلغلون في مختلف الأجهزة الأمنية والسياسية، وهؤلاء – في حال نجح الانقلاب – سيعملون على إرباك الأوضاع.
4- ربما كان من أكثر المستفيدين من تلك المحاولة – لو كتب لها النجاح – هي بعض الدولة الأوربية التي لا تخفي معارضتها الشديدة لسياسة أردوغان ولا سيما فيما يتعلق بسياسة الهجرة وما سواها.
أما عن الجهات المتورطة بقيادة ودعم تلك المحاولة، فهي ما زالت غير واضحة، إلا أن السلطات التركية تتهم الزعيم الديني (فتح الله غولن) بتدبير ودعم تلك المحاولة، وقد طلبت من الولايات المتحدة تسليمه، إلا أن واشنطن – إلى الآن – ترفض ذلك، بوصفه يحمل الجنسية الأمريكية، وتطالب بأدلة تثبت تورطه، كما وحذرت من أي تلميحات تشير إلى دعم الولايات المتحدة للعملية الانقلابية؛ لما قد يتركه ذلك من تأثير على العلاقات بين البلدين.
لمزيد من المعلومات حول الموضوع يرجى مراجعة الرابط التالي :