يعد بحث التفاؤل في علم النفس مجال مزدهر بالكثير من الانجازات ، إذ ظهرت العديد من الابحاث في السنين السبعة الماضية من القرن الحادي والعشرين في التفاؤل ، وذلك بسبب العدد الهائل من النتائج الايجابية التي اظهرتها العلاقات الارتباطية بالتفاؤل النفسي ، وتوصلت اهم نتائج هذه الدراسات ان التفاؤل نزعة واسعة الانتشار لدى البشر ، الذي هو تحيز ايجابي في نظرتهم للحياة وتقييم انفسهم .
وبهذا الصدد يصنف علماء النفس السكان الى متفائلين ومتشائمين ، ولكن الغالبة العظمى منهم يصنفون الى متفائلين ، وذلك في ضوء المقاييس النفسية التي تطبق عليهم ، فعلى سبيل المثال يقول Segerstrom ,2006 ان 80% من الناس يصنفون بوصفهم متفائلين في حين يقدر عالم النفس الايجابي سيلجمان Seligman ,1990 ان 60 % من الناس يتسمون بالتفاؤل بعض الشيء أي يميلون الى التفاؤل ، وبذلك يمكن القول ان التفاؤل جزء مهم من تطورنا البيولوجي من اجل البقاء على قيد الحياة ، وهذا ما اشار اليه عالم النفس Tiger ,1979 في كتابه بيولوجية الامل The Biology of Hope : ان التفاؤل احد اهم الخصائص التكيفية والحاسمة للوجود الانساني.
إن البحوث النفسية تظهر ان التفاؤل يرتبط بالعديد من النتائج الايجابية للحياة مثل زيادة متوسط العمر المتوقع ، والصحة العامة ، والصحة النفسية الجيدة ، وزيادة النجاح في الرياضة والعمل ، وشفاء معدلات العمليات القلبية ، واستراتيجيات المواجهة الفعالة عندما نواجه الشدائد النفسية.
وحتى نقيم اذا ما كانت هذه البحوث تثبت حقيقة ان التفاؤل له هذه الفضيلة الايجابية positive virtue ، فاننا نحتاج الى فهم الخلفية التاريخية historical background للموجه الاولى التي ظهرت فيها دراسة التفاؤل . ان التفاؤل من الناحية التاريخية ارتبط مع الناس البسطاء وغير الواقعيين ، وظهر في الادب اكثر مما هو في علم النفس والفلسفة ، كما في رواية كانديد للروائي فولتير Voltaire 1700 ورواية بولينا للروائي بورتر Porter’s Pollyanna) ، في حين لو راجعنا الدراسات النفسية المبكرة في علم النفس لوجدنا ان فرويد انكر وجود التفاؤل وقال ان التفاؤل (خدعة واهية ) . ورغم اشارة فرويد الاولى للتفاؤل إلا انها تغيرت بمرور الزمن ، واصبح ينظر الى التفاؤل كسمة وحالة ايجابية ، وبدأت بحوث التفاؤل تظهر الى ميدان علم النفس في ضوء التركيز على تعريف التفاؤل وكيفية تصميم ادوات مناسبة لقياسه ، مما سمح ذلك للباحثين بدراسة التفاؤل وتعرف هي المتفائلين والافعال التي يقومون بها لتدل على اتسامهم بالتفاؤل.
لقد اظهرت نتائج الدراسات ان معظم الصور الايجابية تنظر الى التفاؤل بوصفه ميزة او فضيلة سواء كان في دراسة شاير وكارفر Carver and Scheier اللذان يعرفان التفاؤل بوصفه نزعة سلوكية لدى الافراد او دراسة سيلجمان وبيترسون Seligman and Peterson اللذان يريان ان التفاؤل طريقة في تفسير الاحداث التي تقع لنا . وزاوج عالم النفس شيلي تايلور Shelley Taylor بين هذين العملين فيما بعد في ضوء كتابه الاوهام الايجابية Positive Illusions عام 1989 واشار الى ان التشوهات الايجابية للعزوات الشخصية positive distortions of personal attributes والاجادة mastery وتقييم المستقبل assessment of the future هي الاشارة الفعلية والواسعة للشعور بالصحة ، والضبط الجيد ، وبشرى التفاؤل بوصفة سمة مرغوبة وايجابية .
• نزعة التفاؤل لدى شاير وكارفر :
ابتكر تشارلز كارفر وميشيل شاير مفهوم نزعة التفاؤل لتصف نظرتهم لهذا المفهوم بوصفه توقع عام بان الاشياء الجيدة ستكون وفيرة الحدوث في المستقبل وان الاشياء السيئة ستكون نادرة الحدوث في المستقبل . ويقترحان ان التفاؤل يرتبط ويؤدي الى زيادة النتائج الايجابية في حين يرتبط التشاؤم بحدوث النتائج السيئة (Scheier and Carver 1992, Scheier, Carver and Bridges 2001) على سبيل المثال وجدت الدراسات على الراشدين في مقتبل العمر بان التفاؤل يرتبط بدرجة كبيرة بالرضا عن الحياة (Chang, Maydeu-Olivares & D’Zurilla, 1997) في حين وجد ان التشاؤم يرتبط بدرجة كبيرة مع اعراض الاكتئاب depressive symptoms Chang et al 1997)) ان سبب رؤية شاير وكارفر للتفاؤل بوصفه نزعة لدى الافراد يرجع الى ان المتفائلين يعانون من اعراض بدنية قليلة عند التعرض للشدائد ، ولديهم عادات واستراتيجيات صحية جيدة في مقاومة المثيرات السلبية في البيئة الخارجية ، حتى انهما وجدا ان اتسام الافراد المصابين بمرض سرطان الثدي بسمة التفاؤل يجعلهم يخبرون الألم بدرجة اقل من المتشائمين ، ويظهرون مجموعة كبيرة من استراتيجيات المواجهة النشطة في مقاومة المرض ، وانهم اقل احتمالا لتبني استراتيجيات التجنب او الانكار في مواجهة هذا المرض (Carver et al 1997) .
• الاسلوب التفسيري :
اشتق عالم النفس مارتن سيلجمان المشهور ببحثه عن العجز المتعلم learned helplessness في سبعينات وثمانينات القرن العشرين مفهوم الاسلوب التفسيري explanatory style ، الذي طوره من تحليلات الافراد وانماطهم المعرفية حول كيفية تفسير الاحداث التي تواجههم . وألف سيلجمان حول ذلك كتاب أسمه التفاؤل المتعلم Learned Optimism ، ومن ثم كتاب الطفل المتفائل Optimistic Child ليستبصر علاقة التفاؤل والتشاؤم ببعض الاساليب التفسيرية للاحداث الخارجية . وادعى سليجمان في كتابه السابق ان الاسلوب التفسيري المتفائل يعطل الشعور بالعجز helplessness في حين ان الاسلوب التشاؤمي يؤدي الى العجز (p. 15) ، وطور سيلجمان العزو ليدرب الناس مرة ثانية من اجل مساعدتهم على تعلم التفاؤل .
وفقا لهذا المنظور ، ان اولئك الذين يفسرون الاحداث بطريقة سلبية يرونها :
– داخلية internal : رؤية ان اسباب الاحداث تعود الى انفسهم .
– مستقرة stable : سوف تستمر بالحدوث.
– شاملة global : ان ما حدث لهم سوف يمتد الى المجالات الاخرى من الحياة.
اما الافراد المتفائلين يرون ان سبب الاحداث خارجية وغير مستقرة وخاصة في مجال معين من الحياة (Buchanan &Seligman, 1995) .
لقد اشتقت هذه النظرية من سياق العجز المتعلم ، وتعتمد بشكل كبير على فكرة ان غياب التشاؤم يؤدي الى حدوث التفاؤل ، لذا ركزت تطبيقات التفاؤل المتعلم على تقليل العجز-الاكتئاب helplessness/depression في ضوء نماذج العلاج المعرفي cognitive therapy التي طورت من قبل ارون بيك Beck والبرت اليس Ellis (Ellis and Harper, 1975) . اللذان ركزا على تطوير مجموعة من التقنيات المعرفية السلوكية التي تهدف الى تقليل التشاؤم لدى الافراد رغم انها لم تقوم في الاصل على تعليم الناس التفاؤل (Peterson, 2006 p. 122).
• شيطنة التشاؤم :
ان التشاؤم عادة عقلية ثابتة لها نتائج واسعة ووخيمة على الفرد ، كالمزاج المكتئب ، والاستسلام لاحداث الحياة الضاغطة ، وتدني نشاط الفرد ، والصحة الجسمية الضعيفة. ويذكر سيلجمان في كتابه الطفل المتفائل Optimistic Child عام 1995 شريحة من الدراسات تهدف الى الاستبصار بحقيقة ان التشاؤم له نتائج سيئة على الافراد بوصفه النهاية المتطرفة او المناقضة للتفاؤل ، وهذا ما يقودنا الى ثلاث نقاط رئيسة :
أ. يظهر ان التشاؤم ليس احادي البعد مع التفاؤل ولكن تركيب منفصل عنه ، وبهذا النحو فان ليس للتشاؤم بشكل دائم نتائج سلبية التي تتجاور مع النتائج الايجابية للتفاؤل . على سبيل المثال وجد Bromberger and Matthews ,1996 انه على الرغم من ان التشاؤم يرتبط مع اعراض الاكتئاب بدرجة كبيرة والانفعالات السلبية لدى النساء في منتصف العمر فان التشاؤم ليس متنبأ احصائيا هاما لظهور الاعراض الاكتئابية عند ضبط بعض المتغيرات النفسية والديموغرافية ، إذ اظهرت الدراسات النفسية التي اهتمت بمرضى سرطان الرئة (Schofield, Ball, Smith, Barland, O’Brien, Davis et al., 2004) ومرض فايروس نقص المناعة (Tomakowsky et al., 2001, Reed et al., 1994) عدم وجود فرق بين المرضى المتفائلين والمتشائمين على وفق نسب الشفاء لديهم بمعنى اخر لم يؤثر التفاؤل على تحسن الحالة الصحية لدى المرضى .
ب. تؤكد بعض البحوث ان التشاؤم يكون في الواقع متنبأ جيدا لبعض النتائج مقارنة بالتفاؤل ، إذ اشار Peterson and Chang الى نقطة مهمة هي ان التشاؤم يرتبط مع بعض الخصائص غير المرغوبة مقابل ذلك عدم ارتباط التفاؤل ببعض المتغيرات الايجابية ، على سبيل المثال وجد Chang ,1998 ان التشاؤم قد يكون متنبأ جيدا بتدني استعمال استراتيجيات المواجهة السلبية passive وغير الفعالة ineffective في مواجهة الضغوط النفسية في حين يكون التفاؤل متنبأ جيدا نحو عدم استعمال الافراد للاستراتيجيات المواجهة السلبية passive وغير الفعالة ineffective ولكن متنبأ غير جيد نحو استعمال المزيد من استراتيجيات المواجهة النشطة للضغوط النفسية.
ج.تشير بعض الدراسات ان على الرغم من ان التشاؤم متغير سلبي إلا ان في بعض الاوقات يكون له فائدة نفسية كبيرة لدى الافراد ، اذ وجد Norem and Cantor ,1989 ان التشاؤم في بعض الاحيان يكون اسلوب دفاعي مهم في مواجهة الاحداث الضاغطة وفق سياقات بيئية معينة ، على سبيل المثال لو نظرنا الى الاداء الاكاديمي لنجد ان التشاؤم الدفاعي (الذي هو توقع الافراد اسوء النتائج حتى لا يصابوا بخيبة الامل عندما يفشلون) يظهر في هذا السياق من خلال توقع الفرد وخوفه من تحقيق نتيجة سيئة على الرغم من تسجيله محاولات نجاح جيدة في الاوقات السابقة ، لذا فان هذا التشاؤم عبارة عن ادراك يحمي الذات ومن ثم يدافع عنها بطريقتين:
– أنه يعمل كمنطقة عازلة لحماية الذات من الاذى والصدمات اذا حقق الفرد نتائج سيئة.
– انه حافز نحو التكيف مع نتائج الاحداث الخارجية .
نتيجة لذلك نجد ان التشاؤميين الدفاعيين defensive pessimists يميلون الى الاداء الجيد مثل اداء المتفائلين الاكاديميين academic optimists ، رغم ذلك فان اداء المتشائمين الدفاعيين لا يستمر بنفس النشاط والتكيف على المدى البعيد ، اذ وجدت الدراسات التتبعية ان بعد ثلاث سنوات اصبح المتشائمين الدفاعيين اقل رضا عن حياتهم ويعانون من الاعراض النفسية المرضية اكثر من المتفائلين.
• هل يمكن تعليم التفاؤل ؟
اقترح سيلجمان في ضوء العمل على برنامج بن للمرونة Penn Resiliency Programme والبرنامج الذي لخصه في كتابه تعليم التفاؤل والطفل المتفائل الكيفية التي نجعل من خلالها الافراد يتعلمون التفاؤل . ورغم فائدة هذان البرنامجان في تعلم التفاؤل وتقليل التشاؤم إلا ان هناك نقطة اعتبار مهمة تتمثل بأن البرنامج يعتمد على تقنيات العلاج المعرفي السلوكي لعالم النفس بيك واليس للتخلص من الاكتئاب ، وان مفهوم التحصين النفسي psychological immunity الذي ابتكره سيلجمان ضد الاكتئاب مثير للمناقشة والجدل . على اية حال ان برنامج تعليم التفاؤل بوصفه برنامج يرتكز على ايقاف التشاؤم من خلال تحسين وتطوير التفاؤل لدى الافراد له مهارات خاصة ومختلفة ، فضلا عن ذلك يوجد في برنامج تعليم التفاؤل لدى الاطفال احد عشر جوابا ، ثمانية اجوبة تؤدي الى نتائج مثمرة في تعلم التفاؤل بينما ليس للثلاثة الاخرى أي تأثير في تعليم التفاؤل. وعلى العموم ، وجدت الدراسات التي استعملت برنامج تعليم التفاؤل (ومن دون اجراء اية تعديلات على هذا البرنامج) نتائج رائعة في العمل على تخفيض الاكتئاب لدى الاطفال إلا انها تمتد لسنتان فقط ، إذ ان اثر البرنامج على الاطفال يضعف في السنة الثالثة من بعد التدريب عليه (Gillham and Reivich et al, 1995)
يوضح العمل الاخير الذي قدمته Segerstrom من خلال كتابها كسر قانون مورفي Breaking Murphy’s Law (2006) العلاقة بين المتفائلين واستثماراتهم في تحديد الأهداف والمثابرة في التحصيل ، إذ تقول Segerstrom أن استراتيجيات التعلم التي تنتج الفوائد المتعلقة بالتفاؤل قابلة للتحقيق ، وتذكر الأدلة التي تبين أن الافراد المتفائلين يسعون إلى تحقيق أهدافهم بإصرار كبير، مما يؤدي إلى بناء الموارد من خلال السعي وراء الاهداف أو المواجهة الفعالة ضد الضغوط .
• الجانب المظلم من التفاؤل :
اثبتت البحوث الاخيرة ان التفاؤل له جانب مظلم ايضا ، وان هناك مخاطر يمكن ان تقع للشخصية المتفائلة ، إذ وجد Robins and John ,1997 ان اوهام تفاؤل الاداء optimistic illusions of performance ترتبط بالنرجسية narcissism والصحة النفسية mental health ، وقد تحدى هذا البحث فكرة ان التفاؤل مفتاح دائم وثابت للسعادة والحياة الناجحة ، واثبت ان التفاؤل يمكن ان يؤدي الى نتائج سيئة. أن هذه الفكرة اثبتها وانستاين(Weinstein,1989, 1984) ووانستاين وكلين Weinstein and Kliein, 1996 في دراستهما عن التفاؤل غير الواقعي ، إذ قدما دليلا يبرهن ان للتفاؤل تأثيرات ضارة على ادراك الافراد ، ويتعلق ذلك بنظرتهم المتحيزة حول استبعاد اصابتهم بالمخاطر الصحية واعتقادهم ان فرص اصابتهم بالامراض الجسمية قليل جدا ، على سبيل المثال وجد Weinstein, Lyons, Sandman, and Cuite (1998 ان اولئك الذين يقللون خطر اصابتهم بغاز الرادون radon المنبثق من ارضيات المنازل كانوا اقل احتمالا من الاخرين في كشف وجود هذا الغاز في بيوتهم ، كذلك كانوا اقل اتساما بالسلوكيات الصحية التي تهتم بتقليل المخاطر الصحية .
• الخاتمة :
إن رغم نتائج البحوث السابقة بشأن التفاؤل ، فأن الادلة ما زالت تبرهن ان التفاؤل مؤشر قوي لتحقيق النتائج الايجابية حتى عندما نضبط متغير المزاج والانفعالات والابعاد الاخرى في الشخصية . كذلك ان الدراسات ما زالت تكشف لنا ان التفاؤل له تأثيرات جيدة على الصحة النفسية للافراد والشفاء السريع من الامراض الجسمية. فضلا عن ذلك تشير البحوث المشجعة في التفاؤل انه على الرغم من ان هذه المتغير نزعة او استعداد لدى الافراد فانه يمكن تعليمه . كذلك تشير ان للتفاؤل جوانب وراثية اقل من بعض السمات الاخرى ذات النزعة البيولوجية ، وتؤكد Segerstrom في كتابها كسر قانون مورفي ان المتفائلين ليسوا سعداء واصحاء بسبب ما هم عليه (أي ما يمتلكونه من سمات واستعدادات فطرية) ولكن بسبب تصرفاتهم ونظرتهم الايجابية للحياة(p.167) . واخير ان فكرة تعلم التفاؤل كانت لها الكثير من التطبيقات والتدخلات المثيرة في علم النفس ، وقدمت فائدة كبيرة في علاج وتحسين الحالة النفسية لدى الكثير من الافراد.
سيكولوجية التفاؤل والتشاؤم الجانب المشرق والمظلم في الحياة الانسانية. أ.د فيونا بارشار. مصدر المقالة
لمزيد من المعلومات حول الموضوع يرجى مراجعة الرابط التالي :
سيكولوجية التفاؤل والتشاؤم الجانب المشرق والمظلم في الحياة الانسانية. أ.د فيونا…